مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات محكمة

السليمُ والعَقيمُ من الكلام وحاسةُ التلقّي

إذا قرأتَ كلاماً ذا بالٍ مما يَستحقُّ أن تُشدَّ إليه الرّحالُ ويُصبَرُ على شدائدِ التّقلُّبِ من حالٍ إلى حالٍ، إذا قرأتَه أو قُرئَ عليكَ تنبَّهَتْ فيكَ حاسّةُ التدبُّرِ، وتَيقَّظَت لديكَ عُروقُ التّبصُّر، وعقدْتَ العَزمِ على إعمال النظرِ تلو النظرِ حتّى لا تَفوتَك أجزاءُ الكلامِ البليغِ ومؤلِّفاتُه، وحرصتَ كلَّ الحرصِ على ربطِ البُطونِ بالظُّهورِ وردِّ الأعجازِ على االصُّدورِ.

إذا قرأتَ كلامَ الله حرصتَ كلَّ الحرصِ على رَبط كلِّ ضميرٍ بمَرجعه وتفسيرِ كلَّ مبهَمٍ وبيانِ إحالتِه إلى مَرَدِّه، وتبحثُ لكلِّ التفاصيلِ الجُزئياتِ عن مَرادِّها من الكلّيّاتِ وأنتَ بذلك تَسعى إلى بناءِ مِعمارِ الفَهم واكتشاف المعاني الظاهراتِ والخَفيّاتِ، بل تترُكُ الكلامَ وقد أعياكَ البحثُ وأنت تُحسَُ أنّك لم تُحطْ بكلِّ ما يشتملُ عليه علماً وفَهماً

ذلك كلامُ الله تعالى، ثمّ ما صحّ من حديثٍ نبويٍّ شريفٍ، ثمّ أكثرُ أشعارِ العَرَبِ الفصيحَةِ في العُصورِ الخاليةِ والطّارئةِ والحديثَةِ أيضاً.

ولكنّك إذا عرَّجْتَ على أكثرِ ما يُكتَبُ في هذا الزّمانِ من بُحوثٍ وشعر ونَثرٍ وأجناسٍ سُمّيَت بأسماءٍ كثيرةٍ أغرَقَت القارئَ في بحارِ التخصص؛ إذا مررتَ بهذه المَتاهاتِ الجديدَة أدركتَ أنّ سوقَ الكتابَة والإبداعِ قد نفقت والأقلامَ جفّت والينابيعَ نضبَت ولم يبقَ من المكتوب إلا حروفٌ شُدَّ بعضُها إلى بعضٍ قَسْراً وأُقيمَت المجالسُ وسٌلِّطَت الأضواءُ وانطَلَقَت ألسنة العَدَساتِ وخُيوطُ الأنوارِ الملوَّنَةِ وتَصديةُ الجمهورِ ومُكاؤُه لتعويضِ النقائصِ وسَترِ عُيوبِ البيانِ وصُنعِ الأبطالِ…

فذلك كلُّه سرابٌ في سَرابٍ وَفراغٌ في يَبابٍ، لا يَبقى منه في النفس شيءٌ ولا يُقدّمُ للعلمِ والإبداعِ النقيرَ ولا القطميرَ، بل يُفرضُ على الجمهورُ نمطٌ ليسَ هو النمط، ومثالٌ على غير مثالٍ، وزَبَدٌ لا يمكثُ منه في الأرضِ مِنَ النافعِ إلاّ القليلُ.

وما ذلك إلّا لأنّ الكلمةَ مسؤوليّةُ مَن يَملكُ زمامَها ويُحسنُ نظَمها على النّحو الذي يُنشئُ بها نصّاً مؤتلِفاً مَسبوكاً حسنَ الصّنعَة، يُفضي إلى خطابٍ تدخلُ في تداوُله أطرافٌ كثيرةٌ، فتصيرُ حَرَكَةُ الانسلاكِ في تَداوُل القَضايا في ظلِّ خطابٍ لغويٍّ، عيْنَ الاشتراكِ في صنع الحَدث أو تَوجيهِ مَصنوعِه. وأنتَ إذا انفتحْتَ على المُمكناتِ فإنّما تَفعلُ ذلكَ بما تَملكُه من طاقةٍ لغويّةٍ تُعربُ بالدّقّة اللازمّةِ عن طاقةٍ فكريّةٍ نافذةٍ في جسمِ الأحداث وخضمِّها، فتكونُ الأحداثُ الممكنةُ والمَخارحُ المُحتَمَلَةُ التي لم تحدثْ بعدُ عبارةً عن مَفاهيمَ في كلماتٍ، وكلّما أخذَتْ المَفاهيمُ اللُّغويّةُ حظّها من الواقعيّةِ والصّدقِ والتَّماسُك المَنطقيّ والمصلحَة العامّة، تحوّلَت من ألفاظٍ ذاتِ طابعٍ صوتيّ يحملُ في جوفِه دَوالَّ ومَدلولاتٍ إلى أحْداثٍ تَجْري في واقعِ النّاسِ وتُتداوَلُ في مَسالِك حَياتِهم وتُصنَعُ منها القراراتُ السَّديدُ التي تَقودُ رَكبَهُم أو توجّهُ مَسيرَتُهم وتتحكّمُ في طرُق عيشهِم وتنميةِ أوضاعِهم …

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق