مركز عقبة بن نافع للدراسات والأبحاث حول الصحابة والتابعينقراءة في كتاب

نصح ملوك الإسلام بالتعريف بما يجب عليهم من حقوق آل البيت الكرام

لمحمد بن أبي غالب ابن السكاك المكناسي

(ت 818هـ)

 

أولى المغاربة عناية كبيرة بموضوع أهل البيت الكرام، وبوؤوا المنتسبين إلى الدوحة النبوية جليل التقدير وجميل التشريف، وذلك منذ أن وطأ أول قادم منهم من المشرق إلى المغرب الأقصى، وما الحفاوة والتبجيل الذي لقيه جد الأشراف الأدارسة الحسنيين بالمغرب: المولى إدريس بن عبدالله الكامل بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب وفاطمة بنت رسول الله، رضي الله عنهم أجمعين، ببعيدة عن أذهاننا وهي مسطورة في المدونات التاريخية، وموثقة في كتب الأخبار والأنساب.

وقد حرص المغاربة كل الحرص على تسجيل أنساب الأشراف، وتبيين أصولهم وإحصاء فروعهم، واقتفاء أثر تنقلاتهم في أطراف البلاد وتحديد مواطن هجرتهم، بل اعتنى النسابون المغاربة بضبط الأشراف المستقرين في الحاضرة الواحدة، وتسمية الأحياء التي أوت أفرادهم، ولم يغب عن النسابين توثيق جميع العلاقات الاجتماعية التي ارتبط بها الأشراف مع غيرهم من أفراد المجتمع (المصاهرة)، ولم يَفُتِ المؤرخين التنويه بالمكانة السامية التي أدركها أهل البيت عند ذوي السلطان في الدول المتعاقبة على حكم البلاد، مبرزين جهود بعض السلاطين في تحصين هذا البيت النبوي من الزيف وانتحال صفة الشرف والانتساب إلى الدوحة النبوية، وذلك بعدما صار أمر الأشراف فوضى حتى إن أغلب الرعية ادعت النسبة الشريفة. ومن أجل ذلك قام بعض السلاطين على ساق الجد بصيانة النسب الشريف من عبث العابثين، وندبوا بعض النقباء من العلماء إلى تمحيص الأنساب المنتشرة في ربوع البلاد، والتجريد منها من هي ذات النسب الصريح الصحيح، المستند إلى الحجج الساطعة والبراهين القاطعة، بل كلَّفَ بعض النقباء أنفسهم بوضع سجل بالأنساب التي زعم أصحابها صلتهم بالبيت النبوي، مدحضين فيه حججهم الزائفة.  ومن أشهر ما تسنى تأليفه في هذا الجانب:

  • الكناش الإسماعيلي: وضعه (بأمر السلطان العلوي المولى إسماعيل) النسابة محمد بن علي بن عمر بن عبدالوهاب الحسني العلمي (ت ؟)
  • فتح العليم الخبير في تهذيب النسب العلمي بأمر من الأمير: ألفه بطلب من السلطان محمد بن عبدالله العلوي، العلامة النسابة سيدي محمد بن الصادق ريسون (ت 1237هـ).

ونلمس من خلال كتب التاريخ والتراجم والمناقب ما حظيت به الدوحة الشريفة بالمغرب من التوقير والإجلال بشكل لا نظير له من قبل السلاطين وولاة الأمر في مختلف العصور، فخصوا الأفراد والجماعات منهم بظهائر التكريم، وأضفوا عليهم أردية الاحترام والتبجيل والتعظيم، وألزموا كبار المسؤولين باعتبار جنابهم الشريف، وأعفوا الأشراف من التكاليف المخزنية، كما قبلوا وساطتهم إبان نشوب النزاعات بين الأفراد والجماعات، واعتنوا بشفاعتهم، وأغدقوا عليهم جميل الصلات، وأوصوا عليهم الإيصاء الحسن.

ويزخر تراثنا المغربي بمصنفات كثيرة حول أنساب الأشراف الحسنيين أو الحسينيين، وتنوعت كتابات العلماء حولهم، فهناك كتب عامة اهتمت بالذرية الطاهرة المستقرة في بلاد المغرب عامة أو في موطن معين خاصة، وهناك من العلماء من وجه عنايته إلى التعريف ببيت واحد والإفاضة في ذكر أعلامه الأشراف وتنويه بمناقبهم السامية، مع التذكير بداية بجميع النصوص الشرعية الموجبة بمحبة أهل البيت وإجلال قدرهم.

 وقد أثرى العلماء المغاربة الكتابات حول أهل البيت نظما ونثرا، وبثوا فيها مكنون محبتهم وسمو أحاسيسهم نحوهم، وسعوا إلى المنافحة عنهم والذود عن شرف نسبتهم الطاهرة، والمؤلفات في هذا الموضوع لا يحصيها عد، ويكفي في هذه الورقة التذكير ببعضها:

  1. علم أنساب الشرفاء. (وهذا النظم هو جزء من الأقنوم في مبادئ العلوم). لعبدالرحمن بن عبدالقادر الفاسي (ت 1096هـ).
  2. تأليف في أنساب الشرفاء الذين لهم شهرة بفاس. لعبدالرحمن بن عبدالقادر الجوطي الشبيهي (ت 1099هـ).
  3. الدر السني، في بعض من بفاس من أهل النسب الحسنى. لعبدالسلام بن الطيب بن محمد القادري الحسني (ت 1110هـ).
  4. الإشراف على نسب الأقطاب الأربعة الأشراف. لعبدالسلام بن الطيب بن محمد القادري الحسني (ت 1110هـ).
  5. لمحة البهجة العلية في بعض أهل النسبة الصقلية. لمحمد بن الطيب القادري الحسني (ت 1187هـ).
  6. أرجوزة في الفروع العلوية. لمحمد التهامي بن عبدالله العلوي الشاكري (ت1210هـ).
  7. نتيجة التحقيق في أهل النسب الوثيق. لمحمد بن أحمد المسناوي الدلائي (ت1236هـ).
  8. غاية الأمنية وارتقاء الرتبة العلية، في ذكر الأنساب الصقلية. لعبدالواحد بن محمد الفاسي الفهري (ت 1213هـ).
  9. قرة العيون في الشرفاء القاطنين بالعيون. لسليمان بن محمد بن عبدالله الحوات الشفشاوني (ت 1231هـ).
  10. تحفة الحادي المطرب في رفع شرفاء المغرب. لأبي القاسم بن أحمد الزياني (ت 1249هـ).
  11. أرجوزة حول بعض الشرفاء الجوطيين لفاس ومكناس. لأبي القاسم بن أحمد الزياني (ت 1249هـ).
  12. أرجوزة في فروع الأشراف الشبيهيين بمكناس وزرهون. لمحمد الفاطمي بن محمد الشبيهي ( توفي بعد 1250هـ).
  13. الدرة الفائقة في أبناء علي وفاطمة. لمحمد الزكي بن هاشم العلوي المدغري (ت 1270هـ).
  14. المطالع الزهرا الجامعة لأسماء بني الزهرا. لمحمد الزكي بن هاشم العلوي المدغري (ت 1270هـ).
  15. الإشراف على بعض من بفاس من مشاهير الأشراف. لمحمد الطالب بن حمدون ابن الحاج (ت 1274هـ).
  16. نظم الدرر والآل، في شرفاء بن صوال.  لمحمد الطالب بن حمدون ابن الحاج (ت 1274هـ).
  17. تأليف في أنساب العلويين بسجلماسة. لمولاي هاشم بن الغالي العلوي. (ت؟).

ومن أجل الكتب التي تجلي رفعة مقام أهل البيت في نفوس علماء المغرب، وتوضح جهودهم في الدفاع عن نسبتهم الشريفة، مع الإشادة بمناقب أفرادهم الذين تسلسل منهم الصلحاء والفضلاء والعلماء على امتداد الأزمنة والعصور، كتاب: (نصح ملوك الإسلام بالتعريف بما يجب عليهم من حقوق آل البيت الكرام) وهو من تأليف العلامة محمد بن أبي غالب ابن السكاك المكناسي (ت 818هـ)، وهو كتاب مفيد جدا في معرفة أوضاع أهل البيت في المشرق والمغرب، وموقف الدول الحاكمة من تحركات هذه الطبقة الاجتماعية التي كان يحسب لها حساباتها هنا وهناك، والكتاب حافل بالإفادات التاريخية القيمة حول نشأة دولة الأشراف الأدارسة بالمغرب، وتعاقب الحكم في أبنائها جيلا بعد جيل إلى أن خبا وهج هذه الدولة الشريفة وضعف كيانها، وتمكن خصومها من دواليب الحكم في المغرب.

والكتاب يعكس أهمية النفوذ الاجتماعي الذي حظي به الأشراف سواء في فاس أو سبتة خلال عصر المريني من خلال تشكيل نقابتهم، والتفات عامة الناس وخاصتهم حول فضلاء هذا البيت الشريف، رجاء التماس البركة منهم،  ووظفت الدولة المرينية نفوذهم الروحي لإضفاء الشرعية على حكمهم، و كان حضورهم أساسيا في بيعة سلاطين بني مرين الذين بالغوا في الاعتناء بأهل البيت الأشراف وذلك من خلال إصدار الظهائر السلطانية في حقهم، وإسناد بعض الوظائف الشرعية إليهم.

وقد أبرز بجلاء كتاب ابن السكاك «نصح ملوك الإسلام بالتعريف بما يجب عليهم من حقوق آل البيت الكرام» الأثر البالغ الذي اضطلع به الأشراف في تعزيز النفوذ السياسي للسلطة المركزية، ودورهم في استتباب السلم الاجتماعي في الحواضر والقبائل المغربية، وحرصت الدولة المرينية على توظيف رمزية النسب الشريف في حملتهم العسكرية على العدوة الأندلسية، وذلك عندما صحبوا بعض الأشراف للاستنصار بهم على خصومهم.

اقتصر المؤلف فقط في طالعة الكتاب على الإشارة إلى من أملى عليه بالكتابة في حقوق أهل البيت، ولم يستعرض مجمل مضمون الكتاب على عادة المؤلفين في المقدمة، بل اكتفى بذكر المصادر العامة التي اعتمدها في صياغة كتابه:

كتب ـ تقييدات ـ شجرات الأنساب الشريفة لبيوتات خاصة، أو شجرات عامة الشرفاء في المشرق والمغرب. يقول ابن السكاك المكناسي:

« وبعد؛ فإن بعض  آل البيت  الكريم ممن قُطِع باتصال نسبته إلى سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم، أمرني وامتثال أمره لوسيلته الكبرى واجب؛ أن أُمْلي في نصح ملوك الإسلام إملاء مختصراً يعمّ نفعه بفضل الله تعالى، وتشمل فائدته ببركة رسول الله صلى الله عليه وسلم »[1].

والجدير بالتنويه أن المؤلف ـ على غير عادة غالب المصنفين ـ بسط مقاصد الكتاب ومضامنه في خاتمة تأليفه التي جاء فيها:

« خاتمة لهذا التأليف المبارك مناسبة لبدأة الكتاب ومقصده، لأن كل ما تقدم من الفوائد إنما هو جمل اعتراضية، والقصد نصح ملوك الإسلام بما يجب عليهم من حقوق لآل  البيت الكرام في المغرب الأقصى والأدنى والمشارق بمصرها ويمنها وشامها وعراقها وحجازها والسند والصين والهند، وكل من بلغ له هذا التأليف في آل البيت الكريم وقرع مسامعه وحصل العلم إليه بالقاعدة المطردة المذكورة. فمن كان مشفقا على ملكه مُحِبًّا فيه، مؤيدا لطول مدته، وتمهيد بلاده، وصلاح الوالي لرعيته، وبقاء الملك في عقبه من بعده، من كان كذلك عظّمَ  الشرفاء واعتنى بهم، وأفرط في إكرامهم وسدّ قلتهم وفاقتهم، ورفعهم على سائر الناس، ونزّلهم المنزلة التي يستحقونها، والرتبة التي عيّنَ الله لهم ورسوله صلى الله عليه وسلم: من مزيتهم على من سواهم، ونظر فيما يصلح في دنياهم وأخراهم، كما ينظر في أحوال أولاده ولا شك أن من فعل هذا فأجره على الكريم ومعاملته مع العظيم…..

ومن لم يوفق لشيء مما ذكرناه بل أهمل أحفاد أحب الخلق إلى الله، ولم ينظر لهم في فقر ولا حاجة، وأنزلهم منزلة سائر الرعية، وأخمل ذكرهم، ولم يسد خلتهم، وتركهم محتاجين لمن لا يرحمهم، ولا يعرف لهم قيمة، فليستعد لزوال الستر عليه وعن عقبه ودمار ملكه ومعالجة ملكه»[2].

ومن خلال النص اعلاه تتضح رؤية الكاتب والغاية التي من أجلها وضع هذا التأليف، وهي تنحصر في إجلال أهل البيت والاعتناء بأحوالهم والبرور بهم والسعي إلى خدمتهم وسد حاجتهم. وحمّل المؤلف كامل المسؤولية إلى الملوك وولاة الأمر برعاية أهل البيت، وحسب اعتقاد المؤلف فإن أهل البيت هم الضامنون لاستمرار حكم السلاطين والولاة، وعامل استقرار الأحوال السياسة في الأوطان، وقد استعرض ابن السكاك في متن الكتاب، للتدليل على قناعته، مجموعة كبيرة من الوقائع والأحداث في تاريخ دول الإسلام شرقا وغربا، استخلص منها أن كل دولة أولت عنايتها بأهل البيت وبوأتهم المكانة السامية وقدرت نسبتهم الشريفة، نالت رفعة وشأنا. وأما الدول التي ساءت فيها أحوال الأشراف ونال أفرادهم التهميش وهضمت حقوقهم، وتعرضوا للسجن والتنكيل، فهي في ظن المؤلف مدعاة إلى الاضمحلال والزوال. واستعرض المؤلف هذه القناعة الراسخة في أعماق نفسه في كتابه قائلا:

(…علم كل مسلم بالإجمال أن بني أمية لما ساءت معاملتهم لآل البيت وخالفوا أسلافهم وأصولهم عاجلهم الله بالدمار والهلاك، وولي أمرهم لبني العباس، فكان آخر ملوكهم مروان بن محمد بن مروان بن الحكم، وقتل عام ثلاثة وثلاثين ومائة. فكانت مدة خلافتهم ثمانين سنة. ولله عاقبة الأمور)[3].

وهذا الكتاب يتألف من مقدمة وفصل واحد: (في ذكر نبذة من أخبار ملوك قاموا ببعض حقوق آل البيت)،  ثم قسم ملوك الإسلام في علاقتهم بآل البيت إلى عشرة أقسام:

القسم الأول: الخلفاء الراشدون.

القسم الثاني : ملوك بني أمية.

القسم الثالث: ملوك بني العباس.

القسم الخامس: الأدارسة بالمغرب.

القسم السادس: ملوك زناتة.

القسم السابع: بنو العافية، وبنو يفرن الزناتي.

القسم الثامن: ملوك الموحدين.

القسم التاسع: ملوك بني مرين.

القسم العاشر: ملوك بني زيان من بني عبد الوادي الزناتي.

حفظ لنا الكتاب جميل البرور وجزيل العطاء الذي تلقاه أهل البيت من الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم أجمعين، وقد لخصه ابن السكاك في الجمل التالية:

  • أبو بكر الصديق رضي الله عنه: (فكان نعم الخليفة وخيرهم وأكرمهم وأرحمهم بآل البيت وقرابته صلى الله عليه وسلم)[4].
  • عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ( كان رحيما بآل البيت، شفيقا عليهم، قريبا إليهم، ناصحا وناصرا لهم)[5].
  • عثمان بن عفان رضي الله عنه: ( كان رضي الله عنه بارًّا بقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، مكرمًا لهم محسنًا إليهم بعيدًا عن الإساءة لأحدهم)[6].
  • علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: ( هو أول خليفة من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، ويليه ولده سيدنا الحسن السبط….كان رضي الله عنه واصلا لرحمه قويًّا لهم شديدًا على أعدائهم، حليمًا كريمًا يعطيهم عطاءًا من لا يخشى فقرًا)[7].

وابن السكاك في كتابه (نصح ملوك الإسلام) استعرض أهم الأخلاق السامية التي تميز بها الأشراف عن غيرهم، وتمثلت في: الصبر على الأذى ـ كظم الغيظ ـ التحمل لما يحاك لهم.

كما بيّن المؤلف كمال الأوصاف التي تحلَّوْا بها خلال تاريخهم المجيد وهي: صدق الدفاع عن حقهم، والذب عن الحرمة النبوية، والانتصار للمظلوم  بعد الظلم، وعدم الإقامة على الذل، في أسلوب من الكرم عجيب، وضرب من الشجاعة غريب.

وهذا الكتاب مفيد جدا في معرفة تاريخ السلالة النبوية، وهو حافل بجميع المعطيات الأساسية المتصلة بشجرة الأنساب الشريفة مشرقا ومغربا. وتتبع المؤلف مواطن استقرار الأشراف، وتنقلات أفرادهم في مختلف بلاد الإسلام  في: الشرق العربي، وفارس، والسند، والهند، وشمال إفريقيا، وصقلية، الأندلس. وقد حرص المؤلف على ذكر مشاهير أعقاب الأشراف مع التنويه بقدر أجدادهم، وممن احتفى الكتاب بذكرهم:

  1. أعقاب موسى الجون.
  2. أعقاب محمد نفس الزكية.
  3. أعقاب جعفر الصادق بن محمد الباقر.
  4. أعقاب موسى الكاظم بن جعفر الصادق.
  5. أعقاب يحيى بن عبدالله الكامل.
  6. أعقاب سليمان بن عبدالله الكامل.
  7. يعض أعقاب زيد بن الحسن السبط.
  8. بعض أعقاب داود بن الحسن المثنى.
  9. بعض أعقاب عمر الأشرف.

ومن الجوانب التي كانت حاضرة في عمل ابن السكاك، وأصرَّ على ذكرها وتتبع وقائعها: المآسي والظلم الذي لحق بأهل البيت الكرام على امتداد القرون، وفي الوقت نفسه سرد العواقب الوخيمة التي أصابت من بالغ في إذاية الأشراف، مستخلصا العبر من أحوالهم. وفي الفقرة التالية لخّص لنا المؤلف جليل المواقف التي اشتهر بها الأشراف، وأجمل عِظَمَ الابتلاءات التي تعرض أهل البيت قائلا:

(واعلم.. أن أولاد السبط بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أكثر الشرفاء امتحانا وابتلاء، وفيهم فشت الشهادة والقتل، وبهم افتدت الأرواح بالبذل؛ فكانوا يبذلون أنفسهم لله وفي الله، وقاموا بالصدع بالحقّ، وتغيير المنكر، وردّ المظالم بما هو معروف ومشهور، فاختارهم الله لدار كرامته، بعد أن انتقاهم من بين عباده للفوز بصلاته وبركاته، فليتّعظ العبد ولْيَرَ العبرة العظيمة التي حصلت لمن أبغضهم أو شنأهم أو ظلمهم أو اعتدى عليهم)[8] .

ولم يكتف ابن السكاك بعرض صور الإساءات التي تعرض لها الأشراف، بل قدم نماذج الإجلال والتقدير لأفراد أهل البيت، الصادرة عن بعض الأمراء من ذلك قول المؤلف عن الخليفة العباسي الواثق بن المعتصم:

( وكان هذا الأمير بارًّا بآل الحسن والحسين مُحسناً اليهم مُتودّدًا لهم فتعهّدهم بالأموال والعطايا والهدايا السنية، وبالغ في إكرام الحرمين الشريفين أيضا، حتى قيل إنه لم يوجد في أيامه سائل أو محروم، فتحسنت الأحوال وكثر الغيث ورخصت الأسعار، وكل ذلك ببركة الإحسان لآل البيت رضي الله عنهم)[9] .

كما قدم ابن السكاك صورة ناصعة عن عناية ملوك عصره (المرينيين) بأهل البيت الطيبين والعناية بشؤونهم، من ذلك قوله عن السلطان أبي الحسن المريني:

( كانت له عناية بأمر الأشراف، فكان من أمره ما هو مشهور، فهو الذي أمر بالنظر في أمور الشرفاء وإكرامهم والإحسان إليهم، وهو أيضا من أمر بالنداء على كل الشرفاء في سائر المغرب ليحضروا إلى القضاء ويثبتوا انتماءهم لآل البيت، وخصص لهم العطاءات ومرتبات شهرية. وعلى رأس هؤلاء الشرفاء: سادتنا الجوطيون، والصقليون، وشرفاء العلم، والشرفاء المومنانيون، وأولاد السيد أبي البركات بن الحسن الشريف الينبوعي، وبنو عمومتهم بسجلماسة، وشرفاء سبتة، وغيرهم من الحسينين والحسنيين..)[10].

ويكتسي كتاب (نصح ملوك الإسلام بالتعريف بما يجب عليهم من حقوق آل البيت الكرام) لابن السكاك، أهمية كبيرة في تاريخ المغرب ويقدم إفادات كثيرة حول قدوم الأشراف إلى المغرب، وبيانات مفصلة عن قيام دولة الأشراف الأدارسة، وعن أحوال أمرائها وصراعاتهم المتتالية إلى أن ضعفت شوكتهم، واستولى خصومهم على الحكم في المغرب.

ويمدنا الكتاب بمعلومات في غاية من الأهمية عن البيوتات الشريفة الشهيرة في المغرب عامة، وفي حاضرة فاس خاصة، وهي المدينة التي نعتت على امتداد تاريخها بأنها كانت ملاذ الخائفين، وأصبحت فعلا كعبة القاصدين ولا سيما من الأشراف الحسنيين والحسنيين الواردين إليها من الحجاز والعراق وصقلية.

ويحفل الكتاب بأسماء الأشراف الذين سما شأنهم وعلا مقامهم في الأوساط الاجتماعية بفاس وسبتة وغرناطة، كما أفادنا ابن السكاك بنبذة من سير من تَعَرّفَ المؤلف عليهم من الأشراف ، مبينا جليل فضائلهم، وقد سطر ذلك وهو يثني الثناء المتواصل على أخلاقهم السامية وسجايهم الطيبة، ومن تلك الإفادات قول ابن السكاك:

( وممن عرفته.. من الجوطيين بفاس سيدي أبي القاسم، حفيد سيدي أبي طالب، رأيت فيه كرما حاتميًا، وصبرًا على الفقر، واستحقارًا لنفسه، وتواضعًا شريفًا بحيث يأنف عن طرح زبل داره بنفسه، وكان ملازما لتلاوة القرآن رضي الله عنه، وعوضه فراديس الجنان)[11].

وخلاصة القول إن كتاب (نصح ملوك الإسلام بالتعريف بما يجب عليهم من حقوق آل البيت الكرام) لمحمد بن أبي غالب ابن السكاك المكناسي (ت 818هـ)، غزير الفوائد في موضوع أهل البيت، وقدم معطيات تاريخية مركزة عن الأشراف في المشرق والمغرب، متتبعا حضورهم ومواقعهم الاجتماعية والسياسية إبان فترة حكم سلاطين زمانهم.

وهذا الكتاب لا يستغني عنه الدارسون المعتنون بتاريخ أهل البيت وعلاقتهم بالسلطات الحاكمة، كما زودنا بإفادات كثيرة عن الأشراف المستقرين بالمغرب وعن مكانتهم المعتبرة والأدوار الاجتماعية التي اضطلعوا بها إبان العصر المريني في فاس وسبتة وغرناطة.

والجدير بالتنويه أن هذا الكتاب لقي اهتمامًا كبيرًا من قبل كثير من العلماء الذين وجدوا فيه ضالتهم العلمية، كما اعتمده المؤرخون والنسابون في كتبهم، واقتبسوا منه معلومات وفوائد كثيرة لا توجد في غيره، ومن أولئك العلماء:

ـ عبدالسلام بن الطيب بن محمد القادري الحسني (ت 1110هـ) في كتابه: (المقصد الأحمد في التعريف بابن عبد الله أحمد).

ـ محمد بن الطيب القادري (ت 1187هـ) في كتابه: ( لمحة البهجة العلية في بعض أهل النسبة الصقلية).

ـ عبدالواحد بن محمد الفاسي الفهري (ت 1213هـ) في كتابه: (غاية الأمنية وارتقاء الرتبة العلية، في ذكر الأنساب الصقلية).

ـ محمد الطالب بن الحاج السلمي المرداسي (ت 1274هـ) في كتابه: (الإشراف على بعض من بفاس من مشاهير الأشراف).

ـ محمد بن جعفر بن الكتاني (ت 1345هـ) في كتابه: (سلوة الأنفاس ومحادثة الأكياس بمن أقبر من العلماء والصلحاء بفاس).

ـ  عبدالرحمن بن محمد ابن زيدان العلوي (ت 1365هـ) في كتابه: (إتحاف أعلام الناس بجمال أخبار حاضرة مكناس).

ويحسن التذكير في الورقة التعريفية هاته، أن الكتاب ـ حسب المؤلف ـ له ثلاثة أوضاع في موضوع حقوق أهل البيت الكرام: المطول والمتوسط والصغير.

ومن حسن حظ هذا الكتاب أن له نسخا كثيرة، بعضها في الخزانات الخاصة، والأخرى محفوظة في أهم الخزانات العلمية التالية:

  • مكتبة الاسكوريال. مدريد. رقم: 384 (ضمن مجموع 59).
  • المكتبة الوطنية. الرباط. أرقام: 772د ـ 1484د ـ 4114د ـ 4255د ـ 1244ك ـ 250ك ـ 383ك. ميكروفيلم رقم: 1604.
  • الخزانة الحسنية. الرباط. رقم: 159 ـ 382 ـ 1175 ـ 1258 ـ 3545 ـ 6663 ـ 12127.
  • مؤسسة علال الفاسي. الرباط. رقم: 778ع.

وقد ظهر كتاب (نصح ملوك الإسلام بالتعريف بما يجب عليهم من حقوق آل البيت الكرام)  في عالم المطبوعات قديما بالمغرب، وتم نشره في المطبعة الحجرية بفاس سنة 1316هـ/ 1898م. ويقع في 33 صفحة.

وتوجهت عناية بعض الدارسين في السنوات الأخيرة إلى تحقيقه، وظهرت منه نشرتان محققتان:

الأولى بتحقيق الدكتورة نزهة المروني العلمي الإدريسي. صدرت عن دار الإمام المخلوفي تحت رعاية الشرفاء الأدارسة (جهة الشرق). وجدة أنجاد. 1438هـ/2016م.  يضم151 صفحة.

الأخرى بتحقيق للدكتور محمد ناجي بنعمر. نشرته كلية الآداب والعلوم الإنسانية. أكادير. 1439هـ/ 2018م. يتألف من 142 صفحة.

 ——————————————————————————

[1]  نصح ملوك الإسلام بالتعريف بما يجب عليهم من حقوق آل البيت الكرام.  17.

[2]  نصح ملوك الإسلام بالتعريف بما يجب عليهم من حقوق آل البيت الكرام. 130.

[3]  نصح ملوك الإسلام. 42.

[4]  نصح ملوك الإسلام. 19.

[5]  نصح ملوك الإسلام. 19.

[6]  نصح ملوك الإسلام. 20.

[7]  نصح ملوك الإسلام. 21.

[8]  نصح ملوك الإسلام. 42.

[9]  نصح ملوك الإسلام. 72.

[10]  نصح ملوك الإسلام. 137.

[11]  نصح ملوك الإسلام. 125.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق