وحدة المملكة المغربية علم وعمرانفنون وعمران

جوانب من تاريخ علم التوقيت بالمغرب : غرفة المؤقتين بجامع القرويين بفاس

لاشك أن علم الفلك والمواقيت قد شكل عنصرا أساسيا في التكوين العلمي للمغاربة على مر العصور؛ ومما يشهد على هذا التاريخ العلمي المبارك –بالإضافة إلى مآثر أخرىء غرفة المؤقتين بجامع القرويين بفاس التي كانت تقوم مع دار المؤقت المجاورة لها خارج المسجد بكل ما يتعلق بشؤون المواقيت والأرصاد الفلكية…

يصف العلامة المؤرخ عبد الهادي التازي في موسوعته حول القرويين (ج 2، ص 322) ظروف بناء غرفة المؤقتين بجامع القرويين بقوله : “اقترنت إصلاحات بني مرين لجامع القرويين وصومعته بإضافة مهمة تجلت في بناء غرفة خاصة بالمؤقتين والمؤذنين عوضت القبة العليا التي أمست لا تفي بالحاجة وتعرف اليوم بالغريفة على وجه التصغير، وقد بناها بنو مرين بالجهة الجنوبية للصومعة فوق بابها مباشرة بعد أن نصعد 25 درجة، وهي مسقفة بقبة ذات أربعة جوانب من البرشلة، وقد نقشت على هذه الجوانب الآية الشريفة ” إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام”، كما كتب في بعض جهاتها على الجبس كلمات ” الملك لله والعز لله” تطل على الصحن من نافذة ذات قوسين منقوشين، يجملها تاج وسارية رخامية، وفي أسفل النافذة شباك من خشب عين حمام “..


غرفة المؤقتين بجامع القرويين بفاس

والحال، أن الغريفة تعد متحفا علميا وثائقيا شديد الأهمية، وما يثير الانتباه فيه آثار ساعة مائية فريدة التركيب تشهد على ماض علمي فلكي غاية في العظمة والإتقان..


مدخل غرفة المؤقتين بجامع القرويين

وقد سبقت الساعة المائية الباقية آثارها إلى اليوم ساعات أخرى عرف بها العلامة التازي في موسوعته، وهي ساعة ابن الحباك (سنة 685هـ)، وهو معدل شهير اقترح عليه القاضي محمد بن أبي الصبر أيوب بن كنون نصب ساعة مائية تعرف الناس أوقات الليل والنهار، سواء في الأيام المشمسة أو الغائمة لاسيما أن الساعات الشمسية والرملية لم تعد كافية، كما أن أخبار الساعة المائية للمدرسة المستنصرية ببغداد أذكت حماس مهندسي وفلكيي فاس الذين سينجحون في صناعة ساعات مائية لازالت آثار بعضها صامدة إلى اليوم..
لكن الساعة الأولى التي كانت بالغريفة هي الساعة التي تضافرت جهود عدد من المعدلين والمؤقتين على إنجازها واحتلت بذلك مكانا مهما من وصف الجزنائي في “جنى زهرة الآس”.. يتعلق الأمر ب”المنجانة” التي صنعها الشيخ المعدل أبو عبد الله محمد بن عبد الله الصنهاجي –أيام السلطان أبي سعيد عثمان المريني” وقد رسم خطوطها أبو عبد الله محمد بن الصدينة القرسطوني، بعد أن تطوع بعض المؤمنين بالإنفاق على المشروع من مالهم الخاص” (التازي، جامع القرويين، ج 2 ص 323). وبمرور الزمن أهملت صيانة الساعة التي أبدعها الصنهاجي ورسم خطوطها القرسطوني، فانبرى الشيخ القائم بأمور التوقيت والآذان محمد بن محمد ابن العربي (سنة 747هـ) لتجديد المنجانة على وجه متقن ولم يزل يجتهد إلى صدر أيام أبي عنان المريني حيث قام بنصب شبكة إسطرلاب على الواجهة الشمالية للمجن المصنوع من خشب الأرز الذي يشكل أساس ساعة الصنهاجي، وهكذا ربط محمد بن العربي بين الساعة المائية والإسطرلاب. وكان هذا الأخير يتصل بساعة الصنهاجي بلولب مركزي يربط بينه وبينها…
لم يبق اليوم من ساعة الصنهاجي بالغريفة إلا الإسطرلاب، ويعود صنع الساعة المائية الموجودة آثارها اليوم بغرفة المؤقتين إلى أبي زيد عبد الرحمن اللجائي بأمر السلطان المريني أبي سالم إبراهيم بن أبي الحسن في 21 محرم عام 763هـ.
يصف العلامة التازي هذه الساعة الموجودة اليوم بالغريفة بقوله : ” حين يدخل المرء إلى الغريفة يلاحظ عن يمينه شبه خزانة مستطيلة (مرفع باللهجة المغربية) تعلو على الأرض بنحو مترين ونصف، وعلى مستوى البصر يظهر خشب مزخرف يحمل صفا من أربعة وعشرين بويبا صغيرا، لكل منها فاصل من عود، وأمام كل باب مواضع مهيأة لطاسات (نواقيس) من البرونز، تشبه طاسات ساعة البوعنانية،وفوق كل موضع من مواضع الطاسات جعبة ملبسة بالعود، وقد رتب الجهاز بحيث يمكن للكرة أن تقع فوق الطاسة كل ساعة من الزمان، وفي أعلى المساند توجد بقايا القسم الأكبر من الجهاز الذي يساعد على دحرجة الكرات، كما يساعد على فتح الأبواب، ويخفيه عن أنظار الناس الإفريز المزخرف، وإن العنصر الرئيسي في ذلك هو قناة مستطيلة متدرجة بوضوح ودقة، وهناك قطعة من خشب الأرز تستقر في فلجة تسحب من طرف إلى الطرف الآخر بواسطة حبل ينطلق من غماز الساعة أو البكرة المتصلة بها. إن تلك القطعة تمر من القناة راجعة إلى البكرة في الطرف الآخر، ثم تعود ثانية إلى ثقالة الميزان في زاوية الغريفة، حين تأخذ هذه القطعة طريقها في القناة، تضغط عند كل باب على رافعة مستورة، لتسحب حبلا فيفتح الباب، وبترتيب سابق محكم يمكن لكرة واحدة فقط أن تمر عبر الجعبة الملاصقة، ومنها تتدحرج لتقع على الطاسة، ومن هناك أيضا تنزل من ثقب في وسط الطاسة وخلال أنبوب محجوب عن الأنظار، وعلى سطح منحدر يدفع بها نحو المستودع المخصص لها في جهاز الساعة”.. ومن الطريف الإشارة إلى أن النوافذ كانت كما كان الشأن في الساعة المائية البوعنانية تفتح بصفة آلية، واحدة تلو الأخرى، وتبقى مفتوحة ساعة من الزمن حتى يتمكن الملاحظون من معرفة أجزاء الوقت، وأدق من هذا أن نذكر أنه حين تفتح النافذة الأولى يكون معنى ذلك أن الساعة في الواحدة، فيكون انفتاح النافذة على مصراعيها علامة على بداية الساعة، وانفتاحها على الربع علامة على ربع الساعة، وعلى النصف علامة على نصف الساعة وهلم جرا…. ويؤكد الدكتور عبد الهادي التازي أنه على الرغم من هذا الوصف المكثف للساعة المائية بغرفة المؤقتين بجامع القرويين المبارك الذي توصل إليه بمساعدة الدكتو برايس فإن الساعة تحتاج إلى دراسة أعمق ونظر أمعن حتى يقف المرء على آليتها..


ساعة اللجائي المائية المرينية بغرفة المؤقتين

                     كتابة تأسيسية تشير إلى صنع الساعة المائية في عهد السلطان أبي سالم إبراهيم المريني سنة 763


       صورة تظهر فيها الساعة المائية و الأسطرلاب، كما تظهر مجموعة ساعات مجلوبة من خارج المغرب وهبت لغرفة المؤقتين


الإسطرلاب الذي كان مرتبطا بالساعة المائية التي صنعها الصنهاجي


الساعة المائية المرينية قبالة المدرسة البوعنانية

ومعلوم أن الساعة المائية التي أمر بإنشائها السلطان أبي عنان المريني قبالة المدرسة البوعنانية الشهيرة هي لاحقة على ساعة غرفة المؤقتين، وبذلك تعتبر هذه الأخيرة أقدم ساعة مائية في العالم صمدت إلى اليوم إذا علمنا أن الساعات المائية في الشرق العربي تلاشت معالمها نهائيا… وهذه مسألة تضفي قيمة علمية وتاريخية وحضارية كبرى على هذا الأثر العلمي الأصيل…
لقد قصدت من هذه المساهمة العلمية إثارة الانتباه إلى جوانب فريدة من تاريخنا العلمي والحضاري تحتاج إلى تعريف وتحليل وتثمين، وإذا علمنا أن البناء الحضاري للمغرب تشكل في علاقة جدلية بين العلم والعمران، فإن أي رقي علمي إنساني معاصر لا يمكنه أن يتحقق إلا باستيعاب التاريخ العلمي المغربي واستحضاره -عبر نصوصه وشواهده المادية- في مسيرة العلم اليوم التي يمكن أن تعود زاهرة إذا اقلعنا عن إدارة الظهر لتاريخنا العلمي العريق…

د. جمال بامي

  • رئيس مركز ابن البنا المراكشي للبحوث والدراسات في تاريخ العلوم في الحضارة الإسلامية، ومركز علم وعمران بالرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق