مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكمعالم

الكراسي العلمية بجامعة القرويين ودورها في تقريب المذهب والعقيدة والسلوك

   

منذ أن أُسس جامع القرويين سنة 245 هـ على يد فاطمة الفهرية وهو منارة للعبادة والعلم والمعرفة؛ إذ لم تمض خمسون سنة على تأسيسه حتى أخذ صبغة الجامع العلمي الذي أصبح الناس يقصدونه من كل حدب وصوب لأجل الدراسة والإفادة والنهل من مختلف صنوف المعرفة والعلوم الإسلامية التي عادت تحفل بها هذه المعلمة الدينية والحضارية منذ ذلك الوقت، وقد ساعد على ذلك ازدهار العمران في مدينة فاس؛ المدينة التي أصبحت محط استقبال للعديد من المهاجرين خاصة الأندلسيين منهم، وقد كان من بينهم مجموعة من العلماء والفقهاء والأدباء الذين تشكلت منهم مجالس العلم والتعليم داخل الجامع خصوصا في عهد السلطان الإدريسي أبي زكريا يحيى الملقب بالأكبر بن الإمام إدريس والذي كان ملكا محبوبا بالنظر لسلوكه بين الناس؛ وقد كثرت في أيامه العمارات بفاس، وقصد إليها الناس من الأندلس وإفريقيا وسائر بلاد المغرب؛ لما علموه من فضله وعدالته ومحبته للغرباء وكثرة ما كان في وقته من الرخاء، ففي عهده ـ وكما يصف ذلك الشيخ محمد عبد الحي الكتاني ـ “ضاقت فاس بسكانها حتى بنى الناس الأرباض بخارجها، وبنى [هو] بنفسه الجوامع والحمامات والفنادق والحوانيت للتجار” [ماضي القرويين ومستقبلها، ص: 24]. كما أن ظروفا سياسية شهدتها بعض الأقطار الإسلامية كان لها دور بارز في تحريك همم العديد من الأساتذة والعلماء الأجلاء للوفود إلى فاس خاصة بعد علمهم بالقرويين التي أتوا إليها بقصد تلقين المعرفة بها؛ وهو أمر دفع بهذه المعلمة نحو التميز منذ ذلك الوقت، فـ “عندما ضاق علماء قرطبة بسياسة الأمويين لجأوا إلى فاس ليصبحوا أساتذة بالقرويين. وحين حلت الأزمات بالأغالبة بتونس فزع علماؤها إلى فاس ليجدوا لهم في القرويين ملجأ علميا ينشرون فيه المعرفة ويذيعون العلم، وبذلك ورثت القرويين علم قرطبة والقيروان في وقت مبكر من إنشائها”، ومن المرجح أن يكون التدريس قد بدأ بهذه المعلمة منذ منتصف القرن الثالث الهجري وهو ما ذهب إليه الدكتور عبد الهادي التازي في كتابه “جامع القرويين” ويتأكد هذا بمجموعة من القرائن منها:

أولا: أن الاتساع العمراني والتطور الذي شهدته فاس في تلك الفترة لا يمكن إلا أن يكون مصحوبا بحركة علمية، خاصة وأن المسلمين آنئذ اهتموا بإشاعة الثقافة الإسلامية أكثر من اهتمامهم بالبناء وتشييد العمران، وازدهار هذا الأخير في هذه الفترة ما هو إلا انعكاس لنضج الثقافة الإسلامية بهذه المدينة التي شهدت ـ قبل القرويين ـ مسجدين كانا مركزين هامين للدعوة الإسلامية بالإضافة إلى تأديتهما لمهمة الصلاة وقراءة القرآن وتدارس العلم، وهذان المسجدان وهما: “مسجد الشرفاء” بالعدوة الغربية، و”مسجد الأشياخ” بالعدوة الشرقية أسسهما المولى إدريس الثاني، وحينما ضاق المسجدان بالناس قيض الله تعالى لفاس جامع القرويين الذي أُسس لأجل أن يكون مقاما للعبادة والعلم معا، فمؤسسته فاطمة الفهرية طيلة مدة بنائه لم تزل صائمة قائمة راجية من الله العلي القدير أن يبقى مسجدها عامرا بالعبادة والعلم والمعرفة، فاستجاب الله تعالى دعائها فكان كما أرادت.

ثانيا: أن المولى إدريس حينما بنى مدينة فاس وفد إليها عدد من الأندلسيين والقيروانيين مما جعله يخصص القطاع الشرقي منها لأهل الأندلس وهو ما يعرف بعدوة الأندلس، بينما خصص القطاع الغربي منها لأهل القيروان وسمي بعدوة القيروان، وبالنظر للعدد الكبير الذي وفد إلى فاس في تلك الفترة من الجهتين لا نعدم وجود علماء من بينهم، وهو ما سيشكل نواة لإشاعة العلم والمعرفة داخل هذه المدينة مما ستتفتق أزهاره فيما بعد، فمنذ بناء العدوتين سنة 192هـ إلى سنة 245هـ تاريخ تأسيس القرويين شهدت فاس حركة علمية لا بأس بها خاصة مع وجود مجموعة من العلماء الأجلاء الذي استقروا بهذه المدينة في هذه الفترة، ومعلوم أنه حيثما حلّ العلماء وُجد من يأخذ عنهم من الطلبة؛ لذلك فنستبعد ألا تكون ثمة حلقات علم داخل القرويين في هذه الفترة خاصة مع وجود مجموعة من العلماء؛ ومن بين العلماء الذين كانوا في هذه الحقبة نذكر الإمام الحافظ والثقة الشاعر أبا عبد الرحمن بكر بن حماد التاهركي (ت296هـ)، والفقيه العالم يحيى الرابع (ت307هـ).

ثالثا: أن في الوقت الذي بنت فيه فاطمة الفهرية الجامع عملت أختها مريم ـ بالإضافة إلى بنائها لمسجد الأندلس ـ على اقتناء مجموعة كبيرة من الكتب في العديد من العلوم وحبّستها على جامع القرويين، ولا يمكن أن تتوفر هذه الكتب إلا مع وجود حركة علمية تقتضي هي الأخرى وجود عدد لا بأس به من العلماء والطلبة الذين يتلقون عنهم ويدرسون تلك المؤلفات والنساخ الذين ينسخون تلك المؤلفات، فوجود خزانة داخل القرويين منذ وقت مبكر هو ترجمة للحركة العلمية التي شهدتها القرويين منذ تأسيسها، ولو لا هذه الحركة العلمية لما وجدت هذه الخزانة منذ ذلك الوقت.

إن هذه القرائن التاريخية التي بين أيدينا تشهد مجتمعة وتُرجح بأن التدريس بالقرويين قد بدأ فعلا منذ أواسط القرن الثالث الهجري، إذ لا يعقل أن يكون بالجامع علماء وخزانة تتضمن الكثير من الكتب في مجموعة من العلوم ولا يكون ثمة حلقات للتعليم، خاصة لو علمنا أن المسجد من رسالته الأولى في الإسلام ـ بالإضافة إلى إقامة الصلاة به ـ تدريس القرآن ومدارسة علومه؛ وهو الأمر الذي كان في القرويين فعلا منذ بداية تأسيسه فتطور ليشمل علوم العربية والأصول والتفسير والفقه وغيرها. فرغم شح الوثائق التاريخية التي قد تؤرخ لنا للحركة العلمية داخل القرويين في هذه الفترة إلا أن القرائن التي ذكرنا كافية بأن تُبرز لنا مدى انتعاش وازدهار الحركة العلمية التي شهدتها القرويين منذ ذلك الوقت، ويمكن أن نعتبر هذه الفترة أولى المراحل العلمية التي عرفها الجامع. بعد ذلك جاءت مرحلة ثانية امتدت من منتصف القرن الرابع إلى حدود منتصف القرن السابع الهجري، وفي هذه الفترة ازدادت الحركة العلمية وذلك بازدياد العلماء والفقهاء، وهو ما جعل صفة الجامع العلمي لهذه المعلمة تتطور أكثر فأكثر؛ ومن بين الفقهاء الأجلاء الذين حفلت بهم القرويين في هذه الفترة نجد عالم فاس وفقيهها وصالحها دراس بن إسماعيل (ت357هـ) الذي كان له دور هام في تحريك الحركة العلمية داخل القرويين؛ إذ إن مكانته العلمية جعلت الكثير من الدارسين يفدون إليه من مختلف البقاع وكان من بينهم الشيخ بن أبي زيد القيرواني صاحب الرسالة، وقبل دراس كان الشيخ إبراهيم بن عثمان أبو القاسم الوزاني (ت346هـ)، وأيضا من الأعلام الذين عرفتهم القرويين في هذه الحقبة الشيخ أبو جيدة اليزغيني (ت360هـ)، وكذا الشيخ أبو عبد الله محمد بن محمود الهواري قاضي فاس، وفي الفترة نفسها بزغ نجم الشيخ المجتهد أبو عمران الفاسي (ت430هـ) أحد كبار الأعلام الذين تشرّف بهم جامع القرويين، وقد كان من أعلم الناس في وقته وأحفظهم، بلغ درجة الاجتهاد في المذهب المالكي، أخذ عنه كثير من التلامذة من مختلف مناطق المغرب ممن كان لهم باع كبير في العلم والمعرفة؛ وهو وإن اشتهر بالقيروان التي استوطنها وتصدر العلم بها إلا أن بدايته الأولى انطلقت من القرويين؛ فنشأته كانت في فاس وبيته بها مشهور، ومن بين من تخرج على يده؛ عبد الله بن ياسين مؤسس الدولة المرابطية، وهو ما يبرز لنا الدور العلمي والاجتماعي والسياسي الذي اضطلعت به القرويين منذ ذلك الحين. بعد هذه المرحلة، جاءت مرحلة أخرى ازدهرت فيها الحركة العلمية بالقرويين أكثر من ذي قبل وهي مرحلة العهد المرابطي التي يمكن أن نعتبرها مرحلة ذهبية تُوجت بها المراحل العلمية السابقة، خاصة بعد أن اتحدت الأندلس مع المغرب وأصبح العلماء يقبلون على القرويين من الضفة الأخرى إقبالا، مما جعل التعليم يزدهر بهذه المعلمة بشكل واضح. وفي عصر الموحدين ـ خاصة أيام الخليفة يعقوب المنصور ـ قامت بالقرويين حركة علمية كبيرة وُسمت بالدعوة إلى الرجوع إلى الأصول وترك كتب الفروع التي طغت على الساحة الفكرية للقرويين زمن المرابطين، فكانت لهذه الحركة الأصولية آثارها الإيجابية في رد الناس إلى القرآن والحديث وعدم الاكتفاء بالفروع، وهو ما جعل علوم القرآن وعلوم الحديث تزدهران بالقرويين في هذه الفترة وتأخذان المكانة اللائقة بهما. ومع حلول العهد المريني بدأت مرحلة جديدة للقرويين يمكن اعتبارها مرحلة الأوج بالنسبة لهذه المعلمة؛ وذلك بسبب ما شهدته هذه المعلمة من حركة علمية واسعة شملت مختلف صنوف المعرفة. وقد كان مذهب المرينيين في هذه الفترة الرجوع إلى كتب الإمام مالك، كما حرصوا منذ البداية على أن تكون القرويين مركزا علميا كبيرا؛ فعملوا لأجل ذلك مجموعة من التدابير، أهمها: توفير الإقامة للطلاب الذين أخذوا يتوافدون أكثر من ذي قبل على القرويين، كما عمل سلاطين المرينيين على نقل عشرات الآلاف من نفائس المخطوطات من الأندلس إلى فاس، وعملوا أيضا على إنشاء العديد من المدارس والمعاهد هنا وهناك، فكانت فاس بحق عاصمة المغرب العلمية. وفي هذه الفترة اكتملت ملامح الشخصية الدينية للمغرب واستقر أمر المغاربة على توحيد اختياراتهم التدينية؛ حيث تم القضاء على شتى الاختلافات التي كانت قائمة قبلُ، مذهبية وعقدية؛ فاستقر الأمر على المذهب المالكي في المعاملات، وعلى طريقة الأشعري في المعتقدات، وعلى السلوك السني في الأخلاقيات، إلى جانب ما يخدم هذه العلوم الثلاثة وما يتفرع عنها من تفسير، وحديث، وقراءات، ولغة، وأصول، وسيرة…الخ، بالإضافة إلى علوم: المنطق، والفلك، والطب، والرياضيات، والكيمياء، والفيزياء، والهندسة، والرياضيات، والفلسفة، وغيرها.

وأمام هذا الازدهار العلمي الذي عرفته القرويين في هذه الفترة ستبرز ظاهرة علمية فريدة سيكون لها أثر واضح في خدمة الشخصية الدينية للمغرب بمختلف تجلياتها، وسيستمر أثرها ومداها إلى اليوم وهي ظاهرة الكراسي العلمية التي كان لها دور بارز في خدمة الثقافة الإسلامية في عمومها بمختلف تفريعاتها المعرفية، وكذا في ترسيخ قيم التدين في جوانبه العملية والعقدية والسلوكية كما اختارها المغاربة وذلك من خلال تخصص بعض منها في جانب من هذه الجوانب، حيث كانت ثمة كراسي لتدريس كتب الفقه المالكي، وأخرى لتدريس متون في العقيدة الأشعرية، وأخرى لتدريس كتب التصوف. وهذه الكراسي هي بمثابة مناصب علمية تُخصص لتدريس علم من العلوم أو كتب معينة، تُحبّس عليها أوقاف يستفيد منها الأساتذة والطلبة، ويرجع تأسيس هذه الكراسي إلى عام 651هـ/1253م حين تم إنشاء أول كرسي للأستاذية لتفسير الثعالبي، وكتاب حلية الأولياء لأبي نُعيم. وسبب تأسيس هذا الكرسي أن بعض أئمة الجامع في عهد الدولة المرينية “كان يُقرأ بين يديه أول النهار تفسير القرآن للثعالبي وحلية الأولياء لأبي نعيم وذلك في خاصة منه. وكان له قارئ حسن الصوت، وكان يحضر بعض الناس، وكانوا يجلسون في المسجد حلقا حلقا، وربما يأخذون في أمر الدنيا إلى أن تطلع الشمس فينصرفون. فأشار هذا الإمام على القارئ المذكور أن يتصدر قرب المحراب في الوقت المذكور، ويقرأ هناك من هذه الكتب فصولا لإسماع الناس. فاجتمع إليه سائر من يجلس به، وانتفع الناس بذلك، فاُعلِم بذلك من كان إذ ذاك من خلفائهم فاستحسن ذلك وأجرى لقارئ ذلك جراية، فاستمرت على ذلك إلى الآن. وهذا الكرسي اليوم يقرأ فيه تفسير الثعالبي والشفا والصحيح وروض الحرفيش” [ماضي القرويين ومستقبلها، للشيخ محمد عبد الحي الكتاني، ص: 69]، ثم توالى بعد ذلك تأسيس بقية الكراسي العلمية التي عرفتها جامعة القرويين، ومن الأسباب التي أدت إلى بروز هذه الظاهرة ـ بالإضافة إلى السبب السابق ـ حاجة العلماء إليها من أجل تلقين طلبتهم خاصة حينما يكثر عددهم، فقد كانت بعض مجالس العلم بالقرويين في هذه الفترة يناهز عدد حاضريها الآلاف من الناس، فكان ضروريا للمدرس أن يتخذ شيئا يعلو عليه حتى تعم الفائدة الجميع، وقد كانت الانطلاقة الفعلية لهذه الكراسي مع السلطان أبي عنان المريني الذي كان “يعقد ـ كما يقول ابن بطوطة ـ مجالس العلم كل يوم بعد صلاة الصبح، ويحضر لذلك أعلام الفقهاء ونجباء الطلبة، فيقرأ بين يديه تفسير القرآن العظيم وحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم وفروع مذهب مالك رضي الله عنه وكتب المتصوفة…” [جامع القرويين، عبد الهادي التازي، ج2، ص: 368]، وقد شهدت كل من القرويين والجامع الأعظم من فاس الجديد وكذا المدرسة البوعنانية حركة علمية واسعة كان للسلطان الدور الأبرز في تشجيعها. والكراسي العلمية في بدايتها لم تكن محدّدة في منهج دراسي يلتزم به الأستاذة والطلبة وإنما كانت مجالس مفتوحة، إلى أن قُنّنت فيما بعد وتطور مفهوم الكرسي وأصبح عبارة عن منصب هام له طقوسه، كما كثرت الكراسي وتخصص كل واحد منها بجانب من المواد العلمية، وبالإضافة إلى القرويين كانت هناك العديد من المدارس في فاس التي شهدت هي الأخرى كراسي علمية كانت تابعة لكراسي القرويين، ومن هذه المدارس: مدرسة الحلفاويين، ومدرسة الصهريج، ومدرسة العطارين، ومدرسة الخصة، ومدرسة أبي عنان، ومدرسة الوادي، بالإضافة إلى الكراسي التي كانت في مساجد فاس والتي كانت هي الأخرى تابعة للقرويين. هكذا فقد تعددت الكراسي العلمية في مدينة فاس سواء تلك الموجودة في القرويين والتي بلغ عددها ثماني عشرة كرسيا، أو التي كانت في المساجد والمدارس، فقد تحدث الأستاذ عبد الهادي التازي في تاريخ جامع القرويين عن فاس ذات المائة والأربعين كرسيا من كراسي العلم التي كانت تنتظم فيها حلقات الدرس يومئذ، موزعة في المساجد الكبرى والصغرى والمدارس بالإضافة إلى جامع القرويين. فقد كانت بهذه المدارس كراس للدروس يجلس عليها علماء متخصصون وقد كانت بمثابة فروع لجامع القرويين مكملة لبرامج التكوين العلمي أو لبرامج التوعية والتوجيه الديني. [ينظر: ندوة: جامعة القرويين وآفاق إشعاعها، جامعة القرويين رسالة حضارية، محمد الكتاني، ص: 139]  وقد كانت ولاية كرسي التدريس بالقرويين بعد تطورها خاصة في العهد السعدي والعهد العلوي تعتبر منصبا ساميا، لا تصدر إلا عن السلطان أو ولي عهده، وقد كانت ولاية الكرسي “أمرا ذا بال وبالغ الأهمية، لأنه كان بمثابة ولاية حكومية لا تقل عن منصب القضاء والفتيا والوزارة، ولذلك كان الحصول عليه يستدعي عدة مؤهلات” [جامع القرويين، عبد الهادي التازي، ج2، ص: 371]. وهو ما يبرز لنا القيمة التي حظيت بها هذه الكراسي، والأهمية التي تبوأتها بالنظر للرسالة السامية التي حملها وعلى طليعتها حماية الثوابت الدينية للبلاد والعمل على نشرها بين أبناء الأمة خاصة ما يتعلق منها بجانب المعاملات، والمعتقدات، وما يرتبط بالجانب الأخلاقي.

هكذا فقد شكلت الكراسي العلمية بالقرويين وبفروعها بفاس أهمية بالغة في تقريب مبادئ الفقه المالكي، وفصول العقيدة الأشعرية، وأصول التصوف السني وذلك من خلال ما تخصص منها في كل من هذه العلوم الثلاثة. وأهم تجل من تجليات هذا التقريب كون علماء القرويين كانوا يأخذون كتابا من الكتب في فن من هذه الفنون الثلاثة ـ وفي غيرها ـ ويشرحونه بما يتناسب وفهوم طلبتهم ممن يحضر مجالسهم، كما أن التدريس بهذه الكراسي كان سببا رئيسا في وضع نمط خاص في التأليف كان المراد منه تقريب العلوم إلى أبعد الحدود وهذا النمط هو ما يعرف بالحواشي، فكثير من هذه الأخيرة كانت تُؤلَّف نتيجة للتدريس ضمن نظام الكراسي حيث نجد الشيخ يدرس طلبته إحدى الكتب الشارحة فيريد تقريب مضامينها لهم بصورة أكثر وضوحا وأكثر تيسيرا فيعمد إلى وضع شرح عليها ليزيد من تمكين المضامين في ذهنيتهم، وأحيانا نجد الطلبة هم من يدونون حواشي أساتذتهم نقلا عن مشافهاتهم إياهم أثناء التدريس، وهذا النوع من التأليف هو من أعلى مراتب التقريب التي مارسها علماء القرويين وقد كانت الكراسي أحد أبرز الأسباب التي أدت إلى ظهورها، كما أن من تجليات إسهام الكراسي العلمية في تقريب مضامين التدين للناس كونها شملت الكثير من الطلبة بمختلف فئاتهم ومن عدد من مناطق المغرب، واستطاع العلماء من خلال هذه الكراسي أن يبثوا مبادئ التدين وفق الاختيارات التي اتفق عليها المغاربة في ذهنية هؤلاء الناشئة فكانوا يجتهدون ما أمكنهم من خلال دروسهم ليقربوا لهم مضامينها الكبرى فرَبَّوا بذلك أجيالا على هذه الثوابت وهؤلاء بدورهم أصبحوا علماء عملوا هم أيضا على تقريب ما حصلوه للأجيال المتوالية في مختلف مدن المغرب؛ فأبرز علماء المغرب كانوا يتخرجون من القرويين كما هو معلوم وكانوا يتباهون بذلك وكان من لم يتخرج منها يفوته الكثير من الفخر، وهكذا يبرز لنا الدور الكبير الذي لعبته الكراسي العلمية في تقريب مضامين الفقه المالكي والعقيدة الأشعرية والتصوف السني في مختلف مناطق المغرب وسيظهر لنا هذا أكثر حين سنعرض لتفاصيل هذه الكراسي التي دُرست بها هذه العلوم، ومن المهم جدا هنا أن نعلم أن الكراسي العلمية بالقرويين كانت تُعقد في ثلاثة أصناف: “كراسي الناحية الجنوبية (جهة القبلة) تختص بالدراسات العليا، وكراسي الجدار الشرقي والشمالي للدروس الثانوية، وكراسي الجدار الغربي للدروس الأولية” [جامع القرويين، عبد الهادي التازي، ج2، ص: 371]. وكل هذه المستويات كانت تُدرس بها مؤلفات تناسب مستوى طلبتها في كل من العلوم المدروسة، ومن هنا تبرز لنا أهمية هذه الكراسي في خدمة هذه العلوم وتقريبها لمختلف الفئات التي كانت تدرس بالقرويين والدور الذي لعبته في توحيد تمثل المغاربة للدين أصولا وفروعا، وسنتناول هذه الكراسي بحسب ما تضمنته من هذه العلوم الثلاثة لنكشف عن تجليات التقريب التي لعبته هذه الكراسي بخصوص مضامين هويتنا الدينية فقها وعقيدة وسلوكا.

أولا: الفقه المالكي: حظي الفقه المالكي ومؤلفاته بنصيب الأسد ضمن ما كان يدرس بالكراسي العلمية، ومن بين المواد الفقهية التي تضمنتها هذه الكراسي نجد في طليعتها:

أ) كتاب “الرسالة” لابن أبي زيد القيرواني (ت386هـ) الذي كان يدرس في معظم الكراسي العلمية بالقرويين، وكذلك في الكثير من الكراسي العلمية داخل مدارس فاس وجوامعها التي كانت تابعة لها، ومن بين كراسي القرويين نذكر: كرسي الورياكلي الذي كانت تُدرس فيه بعد صلاة الظهر، وكرسي باب الصالحين (الأيسر) كانت تدرس فيه بالليل؛ وممن اختص بتدريسها فيه الشيخ الدكالي المشترائي، وكرسي ظهر الخصة كانت تدرس فيه بعد الصبح، وكرسي باب الشماعين، وكرسي ظهر الصومعة؛ وممن درّسها فيه الشيخ مولاي أحمد العمراني، وكرسي الونشريسي، وكرسي الركن الشمالي الشرقي كانت تدرس فيه في فصل الشتاء، وكرسي العنزة، بالإضافة إلى المجالس التي عرفتها بعض الجهات في القرويين مما لم يرق إلى درجة الكراسي، ومن هذه المجالس ما اختص بالرسالة ومنها مجلس الرسالة عند باب الرواح الأوسط كان بيد الشيخ يعقوب البدري (ت999هـ). أما خارج القرويين فقد كانت ثمة العديد من الكراسي العلمية في معاهد فاس العلمية ومساجدها التي كانت تابعة للقرويين وهذه الكراسي كانت منبثة “في خلايا الأزقة وأعماق الدروب، لكي  توفّر على الناس الخروج ـ وخاصة في فصول البرد والحر ـ إلى المساجد الكبرى، ولتخفف الازدحام عليها. ولكي تضمن في الوقت نفسه صلتهم  التامة بمعلوماتهم العامة” [جامع القرويين، عبد الهادي التازي، ج2، ص: 384]. وغالبية هذه الكراسي دُرّست بها الرسالة، ومن بينها: كرسي مدرسة الصهريج ومن بين من درّس به الرسالة الشيخ الصوفي إبراهيم التازي (ت748هـ)، وكرسي مسجد الأندلس (باب اشنيخن) كانت تدرس فيه بين العشاءين، وكذا كرسي (العنزة بنفس المسجد)، بالإضافة إلى كرسي باب عجيسة الذي كان فيه كرسي خاص لقراءة الرسالة، وكرسي مسجد تميم الذي كان موقوفا في الأساس على إقرائها، وكرسي مسجد الدرب الطويل الذي كان حبسا في الأصل على تدريسها، وغيرها من الكراسي التي كانت تُدرَّس بها.

ثانيا: العقيدة الأشعرية: لقد نال الدرس العقدي على طريقة الإمام الأشعري  نصيبا وافرا هو الآخر من حصص الدرس بالكراسي العلمية داخل القرويين، وقد حاز هذا الجانب أهمية بالغة لدى علماء القرويين منذ العهود الأولى، وخير مثال على ذلك الأجوبة الكلامية الشافية التي كان يبديها أبو عمران الفاسي في عدد من القضايا الكلامية في وقته، ومثالها المسألة التي جرت في الكفار هل يعرفون الله أو لا؟ والتي وقع فيها تنازع عظيم بين العلماء، وتجاوز ذلك إلى العامة، وكثر التمادي بينهم، حتى كان يقوم بعضهم إلى بعض في الأسواق، ويخرجون عن حد الاعتدال إلى القتال. وكان أنهجهم بذلك رجل مؤدب يركب حماره، ويذهب من واحد إلى آخر. فلا يترك متكلما ولا فقيها إلا سأله فيها وناظره. فقال قائل: لو ذهبتم إلى أبي عمران لشفانا من هذه المسألة. فقام إليه أهل السوق بجماعتهم، حتى أتوا باب داره واستأذنوا عليه، فأذن لهم. فقالوا له: أصلحك الله، أنت تعلم أن العامة إذا حدثت بها حادثة، إنما تفزع إلى علمائها. وهذه المسألة قد جرى فيها ما بلغك، وما لنا في الأسواق شغل إلا الكلام فيها. فقال لهم: إن أنصتّم وأحسنتم الاستماع أجبتكم بما عندي، قالوا له: ما نحب منك إلا جوابا بينا على مقدار أفهامنا. فقال لهم: بالله التوفيق، وقال: لا يكلمني منكم إلا واحد، ويسمع الباقون. فقصد واحدا منهم فقال له: رأيت لو لقيت رجلاً فقلت له: أتعرف أبا عمران الفاسي؟ فقال: أعرفه. فقلت: صفه لي، قال هو: رجل يبيع البقل والحنطة والزيت في سوق ابن هشام، وسكن صبرة أكان يعرفني؟ قال: لا، قال: فلو لقيت آخر فقلت: تعرف الشيخ أبا عمران؟ قال: نعم. فقلت: صفه لي، فقال: نعم. رجل يدرس العلم ويدرسه، يفتي الناس ويسكن بقرب السماط، أكان يعرفني؟ قال: نعم. قال: والأول ما كان يعرفني؟ قال: لا. قال لهم الشيخ: كذلك الكافر، إذا قال إن لمعبودٍ صاحبة وولدا وأنه جسم، وعبد بعبادته من هذه صفته. فلم يعرف الله، ولم يصفه بصفاته. ولم يقصد بالعبادة إلا مَن هذا صفته يلد، وهو بخلاف المؤمن الذي يقول إن معبوده: الله، الأحد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد. فهذا قد عرف الله، ووصف بصفته. وقصد بعبادته من يستحق الربوبية سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون، علوا كبيرا. فقامت الجماعة وقالوا له: جزاك الله خيرا من عالم. فقد شفيت ما بنفوسنا، ودعوا له ولم يخوضوا في المسألة بعد هذا المجلس” [ترتيب المدارك، ج3، ص: 498]. فهذه الحكاية مثال حي ونموذج واضح يكشف لنا عن الدور الكبير الذي اضطلع به علماء القرويين منذ القديم في حماية المعتقد وتقريبه للناس بحسب فهومهم ومستوياتهم وتصوراتهم. ويتبين من الحكاية أن الدرس العقدي كان له نصيب وافر من عناية علماء القرويين منذ وقت مبكر، وقد عملوا ـ بحسب ما يظهر منها ـ ما بوسعهم لتقريب مضامين العقيدة الأشعرية للطلبة وشرحوا لهم فصولها بما تتضمنه من مباحث عقيدة السلف الصالح، وقد كانت لبعض مؤلفاتهم في العقيدة الأشعرية مكانة خاصة داخل القرويين بحيث أنشئت لها كراسي وجبّست عليها أوقاف، ومن المؤلفات العقدية التي كانت تدرس بكراسي القرويين نجد: صغرى الشيخ السنوسي الموسومة بـ “أم البراهين” التي كانت تُدرس بعدد من الكراسي منها كرسي الورياكلي، وكرسي باب الحفاة كانت تدرس به بعد العصر، وغيرهما من الكراسي، بالإضافة إلى كبرى السنوسي، وكذلك منظومة ابن زكري في التوحيد درّسها الشيخ يحيى السرّاج في كرسي مستودع باب الحفاة، وممن درّس فيها هذه المنظومة كذلك الشيخ أبو القاسم بن أبي النعيم (ت1032هـ)، وقد دُرّست هذه المنظومة بشروح علماء القرويين أنفسهم خاصة بشرح الشيخ المنجور، وممن درس هذه المنظومة بهذا الشرح صاحب الشرح نفسه درّسها بكرسي باب الحفاة، بالإضافة إلى العديد من المؤلفات الأخرى.

ثالثا: التصوف: كان للتصوف مكانة خاصة بالقرويين وكانت الكراسي العلمية بها تعج بمؤلفات المتصوفة، ويكفي تدليلا على ذلك أن نورد كون رحلات المتصوفة المغاربة الأوائل كانوا من ضمن الأسباب التي أدت إلى بروز ظاهرة الكراسي، حيث يذكر التازي في معلمته حول سبب ظهور هذه الظاهرة بالقرويين أن عددا كبيرا من المغاربة: “حضروا مجالس العلم ببغداد، وشاهدوا المشايخ والعلماء والأساتذة، وهم يتربعون على الكراسي لإسماع المريدين، فلمَ لا يسنُّ أولئك المغاربة هذه العادة لمجالس علمهم؟ وقد حضر الشيخ أبو مدين مثلا مجالس الشيخ الكيلاني التي كان يتبوأ فيها كرسيه، فلابد أنه كما تأثر بالنواحي الروحية، تأثر بالنواحي الشكلية، ولابد أن تلامذته عملوا على نهج أساتذتهم” [جامع القرويين لعبد الهادي التازي، ج1، ص: 125]، ومشهور ومعروف أن الشيخ أبا مدين هو من أقطاب التصوف في المغرب كما أن الشيخ الكيلاني أو مولاي عبد القادر الجيلاني هو كذلك من كبار شيوخ التصوف، ومن هنا يظهر لنا الأثر الجلي الذي كان لمجالس الصوفية في إنشاء الكراسي العلمية داخل القرويين، هذا من جهة، ومن جهة ثانية نُسجل أن أول كرسي أُسس بالقرويين وهو كرسي الورياكلي كان من ضمن المؤلفات التي دُرست به لأول مرة حلية الأولياء لأبي نعيم الأصفهاني، وإحياء علوم الدين للإمام الغزالي، وهما مصدران هامان من مصادر علم التصوف، وهذا أيضا يبرز لنا العناية الفائقة التي حظي بها علم التصوف داخل القرويين منذ بداياتها، وقد كانت للمؤلفات الصوفية ذات المنحى السلوكي أهمية فائقة في برامج الكراسي العلمية، وكانت لها أوقاف تُحبّس عليها، ومن بين تلك المؤلفات: الحكم العطائية بشرح ابن عباد؛ فهذا الكتاب اعتُمد كثيرا لدى علماء القرويين، ومن ضمن الكراسي التي درس بها هذا التأليف كرسي المحراب كان يدرس به بعد الصبح، وبين العشائين، وكرسي ظهر الصومعة، وكرسي الونشريسي، وغيرها من الكراسي والمجالس التي اعتنى فيها أصحابها بهذا الكتاب، ومن الكتب المقررة كذلك كتاب إحياء علوم الدين للغزالي ـ كما سبق ـ كان يدرس في عدد من الكراسي منها: كرسي المحراب، وكرسي ظهر الصومعة. أما حلية الأولياء فكانت تُدرّس هي الأخرى بكراسي منها: كرسي المحراب، وكرسي ظهر الصومعة، وكرسي ظهر الخصة تلقى فيه  قبل صلاة العصر، كما كانت موقوفة على كرسي البلاط الثاني قبل صلاة العصر وبعد الصلاة. بالإضافة إلى كتاب الرسالة القشيرية، وكتاب الروض الفائق في المواعظ والرقائق للحريفش، درس بكرسي ظهر الخصة بعد صلاة العصر. وغير ذلك من المؤلفات التي تهم جانب السلوك السني وتُعنى بجانب تهذيب النفوس وتزكيتها.

إن عموم ما يمكن أن يقال عن القرويين وعن كراسيها العلمية هو أنها قد أسهمت إسهاما بارزا في تقريب مضامين الفقه المالكي، والعقيدة الأشعرية، والسلوك السني وذلك من خلال مدارستها للمؤلفات الخاصة بهذه العلوم، وقد كان لعلمائها الدور الأبرز في ذلك من خلال تبسيطهم لمضامين تلك العلوم من خلال مؤلفاتهم التقريبية التي ألفوها خاصة الشروح والحواشي التي ما بذلوا فيها الجهد إلا لأجل هذه الغاية وهي تقريب المضامين للطلبة المبتدئين في كل من العلوم المذكورة، وإلى حدود هذه الفترة كانت القرويين منارة في العلوم الثلاثة خادمة لأصولها وميسرة لفروعها، ويكفي لأجل التنصيص على الدور الذي لعبته القرويين في تقريب مضامين هذه العلوم لدى المغاربة كافة أن الجامعة بما تخرج من نظام كراسيها العلمية قد كانت محط استقبال للطلبة من جميع أنحاء المغرب بل ومن خارجه، فتكمن أهمية الكراسي العلمية في تقريب مضامين كل من الفقه المالكي والعقيدة الأشعرية والسلوك السني في كثرة من كان يرتاد الحضور للجلوس لعلماء هذه الكراسي؛ فالكراسي العلمية منذ تأسيسها بما تضمنته من مؤلفات في العلوم الثلاثة وهي تستقطب طلبة العلم من فاس ومن خارجها من مختلف مناطق المغرب، بل حتى من الخارج لينهلوا من حياض علومها من خلال ما يتلقونه فيها من علوم على يد علمائها الأفذاذ. ويكفي للتدليل على العدد الكبير من طلبة العلم الذين تخرجوا من القرويين “أن مصافحة عابرة لأولئك الأعلام الذين كانت لهم صلة بهذا المركز الثقافي الأول في بلاد المغرب، تكشف لك عن أن هذا المركز احتضن سائر الناس من كل الجهات سواء من أقاليم المغرب أو من خارج المغرب كذلك، فسنجد هنا الغماري والصنهاجي والتازي والفجيجي والطنجي الخ كما تجد التلمساني والسوداني والإشبيلي. وفي اختصار مقتضب نذكر أن كل قضاة المغرب بدون استثناء وعلماءه وفقهاءه، لهم صلة مباشرة أو غير مباشرة بالقرويين.. إسأل عن العلماء في الجبال، وعنهم في السهول والشعاب، تجدهم منتسبين إلى مكان بفاس، اسمه القرويين. [يُنظر جامع القرويين ج3، ص: 403]  ليس هذا فحسب فهي أيضا كانت جامعة مفتوحة بكراسيها العلمية أمام التجار والحرفيين والصناع الذين كانوا يجلسون بانتظام حول الكراسي العلمية لينهلوا من معينها خاصة تلك التي يعمل علماؤها على تيسير ما يفقه الناس في أمور دينهم مما يهم الجانب العملي في الدين بما في ذلك المعاملات والمعتقدات والأخلاقيات، وبذلك فقد كان للكراسي العلمية دور بارز في نشر الفقه المالكي وتقريبه وكذا العقيدة الشعرية والتصوف السني، في مختلف بقاع ومدن المملكة المغربية من خلال من تخرج منها من العلماء من مختلف هذه المناطق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق