مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةقراءة في كتاب

لغة القرآن الكريم وبلاغته من خلال كتاب «إعراب القرآن الكريم وبيانه» لمحيي الدين الدرويش (الحلقة السادسة): سمو البيان القرآني والإعجاز العلمي في الآية 266 من سورة البقرة

 

نقف اليوم عند قوله تعالى من سورة البقرة: (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) [الآية: 266].

وننطلق مما بسطه المؤلف محيي الدين الدرويش –رحمه الله- تحت هذه الآية العظيمة التي يسمو البيان القرآني فيها إلى أعلى ذروة يتصورها العقل البشري، وجميع آي القرآن من البيان الرفيع السامي. ولكن هذه الآية وآيات كثيرة وردت وسترد في مواطنها استوفت من الناحية البيانية الغاية، وأربت على النهاية، وهي بمثابة المثل لنفقة المرائي الذي ينفق للتبجح وإعلان حب النفس، وإيهام الناس بأنه بالغ أقصى الغايات، بينما تذهب أعماله سدى(1)، وهذا المثل في غاية الحسن، ونهاية الكمال(2)، زيادة على ما فيه من الإعجاز العلمي.

تبدأُ هذه الآية باستفهام إنكاري وهو لإنكار الوقوع أي بمعنى النفي، والمعنى لَا يود أحدكم أن يكون له جنة.. إلخ، ومجيء النفي على صيغة الاستفهام على ذلك النحو، لتأكيد النفي، وبيان أن الأمر في ذاته غير معقول، بحيث لو سئل عنه أي عاقل لأجاب بنفيه؛ لأن النفي مجمع عليه من كل العقلاء(3). وتختم بدعوة إلى إعمال الفكر فيما يراد وكذلك إلى التدبر والتأمل، وذلك بعدما مَثَّل لنا حال مَنْ يَعْمَلُ خَيْرًا وَيَضُمُّ إِلَيْهِ مَا يُحْبِطُهُ فَيَجِدُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ شِدَّةِ حَاجَتِهِ إِلَيْهِ لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ بِحَالِ مَنْ لَهُ هَذِهِ الجَنَّةُ المَوْصُوفَةُ وَهُوَ مُتَّصِفٌ بِتِلْكَ الصِّفَةِ(4).

وقد بسط المؤلف –رحمه الله- القول فيها بسطا يتفق مع مراميها البعيدة، وفيما يلي ما أدركه منها، وكذلك ما استدركته عليه من خلال الرجوع إلى بعض المصادر والمراجع زيادة في البسط والإيضاح:

فن التتميم:

وقد عرفه بقوله: «وحدّه أن يأتي في الكلام كلمة أو كلام إذا طرح منه نقص معناه في ذاته أو في صفاته أو لزيادة حسنة»(5)، ومضمون هذا التعريف وجدته عند ابن حجة الحموي في (خزانة الأدب).

وإليك الصور التي اندرجت فيها:

آ- لما ذكر سبحانه الجنة لم يكتف بذكرها مجردة من كل قيد، لأن الجنة في اللغة لفظ يصدق على كل شجر متكاثف ملتف، يستر من يتفيأ بظلاله الوريفة. ومن هذا الشجر ما هو محدود النفع كالأثل والخمط وغيرهما من الأشجار التي لا تصلح إلا للحطب، ومنها ما يتضاعف نفعه فيؤكل ثمره وتستخرج منه مواد أخرى نافعة ثم يكون حطبه صالحا للوقود، فتمم ذلك النقص بقوله: «من نخيل وأعناب»، وفهم بالبداهة أن هذه الجنة تميزت بأن أشجارها من الصنف الثاني المتضاعف النفع أي أن احتراق تلك الجنة- ولو كانت تضم الأثل والخمط ونحوهما مما هو محدود النفع- يشجي صاحبها، فكيف إذا كانت من نخيل وأعناب؟ ألا يكون الأسف عليها أشد؟ والشجا باحتراقها أعظم؟.

وقد أشار المفسرون إلى هذا المعنى فقالوا في قوله تعالى: (مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ): إنما خصهما بالذكر؛ لأنهما أشرف الفواكه وأحسنها منظراً حيث تكون باقيةً على الأشجار(6)، وكذلك فهي أكرم الشجر وأكثرها منافع(7).

وذكر الطيبي أنه من باب التتميم على منوال الرحمن الرحيم، ذكر أولاً: ما هما أفضلا الجنس وأكملاه نفعاً، وأراد بهما جميع الجنس بالتغليب، ثم أردفهما بما يشتمل على الجنس ليكون كالتتمة والرديف لهما، ألا ترى كيف قال في (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ): لما قال: الرحمن تناول جلائل النعم وعظائمها، أردفه بالرحيم ليتناول ما دق منها(8).

ب- ثم تمم ذلك بذكر الأنهار الجارية للدلالة على ديمومة الخصب. إذ ما الفائدة منها إذا نضبت فيها الأمواه؟ ألا يكون مآلها إلى اليبس والذبول؟. ففي وصف تلك الجنَّة بأن الأنهار تجري من تحتها زيادةٌ في الحسن(9).

ج- ولدفع الإيهام الذي يخيل إلى السامعين أن هذه الجنة قد تكون مقتصرة على هذين الضربين من الثمرات، وهما: النخيل والأعناب تمم بقوله «له فيها من كل الثمرات»، أي أنها تجمع جميع أفانين الثمر، فالحسرة إذن على احتراقها أشد، والأسف على فنائها أعمّ. ففي هذا سبب لكمال حال هذه الجنَّة من الرؤية، والمنظر، وكثرة النَّفع، والرَّيع، ولا يمكن الزيادة على ذلك(10)، وهذا من ذكر العام بعد الخاص للتتميم، وفيها أيضا صيانة للكلام عن توهم غير الشمول(11).

د- ولما فرغ من وصف الجنة شرع في وصف الحادث المهلك الذي أدى إلى فناء الجنة بقوله: «فأصابها إعصار» يجتاح الأخضر واليابس ويهلك الحرث والنسل.

هـ- على أن الإعصار مهما يبلغ تأثيره فإنه ربما كان مؤجل الإهلاك، فدفع هذا الإيهام بقوله: «فيه نار» فأحرقها بعد أن أودى بأشجارها. ولم يكتف بذكر النار لأنها قد تأتي على شيء مما تحرقه ويبقى بعد ذلك شيء آخر منها فدفع هذا الإيهام مرة أخرى بذكر الاحتراق.

ولا شك أن هذه الكلمات التي جاءت من باب التتميم لو طرحت من الكلام لنقص معناه واختل حسن بنائه، إذ رصفت هذه الكلمات رصفا عجيبا لتؤدي المعنى المراد الذي ينقص حسنه بدونها.

الاستعارة التمثيلية:

وهي ما كان المستعار فيها تركيبا، وهي تشبيه حال بحال لم تذكر فيه أداة التشبيه ولا المشبه، بل ذكر المشبه به فقط، وقامت قرائن تدل على إرادة التشبيه(12).

فالمشبه هو من يفسد عمله بالمن والأذى والمباهاة والمفاخرة، ثم إذا نظرنا إلى هاتين الروايتين اعتبرنا المشبه هو حال الرجل يعمل الصالحات، حتى إذا دنا أجله أو كاد، عَمِل عملا غير صالح، فكانت حاله كحال رجل كل ثروته حديقة غناء فيها من كل الثمرات وكل زوج بهيج، قد توافر خيرها، حتى إذا أصابه الكبر وله ذرية ضعاف تحتاج إلى ما يترك من مال، أصابت ثروته ريح عاتية فذهبت بها، فترك ذريته من غير شيء، وهذا هو المشبه به.

وعلى هذا يكون المقصد والمرمى الاستمرار على عمل البر والمداومة عليه في هذه الدنيا(13).

قال الطيبي: جعل المشبه حال المنفق أوفق لتأليف النظم؛ لأن هذه الآية مقابلة لقوله: (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ)، وله أن يقول: دلالته عليه على سبيل الإدماج لا ينافي ذلك لكن قوله: أشبههم، ينافيه(14)، لذلك قال المؤلف –رحمه الله- في بداية الآية: «وهي بمثابة المثل لنفقة المرائي الذي ينفق للتبجح وإعلان حب النفس، وإيهام الناس بأنه بالغ أقصى الغايات، بينما تذهب أعماله سدى»(15).

وإن وجه الشبه على هذا هو أن في الحالين إبطالا لأمر جوهري في الحياة له نفاسة في ذاته، وله نفع في الحاضر والقابل، يذهبه أمر عارض مزيل لَا يبقى بعده شيئًا مفيدًا(16). وقد قيل أيضا إن الله ضرب هذا مثلا لمقابل مثل النفقة لمرضاة الله والتصديق وهو نفقة الرياء، ووجه الشبه هو حصول خيبة ويأس في وقت تمام الرجاء وإشراف الإنتاج(17).

ومن فوائد هذه الآية: بيان تثبيت المعاني المعقولة بالأمور المحسوسة؛ لأنه أقرب إلى الفهم(18)؛ وجه ذلك أن الله سبحانه وتعالى ضرب مثلاً للمانّ بالصدقة وهو معنى معقول غير مرئي، بصاحب الجنة الموصوفة في هذه الآية وهو أمر محسوس يمكن رؤيته وتلمسه ولذلك فهي أقرب إلى فهمه وأدعى لتصورها، وبذلك يتحقق الغرض من ضرب المثل.

التشبيه البليغ:

وهذا نبه عليه الطاهر ابن عاشور في (التحرير والتنوير) ولم يذكره المؤلف –رحمه الله-، قال: «فأصابها إعصار، أي ريح شديدة تقلع الشجر والنبات، فيها نار أي شدة حرارة، وهي المسماة بريح السموم، فإطلاق لفظ نار على شدة الحر تشبيه بليغ فأحرقت الجنة أي -أشجارها- أي صارت أعوادها يابسة، فهذا مفاجأة الخيبة في حين رجاء المنفعة»(19).

وإذا نظرنا إلى التفسير العلمي للظاهرة وجدنا أن النار في هذا الإعصار حقيقة وليست تشبيها لشدة الحرارة، إذ ذكر العلماء أن الذي يميز إعصار النار عن غيره هو وجود النار بداخله مما يضاعف من قوته التدميرية، حيث تنتج عنه حرائق كثيرة؛ إذ تتشكل نواة من اللهب تدور بحركة أفقية وحركة عمودية للأعلى، وذلك بسبب ارتفاع درجة الحرارة.

دقة التعبير القرآني في الآية:

أ- الفاء في قوله تعالى: (فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ):

من المعلوم أن الفاء حرف معنى وهو للعطف مع الترتيب والتعقيب، معنى ذلك في الآية أن الاحتراق أعقب الإعصار مباشرة، وفي تكرار العطف بالفاء مرتين ما يشعر بالسرعة في هذا التعقيب، بحيث يكون الاحتراق قد حَدَثَ بعد حَدَثِ الإعصار مباشرة، أي لم تكن هناك مدة زمنية طويلة بينهما، وهذا يناسب الحقيقة العلمية وهي السرعة الكبيرة للاحتراق في هذا الإعصار.

حيث ذكر العلماء أن إعصار النار لديه القدرة على إحراق بستان كبير طوله خمسة كيلومترات خلال عشر دقائق فقط، حيث بينت الدراسات أن هذا النوع من الأعاصير يسير بسرعة تبلغ أكثر من 30 كيلومتراً في الساعة. ولذلك استخدم القرآن حرفي الفاء لوصف إحراق الجنة (البستان)، قال تعالى: (فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ)، الفاء الأولى في كلمة (فَأَصَابَهَا) والفاء الثانية في كلمة (فَاحْتَرَقَتْ)، تدلان على السرعة وهذا ما يحدث بالضبط في حالة إعصار النار حيث يتشكل هذا الإعصار بشكل مفاجئ ويحرق الأشجار والبيوت بسرعة كبيرة، وذلك بعكس الحرائق العادية التي تستغرق زمنا أطول(20)، وهذا من إعجاز القرآن الكريم في استعمال الحروف استعمالاً دقيقاً.

ب- قوله تعالى: (إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ):

شاع إطلاق العلماء على هذا الإعصار (إعصار النار) بدلا من (إعصار فيه نار) كما جاء في القرآن الكريم، ويذكر بعض العلماء أن التسمية الأولى توحي بأن الإعصار يتشكل بسبب النار، ولكن الحقيقة أن الإعصار تدخل فيه النار بسبب قوى الجذب التي تمارسها الدوامات الهوائية على النار.

ولذلك فإن النار ليست من أصل الإعصار وإنما دخلت فيه بسبب عوامل خارجية مثل الحرارة الزائدة والظروف الجوية المناسبة وغيرها، وبذلك كان التعبير القرآني دقيقًا في وصف هذا الإعصار: إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ!. ولم يقل مثلاً إعصار له نار، أو إعصار من النار.

ذلك أن إعصار النار يحدث عندما ترتفع درجة الحرارة ويكون لدينا دوامات هوائية مضطربة. ويتكون إعصار النار من جزء أساسي هو النواة النارية وجزء غير مرئي هو الدوامة الهوائية المحيطة بالنواة مهمته تغذية المركز بالأكسجين(21).

فنّ «الطاعة والعصيان»:

وكلام المؤلف –رحمه الله- عن هذا الفن منقول معظمه عن (تحرير التحبير) لابن أبي الإصبع وهو من مصادر المؤلف التي لم يصرح بها، وعرف هذا الفن نقلا عن المعري، يقول: «وهو أن يريد المتكلم معنى من معاني البديع، فيستعصي عليه لتعذر دخوله في الوزن الذي هو آخذ فيه، فيأتي موضعه بكلام غيره يتضمن معنى كلامه، ويقوم به وزنه، ويحصل به معنى من البديع غير المعنى الذي قصده»(22).

قال المؤلف: «أما في الآية الكريمة التي نحن بصددها فإنها وقع فيها التتميم، وقد تحدثنا عنه قبل قليل فيها. ولما كان المتكلم في الأصل يقصد المساواة في كل ما يتكلم به فإذا عصته المساواة للأغراض الآنفة الذكر أطاعه التتميم، فتنبه لهذا فإنه من دقائق الفنون»(23).

فلما كان ما جاء به القرآن من تتميمات في الآية لزيادة حسنة في المعنى بيناها في بابها، وهي إذا طرحت منه نقص معناه، كان ذلك خارجا عن باب المساواة التي يقصدها المتكلم بدءا في كلامه، بحيث عدل عن المساواة وأتى بهذه الزيادة ليضمن الكلام ضربا من المحاسن وهو التتميم، وبذلك تكون قد عصته المساواة وأطاعه التتميم.

ولا شك أن ما أراده المؤلف –رحمه الله- بهذا الفن في الآية يضيق عنه التعريف الذي وضعه المعري من جهتين: فهو ينظر في الشعر ولا ينظر في النثر، ومراده أن يستعصي على المتكلم معنى من معاني البديع لتعذر دخوله في الوزن فيأتي بمعنى غيره يقوم به الوزن ويحصل به معنى آخر من معاني البديع، وهذا أمر بديهي لأن المعري استنبط هذا الفن عند نظره في شعر المتنبي وشرحه له، وإنما أسقطه على القرآن الكريم مَنْ جاء بعده فكان لزاما وضع تعريف لهذا الفن يراعي خصوصية وروده في النثر.

فالأصل في هذا الفن أن يكون في الشعر لارتباطه بالوزن أولا، فإذا عُلِمَ أن الوزن لا يستقيم إلا بزيادة كلمة على اللفظ المساوي معناه، فيأتى بها المتكلم متضمنة لمعنى، ليحصل بها في الكلام ضرب من البديع، وهو التتميم، نظراً إلى نقص الوزن، والتكميل نظراً إلى كون المعنى تاماً، وليكون عوضاً مما فاته من المساواة حذقاً منه، ولو أتى بها لا يفيد إلا إقامة الوزن فحسب، كانت عيباً فليسوغ أن يقال: إن في هذا البيت طاعة وعصياناً، لكون الشاعر عصته فيه المساواة التي قصدها وقت الشروع في سبكه وبنيته، وأطاعه التتميم، وعلى هذا يكون كل بيت من شواهد التتميم، وقع التتميم الذي فيه زائداً على معناه غير متمم لنقصه شاهداً للطاعة والعصيان، ومثل هذا هو تتميم الوزن لا تتميم المعنى(24).

أفلا يصح أن نسمي التتميم الذي يقع لزيادة حسنة في المعنى لا لإقامة الوزن تتميم المعنى، وهذا يصدق كثيرا على غير الشعر لأنه لا وزن فيه، بحيث يكون العدول عن المساواة عصيانا، وتضمين الكلام لضرب من المحسنات تحصل بها زيادة حسنة: طاعة.

ومن جهة أخرى فهذا التعريف ينظر في معاني علم البديع فيكون ما أطاع الشاعر من معنى وما عصاه داخلا في علم البديع فقط، والمساواة ليست من علم البديع في شيء وإنما هي علم من علوم المعاني، لذلك يعتبر هذا التعريف قاصرا عما أراده المؤلف –رحمه الله- من فن الطاعة والعصيان في الآية.  

وقد شرط ابن أبي الإصبع أن يكون عدول المتكلم عن المساواة إلى غيرها من البديع اضطرارا لا اختيارا، وقد يعدل المتكلم عن المساواة اختيارا، ولا تكون المساواة عصته إلا في ظن من يرى ظاهر كلامه فيجد فيه ما يوهم بأنه زيادة، ويكون عدوله لمعنى أَجَلّ من المساواة، فيكون قد أطاعه المعنى.

وهذا الكلام يصدق على ما جاء في القرآن الكريم من هذا الفن بحيث يكون العدول عن المساواة اختيارا، وآية ذلك أن التتميمات التي وردت في الآية التي نحن بصدد الحديث عنها لو طُرحت من الكلام لنقص معناه، ولذهب سمو البيان في الآية. 

الإعجاز العلمي في الآية:

          من وجوه إعجاز القرآن الكريم ما أودع فيه من المعاني الحكمية والإشارات إلى الحقائق العقلية والعلمية مما لم تبلغ إليه عقول البشر في عصر نزول القرآن وفي عصور بعده متفاوتة، والقرآن معجز من هذه الجهة للبشر قاطبة إعجازا مستمرا على ممر العصور(25)، والآية التي نحن بصددها تدخل في هذه الجهة فهي من الآيات التي صور الله تعالى فيها ظاهرة من الظواهر الطبيعية التي لم تألفها البيئة التي نزل فيها القرآن، بل جعلها سرا من أسراره التي بينها لخلقه بعد عصور من نزول القرآن، وفي ذلك مدعاة  للتفكر والتدبر والتأمل…

لقد قرأت مجموعة من المقالات التي كتبت حول الإعجاز العلمي في هذه الآية، والتي تتطابق فيها الحقائق العلمية مع ما جاء في الآية، وخلاصة ما تم التوصل إليه:

– إن العلماء يؤكدون أن هذه الظاهرة (إعصار النار) ظاهرة نادرة وغير مألوفة ولم يتم توثيقها إلا في القرن الحادي والعشرين.. يقول العلماء إن إعصار النار لم يلاحظه أحد من قبل بسبب خطورته وعدم التمييز بينه وبين الحرائق العادية للغابات، ومع التطور العلمي وسهولة التصوير والتوثيق تمكن الإنسان من توثيق هذه الظاهرة لأول مرة عام 2003 ودراستها بشكل مفصل عام 2013 .. (26)

– القرآن الكريم يصف ظاهرة طبيعية نادرة تحدث في مناطق الغابات الكثيفة وهي الإعصار الناري، ومن المعروف أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعيش في جزيرة العرب في مكان صحراوي لم يشاهد في حياته أي إعصار ناري، فالأعاصير النارية تظهر وتتولد من حرائق الغابات الكثيفة، حتى سكان الغابات نادراً ما يشاهدونها فكيف بساكن الصحراء(27).

والقرآن الكريم يضرب المثل به على الرغم أنه لم يتم دراسة هذه العواصف ومعرفة أسبابها إلا من سنوات قليلة فقط، حيث كانت المعلومات المرتبطة بهذه الأعاصير هي معلومات خرافية فقط اعتقد الناس أن هذه العواصف النارية هي عبارة عن شياطين تحرق كل ما تصادفها، ولذلك سموها لسان الشيطان(28).

ولذلك فإن أول إشارة علمية أو أول توثيق علمي لظاهرة إعصار النار جاء في القرن السابع الميلادي في القرآن الكريم. وإن وجود ذكر لإعصار النار في القرآن الكريم هو دليل مادي على إعجاز القرآن(29).

– لقد وصف الله تعالى لنا ذلك البستان الذي أصابه إعصار النار (جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ) أي أن هذا الإعصار أصاب جنة مثمرة، وبالفعل يقول العلماء إن إعصار النار غالباً ما يصيب الغابات ذات الأشجار الكثيفة، ولا يقع في الصحراء وهذا يؤكد دقة التعبير القرآني. أي أن القرآن بذلك قد أخبر عن إعصار النار وحدد لنا مكان عمل هذا الإعصار وهي الأماكن التي تحتوي على الأشجار(30).

وقد ختمت هذه الآية الكريمة بقوله تعالى: (كَذَلِكَ يُبَيِّن اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ)، وهذا تذييل، أي كهذا البيان الذي فيه تقريب المعقول بالمحسوس بين الله نصحا لكم، رجاء تفكركم في العواقب حتى لا تكونوا على غفلة(31)، ورجاء أن تعتبروا بهذا المثل الذي جاء فيها، فالحث على التفكر في المثل وهو غاية مقصودة لا يرجى منه إلا الاعتبار بما جاء فيه.

والمعنى الإجمالي لذلك الختام الكريم لهذا المثل السامي الحكيم: يبين الله سبحانه وتعالى آياته دائمًا، كذلك البيان الذي اتضح لكم في هذا المثل الرائع المحكم الذي تتسع آفاق الفكر في إدراكه، فينال كل منه بمقدار إدراكه، فبيان الله دائمًا من ذلك النوع، لتتفكروا وتتأملوا آيه، وتدركوا مراميها القريبة والبعيدة(32)، ولا شك أن من تفكر أي أعمل فكره في آيات الله الكونية والعقلية والشرعية حق التفكر، خرج بنتائج طيبة يُشهد بها، لأن من رجي له التفكر وكان أهلا له بانت له العلامات التي يصل بها إلى معرفة الحق سبحانه وتعالى حق المعرفة.  

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

1- إعراب القرآن الكريم وبيانه 1/356.

2- مفاتيح الغيب 7/51.

3- زهرة التفاسير 2/991.

4- فتح القدير 1/330- 331.

5- إعراب القرآن الكريم وبيانه 1/56.

6- اللباب 4/407، الجواهر الحسان 1/523، مفاتيح الغيب 7/51.

7- الكشاف 1/314.

8- فتوح الغيب 3/528.

9- اللباب 4/407، مفاتيح الغيب 7/51.

10- المرجع نفسه 2/992.

11- فتوح الغيب 3/528.

12- زهرة التفاسير 2/990.

13- المرجع نفسه 2/992.

14- فتوح الغيب 3/527.

15- إعراب القرآن الكريم وبيانه 1/356.

16- زهرة التفاسير 2/993.

17- التحرير والتنوير 3/53.

18- تفسير العثيمين 3/332.

19- التحرير والتنوير 2/525.

20- ظاهرة إعصار النار بحث لعبد الدائم الكحيل منشور بموقع أسرار الإعجاز العلمي.

21- المرجع نفسه.

22- تحرير التحبير ص: 290.

23- إعراب القرآن الكريم وبيانه 1/359.

24- تحرير التحبير ص: 294.

25- انظر: التحرير والتنوير 1/104- 105.

26- ظاهرة إعصار النار بحث لعبد الدائم الكحيل منشور بموقع أسرار الإعجاز العلمي.

27- إعصار فيه النار، إعداد: الدكتور أحمد مُحمَّد زين المنّاوي، موقع طريق القرآن.

28- إعصار فيه نار فاحترقت ـ معجزة علمية لفراس وليد موقع إعجاز القرآن والسنة.

29- ظاهرة إعصار النار بحث لعبد الدائم الكحيل منشور بموقع أسرار الإعجاز العلمي.

30- المرجع نفسه.

31- التحرير والتنوير 3/55.

32- زهرة التفاسير 2/995.

المصادر والمراجع:

– إعراب القرآن الكريم وبيانه، لمحيي الدين الدرويش، الطبعة الحادية عشرة: 1432هـ/ 2011م، منشورات اليمامة ودار ابن كثير.

– تحرير التحبير في صناعة الشعر والنثر وبيان إعجاز القرآن، لابن أبي الإصبع، تقديم وتحقيق: الدكتور حفني محمد شرف، منشورات: الجمهورية العربية المتحدة- المجلس الأعلى للشئون الإسلامية- لجنة إحياء التراث الإسلامي.

– التحرير والتنوير، للإمام محمد الطاهر ابن عاشور، منشورات دار سحنون للنشر والتوزيع، تونس.

– تفسير العثيمين (الفاتحة والبقرة)، لمحمد بن صالح بن محمد العثيمين، الطبعة الأولى: 1423هـ، منشورات دار ابن الجوزي، المملكة العربية السعودية.

– الجواهر الحسان في تفسير القرآن، لأبي زيد عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف الثعالبي، تحقيق: الشيخ محمد علي معوض والشيخ عادل أحمد عبد الموجود، الطبعة الأولى: 1418هـ، منشورات: دار إحياء التراث العربي، بيروت.

– زهرة التفاسير، لمحمد بن أحمد بن مصطفى بن أحمد المعروف بأبي زهرة، منشورات: دار الفكر العربي.

– فتح القدير، للشوكاني، الطبعة الأولى: 1414هـ، منشورات: دار ابن كثير، دار الكلم الطيب، دمشق، بيروت.

– فتوح الغيب في الكشف عن قناع الريب، للطيبي، مقدمة التحقيق: إياد محمد الغوج، القسم الدراسي: د. جميل بني عطا، الطبعة الأولى: 1434هـ/ 2013م، منشورات: جائزة دبي الدولية للقرآن الكريم.

– الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، للزمخشري، الطبعة الثالثة: 1407هـ، منشورات: دار الكتاب العربي، بيروت.

– اللباب في علوم الكتاب، لأبي حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني،  تحقيق الشيخ عادل أحمد عبد الموجود والشيخ علي محمد معوض، الطبعة الأولى: 1419هـ /1998م، منشورات دار الكتب العلمية، بيروت.

– مفاتيح الغيب، لفخر الدين الرازي، الطبعة الثالثة: 1420هـ، منشورات دار إحياء التراث العربي، بيروت.

كتبته الباحثة فرح الشويخ

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق