مركز عقبة بن نافع للدراسات والأبحاث حول الصحابة والتابعينغير مصنف

أَعْلَمُ أُمَّتِي بِالحَلَالِ وَالحَرَامِ: مُعاذ بن جَبل رضي الله عنه

 

 

 

 إعداد وتقديم: ذ/ نافع الخياطي

لَمَّا قَدِمَ الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم على المدينة مهاجراً، لَزِمَهُ الفَتَى مُعاذ بن جَبَل مُلازمة الظِّلِّ لِصاحبه، فأخذ عنه القرآن، وَتَلَقَّى عليه شرائع الإسلام، حتى غَدَا مِنْ أَقْرَإِ الصَّحَابة لكتاب الله، وَأَعْلَمِهِمْ بِشَرْعِه.                          

حَدَّثَ يَزِيدُ بْنُ قُطَيْبٍ قال: دخلتُ مسجد «حِمْص» فإذا أنا بِفَتًى جَعْدِ الشَّعَر، قد اجتمع حوله الناس، فإذا تكلَّمَ كأنما يَخْرُجُ مِنْ فِيهِ نُورٌ وَلُؤْلُؤٌ، فقلتُ: مَنْ هَذَا؟!. فقالوا: مُعاذ بن جَبَل.

وروى أبو مسلم الخَوْلَانِي قال: أَتَيْتُ مَسْجِدَ «دِمَشْقَ»؛ فإذا حَلْقَةٌ فيها كُهول من أصحاب مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وإذا شابٌّ فيهم أَكْحَلُ العَيْنِ بَرَّاقُ الثَّنايا، كُلَّما اختلفوا في شيء رَدُّوهُ إلى الفتى؛ فقلت لجليسٍ لي: مَنْ هَذَا؟!، فقال: معاذ بن جبل.

وَلَا غَرْوَ فَمُعَاذٌ رُبِّيَ في مدرسةِ الرَّسُول صلوات الله وسلامه عليه منذُ نُعُومَةِ الأظفار، وَتَخَرَّجَ عَلَى يَدَيْهِ؛ فَنَهَلَ العِلْم مِنْ يَنَابِيعِهِ الغَزِيرَة، وَأَخَذَ المعْرِفَة مِنْ مَعِينِها الأصيل، فكان خَيْرَ تلميذٍ لِخَيْرِ مُعلِّمٍ.

وَحَسْبُ مُعاذ شَهَادَةً أن يقول عنه الرسول صلوات الله عليه: «أَعْلَمُ أُمَّتِي بِالحَلَالِ وَالحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ»([1]).

وَحَسْبُهُ فَضْلاً عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، أنه كان أَحَدَ النَّفَرِ السِّتَّةِ الذين جَمَعُوا القُرْآن على عَهْدِ رسول الله صلواتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عليه. ولذا كان أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، إِذَا تَحَدَّثُوا وَفِيهِم مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ نَظَرُوا إليهِ هَيْبَةً لَهُ وَتَعْظِيماً لِعِلْمِه.

وَقَدْ وَضَعَ الرَّسُول الكريم صلى الله عليه وسلم، وَصَاحِبَاهُ مِنْ بَعْدِهِ؛ هذه الطَّاقَةَ العِلْمِيَّةَ الفريدة في خدمة الإسلام والمسلمين.

فهذا هو النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام، يَرَى جُمُوعَ قُرَيْشٍ تَدْخُلُ في دين الله أفواجاً، بَعْدَ فَتْحِ مكة، وَيَشْعُرُ بحاجة المسلمين الجُدُدِ إلى مُعَلِّمٍ كبير يُعَلِّمُهُمُ الإِسْلَامَ، وَيُفَقِّهُهُم بِشَرَائِعِه، فَيَعْهَدُ بخلافته على مكة لِعَتَّابِ بْنِ أُسَيْدٍ، وَيَسْتَبْقِي معه مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ لِيُعلِّمَ الناس القرآن وَيُفَقِّهَهُمْ في دِينِ الله([2]).

العبر المستخلصة من هذه القصة:

1-  الهجرة إلى الله مع الأخيار من شيم الأبرار.

2-  التَّعَلُّم في الصِّغر كَالنَّقْشِ عَلَى الحَجَر..

3-  العِلْمُ مَشْيَخَة، وفي ذلك تتجلَّى بركة العِلم.

4- الصَّبْر والمثابرة على تحصيل العلم مَنْقَبَةٌ عظيمةٌ، وَيَرْحَمُ الله ابن مالك في ألفيته حيث يقول ناصحاً طالب العلم: (كَهُنَا امْكُثْ أَزْمُنَا).

5-  مَنْ تأنَّى أَدْرَكَ ما تمنَّى؛ لقول الشاعر المتنبِّي: (عَلَى قَدْرِ أَهْلِ العَزْمِ تَأْتِي العَزَائِمُ)([3]).

6-  مَنْ أخَذَ القرآن وَتَلَقَّى عُلُومَ الشَّرْع أَخَذَ المجْدَ مِنْ أطرافهِ، واستوجب التكريم.

7-  العُلَمَاءُ يَقْسِمُون بين جُلَسَائِهِمْ ميراث النبوَّة.

8-  الحلقات العلمية مِنْ أهمِّ وسائل انتشار العِلْم في الأمة الإسلامية.

9- وصْفُ حال معاذ بن جبل، رضي الله عنه، يَصْدُقُ عليه قول الإمام الشافعي:

وَإِنَّ صَغِيرَ القَوْمِ وَالعِلْمُ عِنْدَهُ   **   كَبِيرٌ إِذَا رُدَّتْ إِلَيْهِ المسَائِلُ([4]).

10- معاذ بن جبل خَيْرُ تلميذ لِخَيْرِ مُعلِّم. وفي أمثاله يقول الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم: «يَحْمِلُ هذا العِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ…»([5]).

11- أَعْلَى وأعظم شهادة من الرسول صلى الله عليه وسلم، لمعاذ بأنَّهُ أعلم الأمة بالحلال والحرام.

12- العلوم الربانية مثل: الكتاب والسُّنَّة، والتَّفَقُّه في الدين تُوجِبُ لصَاحبها الهيبة والتعظيم والاحترام.

13- لله دَرُّك يا رسول الله، لقد كُنْتَ تَضَعُ الرَّجُلَ المُنَاسِبَ في المكَانِ المُنَاسِب.

والحمد لله رب العالمين.    


([1]) سنن ابن ماجه، كتاب المقدمة، أبواب في فضائل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب فضائل خباب رضي الله عنه، رقم الحديث: (155)، ص: 55، سنن الترمذي، كتاب المناقب، باب مناقب معاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبي بن كعب وأبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم، رقم الحديث: (3790)، ص: 623، السنن الكبرى للبيهقي، كتاب الفرائض، باب ترجيح قول زيد بن ثابت على قول غيره من الصحابة في علم الفرائض، رقم: (11862)، ص: 210، المستدرك على الصحيحين؛ للحاكم النيسابوري، رقم: (5839)، كتاب معرفة الصحابة رضي الله تعالى عنهم، أفرض الناس زيد بن ثابت وإنه تعلم السريانية، إسناده صحيح على شرط الشيخين.

([2]) من كتاب: (صور من حياة الصحابة)؛ لمؤلفه: الدكتور عبد الرحمن رأفت باشا، ص: 495، 496، 497.

([3]) انظر ديوان المتنبي: 3/ 378.

([4]) انظر ديوان الإمام الشافعي، دعوة إلى التعلم، ص: 118.

([5]) الحديث رواهُ غير واحد من الصحابة، وأخرجه جماعة، منهم:  البيهقي في السنن الكبرى: 10/ 209، وابن عبد البر في التمهيد: 1/ 59، والخطيب البغدادي في شرف أصحاب الحديث، ص: 28، وقد تكلَّم العلماء في هذا الحديث تصحيحا وتضعيفا؛ فالإمام أحمد ذهب إلى القول بصحته. وقال العلائي: وتعدُّد طرقه يقضي بحُسنه. انظر: قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث؛ للقاسمي، ص: 48-49.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق