مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات محكمة

من خَوارم النّصّيّةِ في نَحو النّصّ

من ملامح تماسُك النص عند الجاحظ، في كتاب “الحيوان”: صحة السبك والتركيب والخُلوُّ من أود النظم والتأليف؛ ذكَر ذلك في حَديثه عن مَعرفة أبي نواس بالكلاب، قائلاً:

« وأنا كتبتُ لكَ رَجَزَه في هذا الباب، لأنّه كانَ عالِماً راويةً، وكان قد لَعِبَ بالكلاب زمانا، وعَرَفَ منها ما لا تعرفُه الأعرابُ، وذلك موجودٌ في شعره، وصفاتُ الكلاب مُستقصاةٌ في أراجيزه، هذا مع جودة الطبع وجودة السبك، والحذق بالصنعة، وإن تأمّلت شعره فضّلته، إلّا أن تعترضَ عليك فيه العصبيّةُ، أو ترى أنّ أهلَ البدو أبداً أشعرُ، وأنّ المولّدين لا يقاربونهم في شيء. فإن اعترض هذا الباب عليك فإنكَ لا تُبصر الحقّ من الباطل، مادمت مغلوبا.» (1)

جمعَ الجاحظُ في مقالته عن شعر أبي نواس في الكلاب: صحةَ السبك ومَعْناه الخلوُّ من أود النظم، ثُمّ جودة الطبع والتفوق في العلم بالشعر، وطول التجربَة في الغرض الذي يأخذ فيه [لعب بالكلاب وعرف منها]، ومن شُروط صحَّة النّظرِ في الشعرِ والكَلامِ الفَصيحِ ألا يَكونَ الناظرُ متحيزاً ذا عصبيّةٍ إلى فئةٍ، فإذا كان مِن شأنِه تَفضيلُ المَفضولِ وتَركُ الفاضلِ فَسَدَ نظرُه وفقَد حاسَّةَ التّمييزِ بين الجيّد والرّديءِ، والحقّ والباطلِ.

وألحَّ الجاحظُ على الناقد ألا يغفُلَ عن هذه العناصر جميعاً. فإذا جَفا طَبعُ الناظرِ الناقِدِ خَفِيَ عنه غرضُ الناطقِ وضلَّ عنه قَصدُه، كما قال ابنُ جنّيّ.

ثُمّ عزَّز كلامَه هذا بقاعدة عامّةٍتتعلقُ بالسّبكِ وتَلاؤُم الكَلِمِ، فلَفَتَ النظرَ إلى قُدرة الناظم على نَظم المتداوَل من المعاني وإخراجِه من العامِّ المُبتَذَل إلى الخاصِّ المُستحسَن، قائلاً: «المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجميّ والعربيّ، والبدويّ والقروي، والمدنيّ. وإنّما الشأن في إقامة الوزن، وتخيّر اللفظ، وسهولة المخرج، وكثرة الماء، وفي صحّة الطبع وجودة السّبك، فإنما الشعر صناعة، وضرب من النّسج، وجنس من التّصوير. وقد قيل للخليل بنِ أحمدَ: ما لكَ لا تقولُ الشّعرَ؟ قال: «الذي يَجيئني لا أرضاه، والذي أرضاه لا يجيئني.

فأنا أستحسن هذا الكلام، كما أستحسن جواب الأعرابيّ حين قيل له: كيفَ تَجدُكَ؟ قال: أجِدُني أجِدُ ما لا أشتهي، وأشتهي ما لا أَجِدُ» (2)

فهذه الأخيرةُ شروطٌ اشترطَ بعضَها عُلَماءُ النّصِّ المُعاصرونَ وشروطٌ لم يَتكلّموا فيها، ومنها “خوارمُ النصية“، ولكنّ الجاحظَ لم يغفُلْ عَنها. فمن خَوارمِ النّصّيّةِ التّفكّكُ والاضطرابُ والخلوُّ من شروط التماسُك والانسجام، ومن خوارمِ النّصّيّة أيضاً الانصرافُ عن المقامِ والانكفاءُ على المَقال والاكتفاءُ به في تَفسير النّصّ، ومن خَوارمِ النّصّيّةِ التّحيُّزُ والعصبيّةُ في نَقدِ الكَلامِ الفَصيحِ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

(1) الحيوان، تحقيق عبد السلام هارون: ج2، ص271

(2) نفسُه: ج3، ص67

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق