وحدة الإحياءدراسات محكمة

السياق عند الأصوليين.. المصطلح والمفهوم

قد نظن لأول وهلة أننا بصدد البحث عن مفهوم لا يوجد إلا مقدرا في أذهاننا، أو أننا لسبب من الأسباب نسعى لأن نحمل الفكر الأصولي فوق ما يحتمله، فننسب له مجهودا ليس من صنعه وإنجازه.

ولكن سرعان ما يتبدد هذا الظن عندما تطالعنا شواهد صريحة لا تدع مجالا للشك في أننا بصدد البحث عن أحد أبرز أدوات الاستدلال الأصولي التي لها أهميتها البالغة في مجال الكشف عن مراد الله تعالى.

وأول ما يطالعنا من ذلك ما عنون به الشافعي، رحمه الله، بابا من أبواب رسالته الأصولية إذ قال: “باب الصنف الذي يبين سياقه معناه”[1] وأيا كان المقصود عنده من السياق هنا، وهو ما سيأتي الحديث عنه، فإن لهذه العبارة دلالتها في هذا المقام.

وناقش الإمام الزركشي حجية دلالة السياق، وذلك في مسألة خاصة بعنوان “دلالة السياق”[2] ضمن باب الأدلة المختلف فيها، وقال عن هذه الدلالة: “نكرها بعضهم ومن جهل شيئا أنكره، وقال بعضهم: إنها متفق عليها في مجاري كلام الله تعالى”[3]، كما عقد مسألة أخرى تساءل فيها “هل يترك العموم لأجل السياق”[4].

وبحث الإمام الشوكاني أيضا في المسألة الثامنة والعشرين عن إمكان التخصيص بالسياق ناقلا رأي الأئمة: الشافعي والصيرفي (توفي 330ﻫ) وتقي الدين بن دقيق العيد (توفي 702ﻫ) وعنون المسألة ب “في التخصيص بالسياق”[5].

أما ما ورد من نصوص صريحة في الحديث عن السياق، فيكاد يتفق على أسلوب واحد في التعبير عن وظيفة السياق في بيان المجملات وترجيح المحتملات وتقرير الواضحات:

نقل الإمام الزركشي عن الشيخ عز الدين بن عبد السلام (توفي 660ﻫ) قوله: “السياق يرشد إلى تبيين المجملات وترجيح المحتملات وتقرير الواضحات، وكل ذلك بعرف الاستعمال، فكل صفة وقعت في سياق الذم كانت ذما وإن كانت مدحا بالوضع كقوله تعالى: ﴿ذق إنك أنت العزيز الكريم﴾ (الدخان: 46)”[6].

وقال الشيخ ابن دقيق العيد: “أما السياق والقرائن فإنها الدالة على مراد المتكلم من كلامه، وهي المرشدة إلى بيان المجملات وتعيين المحتملات…”[7].

ونقل عنه الإمام الزركشي قوله ضمن استدلاله على بعض مجالات التخصيص بالسياق: “… لأن السياق مبين للمجملات مرجح لبعض المحتملات ومؤكد للواضحات… فليتنبه لهذا ولا يغلط فيه ويجب اعتبار ما دل عليه السياق والقرائن لأن بذلك يتبين مقصود الكلام”[8].

وصرح الشيخ ابن دقيق العيد في موضع آخر بأن دلالة السياق “لا يقام عليها دليل”[9] وفهم تأثيرها على النصوص الشرعية يعد قاعدة من قواعد أصول الفقه، ولكن قل من تكلم عنها وأعطاها حقها من الدراسة، قال: “فإن السياق طريق إلى بيان المجملات وتعيين المحتملات وتنـزيل الكلام على المقصود منه، وفهم ذلك قاعدة من قواعد أصول الفقه، ولم أر من تعرض لها في أصول الفقه بالكلام عليها وتقرير قاعدتها مطولة إلا بعض المتأخرين ممن أدركنا أصحابهم وهي قاعدة متعينة على الناظر ذات شعب على المناظر”[10].

ولعل هذا النص يعبر بوضوح عن القصور الحاصل في دراسة السياق عند الأصوليين وعدم إفراده بالعناية اللازمة به باعتباره وسيلة لا يستغنى عنها في الإرشاد إلى مقصود الشارع.

إن إهمال السياق برأي الإمام ابن قيم الجوزية يؤدي إلى الوقوع في الغلط والمغالطة، إذ يقرر تحت عنوان “فائدة”: “السياق يرشد إلى تبيين المجمل وتعيين المحتمل والقطع بعدم احتمال غير المراد وتخصيص العام وتقييد المطلق وتنوع الدلالة، وهذا من أعظم القرائن الدالة على مراد المتكلم فمن أهمله غلط في نظره وغالط في مناظرته فانظر إلى قوله تعالى: ﴿ذق إنك أنت العزيز الكريم﴾ (الدخان: 46)  كيف تجد سياقه يدل على أنه الذليل الحقير[11].

بل لا يليق بكلام الله وكلام رسوله أن يفهم بمعزل عن سياقه، قال الإمام الشاطبي موضحا ذلك: “.. كلام العرب على الإطلاق لابد فيه من اعتبار معنى المساق في دلالة الصيغ، وإلا صار ضحكة وهزءة، ألا ترى إلى قولهم: فلان أسد أو حمار، أو عظيم الرماد، أو جبان الكلب، وفلانة بعيدة مهوى القرط، وما لا ينحصر من الأمثلة لو اعتبر اللفظ بمجرده، لم يكن له معنى معقول، فما ظنك بكلام الله وكلام رسوله”[12].

إن النظر فيما تحمله هذه الشواهد من اعترافات واضحة بدلالة السياق وأهميتها البالغة في الكشف عن مراد الشارع ضمن مباحث الأصوليين في العموم والخصوص، والإطلاق والتقييد، والحقيقة والمجاز، والإجمال والبيان… يدفعنا ولا شك إلى التساؤل عما يقصده هؤلاء بهذا المفهوم/السياق، وما يعنون بدلالة السياق.

في محاولة الإجابة على هذا التساؤل، وبعد تتبع مجموعة من كتب الأصوليين، لاحظنا من خلال استعمالهم لهذه الكلمة/السياق أنها قد تظهر صيغة ومعنى ضمن أدواتهم في الاستدلال على مراد الله تعالى، كما أنها قد تختفي صيغة ولكنها تحضر معنى في أذهانهم وتظهر مغزى على لسان حالهم. لذلك قسمنا البحث في هذا الموضوع إلى قسمين: الأول في “السياق مصطلحا”، والثاني في “السياق مفهوما”.

السياق مصطلحا

إن إيمان الأصوليين بأهمية السياق في الكشف عن مراد الشارع جعلهم يستحضرونه في مسائل مختلفة وقضايا متنوعة، الشيء الذي صعب معه استقراء وتتبع مختلف استعمالات كلمة سياق ومعرفة المدلول الذي اعتمدوه بشأنها في هذا الموضع أو ذاك، خصوصا مع تعدد المصادر وغزارة المباحث وشساعة المجال.

فالناظر في أقوالهم المبثوثة هنا وهناك يلاحظ أن كلمة سياق ترادف عندهم كلمة سوق، وكلمة مساق، فيقولون: سياق الكلام، ومساق الكلام وسوق الكلام، وهي تأتي في الاستعمال الغالب للتعبير عن المعاني الآتية:

1. المعنى الأول

يقصد بالسياق ما يسبق أو يلحق ما هو موضع بيان أو تأويل، أو جملة العناصر المقالية المحيطة بالآية أو الجملة موضوع الدراسة.

 والشواهد على استعمال هذا المعنى كثيرة:

أ. أول ما يظهر منها ما سبق أن أشرنا إليه في عنوان باب من أبواب رسالة الإمام الشافعي الأصولية: “باب الصنف الذي يبين سياقه معناه[13]، وكان الإمام الشافعي قد أشار إجمالا إلى أن من أساليب العرب أنهم قد يطلقون لفظا ظاهرا ويعرف من سياقه أنه يراد به غير هذا الظاهر[14] وفي هذا الباب يفصل ذلك ويوضحه من خلال آيتين كريمتين: أولاهما قوله تعالى: ﴿وسئلهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تاتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تاتيهم، كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون﴾ (الاَعراف: 163).

قال: “فابتدأ جل ثناؤه ذكر الأمر بمسألتهم عن القرية الحاضرة فلما قال: ﴿إذ يعدون في السبت…﴾ الآية،  دل أنه إنما أراد أهل القرية لأن القرية لا تكون عادية ولا فاسقة بالعدوان في السبت ولا غيره، وأنه إنما أراد بالعدوان أهل القرية الذين بلاهم بما كانوا يفسقون”[15] فقد استرشد الإمام الشافعي بالسياق وهو هنا قوله تعالى: ﴿إذ يعدون في السبت…﴾ الوارد بعد ذكر القرية، لبيان أن المقصود أهل القرية لا القرية “لأن القرية لا تكون عادية ولا فاسقة”.

كما استرشد الإمام الشافعي بالدلالة نفسها أي السياق لفهم أن القصم إنما كان لأهل القرية الظالمين لا القرية نفسها في قوله تعالى في الآية الثانية: ﴿وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما اخرين، فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون﴾ (الاَنبياء: 11-12)، قال: “فلما ذكر أنها ظالمة بان للسامع أن الظالم إنما هو أهلها دون منازلها التي لا تظلم، ولما ذكر القوم المنشئين بعدها وذكر إحساسهم البأس عند القصم أحاط العلم أنه إنما أحس البأس من يعرف البأس من الآدميين[16].

ب. ذكر العالم الحنفي فخر الإسلام البزدوي (توفي 482ﻫ) دلالة سياق النظم ضمن الأنواع الخمسة التي تترك بها الحقيقة، ومثل لها بقوله تعالى: ﴿فمن شاء فليومن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا﴾ (الكهف: 29)، قال: “تركت حقيقة الأمر والتخيير بقوله تعالى: ﴿إنا أعتدنا للظالمين نارا﴾ وحُمل على الإنكار والتوبيخ مجازا”[17]، فالسياق، هنا، هو قوله تعالى: ﴿إنا أعتدنا للظالمين نارا﴾ الذي لحق بقوله تعالى ﴿فمن شاء فليومن ومن شاء فليكفر﴾ فعدل به من الحقيقة إلى المجاز برأيه، قال شمس الأئمة السرخسي (توفي 490ﻫ) في ذلك: “فإن بسياق النظم يتبين أن المراد هو الزجر والتوبيخ دون الأمر والتخيير، وكذلك قوله تعال: ﴿اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير﴾ (فصلت: 39) فإن بسياق النظم[18] يتبين أنه ليس المراد ما هو موجب صيغة الأمر بهذه الصفة، وعلى هذا لو أقر: لفلان علي ألف درهم إن شاء الله، لم يلزمه شيء”[19] لأن السياق، وهو صيغة التعليق إن شاء الله، أبطل موجب الإقرار في قوله: لفلان علي ألف درهم.

ج. تحدث العالم المالكي الشريف التلمساني (توفي771ﻫ) عن السياق وهو ما سماه أيضا بالقرينة السياقية ضمن أنواع القرائن المرجحة لأحد الاحتمالين، ومثاله ما احتج به الحنفية وبعض أصحاب المالكية على الإمام الشافعي في جواز انعقاد النكاح بلفظ الهبة انطلاقا من قوله تعالى: ﴿وامرأة مومنة إن وهبت نفسها للنبيء إن اَراد النبيء أن يستنكحها خالصة لك من دون المومنين﴾ (الاَحزاب: 50)، قال الشريف التلمساني بعد أن استحضر ما تقدم هذه الآية وما لحقها من الآيات: “فهذا السياق كله يدل على أن المراد بالخلوص هو ملك البضع من غير مهر لا اللفظ”[20].

د. من جملة ما ذكره الإمام الزركشي بخصوص حجية دلالة السياق أن الإمام أحمد احتج بهذه الدلالة على الإمام الشافعي في أن الواهب ليس له الرجوع في هبته من حديث (العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه)[21] “حيث قال الشافعي: هذا يدل على جواز الرجوع؛ إذ قيء الكلب ليس محرما عليه، فقال أحمد: ألا تراه يقول فيه “ليس لنا مثل السوء، العائد في هبته…” الحديث، وهذا مثل سوء فلا يكون لنا”[22]. فالسياق هنا كما أشار إليه الإمام أحمد هو قوله عليه الصلاة والسلام في صدر الحديث “ليس لنا مثل السوء”.

كما احتج الإمام أحمد بهذه الدلالة في أن المراد من قوله تعالى: ﴿إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمولفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم﴾ (التوبة: 60) وجوب استيعاب الأصناف الثمانية بالزكاة، يدل لذلك قوله تعالى الوارد قبل هذه الآية وهو السياق هنا: ﴿ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن اعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون﴾ (التوبة: 58)، “فإن الله تعالى لما رأى بعض من لا يستحق الصدقة يحاول أن يأخذ منها، ويسخط إذا لم يعط، يقطع طمعهم ببيان أن المستحق لها غيره وهم الأصناف الثمانية”[23].

2. المعنى الثاني

يقصد بالسياق ما يلحق الآية أو الجملة فقط دون ما يسبقها؛ إذ يظهر قولهم: “صدر الآية وسياقها”[24]، و”دلالة السياق والسباق”[25]، و “قرينة نطقية سياقية”[26].

ومثاله ما ذكره العالم الحنفي عبد العزيز البخاري (توفي 730ﻫ) من احتجاج الحنفية على الشافعي حول انعقاد النكاح بلفظ الهبة إذ قال: “فاحتجوا بقوله تعالى: ﴿وامرأة مومنة إن وهبت نفسها للنبيء إن أراد النبيء أن يستنكحها خالصة لك﴾ (الاَحزاب: 50)؛ أي أحللنا لك من وقع لها أن تهب لك نفسها ولا تطلب مهرا من النساء المؤمنات إن اتفق ذلك، ومتى جاز نكاح النبي، عليه السلام، وهو قدوة الأمة جاز لأمة إلا حيث تثبت الخصوصية… والدليل على ما ذكرنا صدر الآية وسياقها فإن المذكور في أول الآية “أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن”[27] وفي سياقها “قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم”[28] فعرفنا أن الخلوص له الإباحة بغير مهر وأن لا إباحة لغيره إلا بفرض مهر”[29].

3. المعنى الثالث

وهو ما عبر عنه الشيخ حسن العطار (توفي 1250ﻫ) بقوله: “والسياق ما سيق الكلام لأجله”[30]، والمراد من كون الكلام مسوقا لمعنى “أن يدل على مفهومه مقيدا بكونه مقصودا”[31]  أحيانا على اعتبار المقصود الأصلي فقط، وأحيانا أخرى على اعتبار المقصود الأصلي والتبعي معا.

فمفهوم السياق هنا مرتبط بفكرة القصد أي قصد الشارع إلى هذا المعنى أو ذاك، ويستدل على هذا القصد بأدلة متنوعة قد توجد ضمن المقال أو خارجه.

وقد استعمل الحنفية هذا المعنى أكثر من غيرهم خصوصا ضمن مباحث أقسام واضح الدلالة وطرق دلالة الألفاظ.

فحين عمد بعضهم مثلا إلى تحديد ما سموه الظاهر والنص من بين أقسام واضح الدلالة عندهم قالوا إن الظاهر هو الذي لا يكون معناه مقصودا من السياق أو هو الذي لم يسق له الكلام فرقا بينه وبين النص الذي سيق له الكلام، قال العلامة ابن الهمام الحنفي (861ﻫ): “فمتأخرو الحنفية: ما ظهر معناه الوضعي بمجرده محتملا؛ أي لغير معناه الظاهر احتمالا مرجوحا إن لم يسق، الكلام، له أي ليس المقصود من استعماله فهو بهذا الاعتبار الظاهر، وباعتبار ظهور ما سيق له مع احتمال التخصيص والتأويل: النص”[32].

فالمعنى الظاهر من قوله تعالى: ﴿وأحل الله البيع وحرم الربا﴾ (البقرة: 274)، هو حل البيع وحرمة الربا إلا أن هذا المعنى غير مسوق بالكلام؛ لأن الآية سيقت للرد على الكفرة القائلين بتماثل البيع والربا بدليل قوله تعالى في صدر الآية: ﴿ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا﴾ فجاء قوله تعالى: ﴿وأحل الله البيع وحرم الربا﴾ نصا في التفرقة بين البيع والربا[33].

وحين عرف الحنفية دلالتي العبارة الإشارة (من بين طرق الدلالة عندهم) قالوا: “إن الاستدلال بعبارة النص هو العمل بظاهر ما سيق الكلام له”[34]، وأيضا “الثابت بالعبارة ما كان السياق لأجله ويعلم قبل التأمل أن ظاهر النص متناول له”[35]، “أما الاستدلال بإشارته فهو العمل بما ثبت بنظمه لغة لكنه غير مقصود ولا سيق له النص وليس بظاهر من كل وجه”[36]، أو أن “الثابت بالإشارة ما لم يكن السياق لأجله لكنه يعلم بالتأمل في معنى اللفظ من غير زيادة فيه ولا نقصان وبه تتم البلاغة ويظهر الإعجاز[37].   

وفي كلام بعض الأصوليين أن معنى المسوق له هنا ما يكون مقصودا في الجملة سواء كان مقصودا بالأصالة أو لم يكن، فجعلوا الاستدلال بآية النكاح[38] مثلا على العدد وعلى إباحة النكاح استدلالا بعبارته كما هو الشأن عند الإمامين البزدوي[39] والسرخسي[40] بينما ذهب البعض الآخر إلى أن معنى المسوق له هنا ما يكون مقصودا في الجملة بالأصالة فقط، فتكون آية النكاح هذه دالة بالعبارة على العدد، ودالة بالإشارة على إباحة النكاح (كما هو الشأن عند صدر الشريعة عبيد الله بن مسعود  (توفي747ﻫ)[41].

والخلاف في هذا لا يعنينا فيما نحن بصدد البحث عنه، ومن بين الأمثلة الواردة في دلالة العبارة ودلالة الإشارة والتي يظهر فيها استعمال مصطلح السياق: قوله تعالى: ﴿للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم﴾ (الحشر: 8)، فالثابت بالعبارة في هذه الآية نصيب من الفيء لهم لأن سياق الآية لذلك كما قال تعالى في هذه الآية: ﴿ما أفاء الله على رسوله…﴾ (الحشر: 7)، والثابت بالإشارة أن الذين هاجروا من مكة قد زالت أملاكهم عما خلفوا بمكة لاستيلاء الكفار عليها، فإن الله تعالى سماهم فقراء، والفقير حقيقة من لا يملك المال لا من بعدت يده عن المال[42].

وتبعا للمعنى نفسه يشرح لنا الإمام الغزالي المقصود من السياق وذلك انطلاقا من قوله تعالى: ﴿فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع﴾ (الجمعة: 9)؛ إذ فهم منها أن البيع ليس مقصودا النهي عنه لعينه، وإنما لكونه مانعا من السعي الواجب إلى الجمعة، قال: “فإن قيل: وبم عرف هذا؟ وهلا قيل: السعي إلى الجمعة مقصود بالإيجاب والمنع من البيع أيضا مقصود؟ قلنا: فهم ذلك من سياق الآية: فإن قيل: السياق عبارة مجملة، فما معنى السياق؟ وما مستند هذا الفهم؟

قلنا: المعني به: أن هذه الآية في سورة الجمعة إنما نـزلت وسيقت لمقصد، وهو بيان الجمعة، قال الله تعالى: ﴿يأيها الذين ءامنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم[43] الآية، وما نـزلت الآية لبيان أحكام البياعات ما يحل منها وما يحرم، فالتعرض للبيع، لأمر يرجع إلى البيع في سياق هذا الكلام، يخبط الكلام ويخرجه عن مقصوده، وليس يتعلق به إلا من حيث كونه مانعا للسعي الواجب، وغالب الأمر في العادات جريان التكاسل والتساهل في السعي بسبب البيع، فإن وقت الجمعة يوافي الخلق وهم منغمسون في المعاملات فكان ذلك أمرا مقطوعا به لا يتمارى فيه، فعقل أن النهي لكونه مانعا من السعي الواجب”[44].

والملاحظ أن الإمام الغزالي وإن عبر عن السياق من خلال فكرة القصد أو ما نـزلت لأجله الآية، فإنه استعان على فهم هذا السياق بعناصر مقالية متمثلة في قوله تعالى في صدر الآية: ﴿يأيها الذين ءامنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة…﴾ وعناصر مقامية متمثلة فيما عليه حال الناس وقت النداء إلى الجمعة من تكاسل وتساهل في السعي وانغماس في المعاملات.

وقد أضاف الإمام الغزالي مثالا آخر يشرح به المقصود من السياق قائلا: ومن هذا القبيل قوله تعالى: ﴿فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما﴾ (الاِسراء: 23)، فإن الآية سيقت لقصد معلوم وهو الحث على توقير الوالدين وإعظامهما واحترامهما، والبر والإحسان إليهما، والتأفيف إيذاء، والإيذاء يناقضه الإعظام، فالضرب وأنواع التعذيب يشمل على مثل ذلك الإيذاء فهو بمناقضة الواجب أولى، فقد وجب فيها العلة وزيادة، فكان ذلك اعتبارا بطريق الأولى”[45].

4. المعنى الرابع وهو معنى موسع للسياق

وهذا المعنى وإن لم يَرْقَ من حيث الشيوع والتداول إلى مرتبة المعاني السابقة، إلا أنه معنى حاضر في كلام الأصوليين وفي مقدمتهم الإمام الشاطبي الذي استعمل هذا المصطلح للدلالة على ما هو أشمل من الآيات والجمل المحيطة بالآية أو الجملة موضوع الدراسة.

ومن الأمثلة التي توضح هذا الاستعمال: قوله تعالى: ﴿الذين ءامنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم﴾ (الاَنعام: 83)، فهذه الآية لما نـزلت شق مضمونها على بعض الصحابة، وقالوا: أينا لم يلبس إيمانه بظلم؟ فقال عليه السلام: “إنه ليس بذاك ألا تسمع إلى قول لقمان: ﴿إن الشرك لظلم عظيم﴾ (لقمان: 12)”[46]؛ فجوابه، عليه السلام، يفيد أن المقصود إنما هو نوع خاص من الظلم وليس أي ظلم، قال الإمام الشاطبي: “فأما قوله تعالى: ﴿الذين ءامنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم﴾ الآية، فإن سياق الكلام يدل على أن المراد بالظلم أنواع الشرك على الخصوص فإن السورة من أولها إلى آخرها مقررة لقواعد التوحيد وهادمة لقواعد الشرك وما يليه، والذي تقدم قبل الآية قصة إبراهيم، عليه السلام، في محاجته لقومه بالأدلة التي أظهرها لهم في الكوكب والقمر والشمس، وكان قد تقدم قبل ذلك قوله: ﴿ومن اَظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته﴾ (الاَنعام: 22)، فبين أنه لا أحد أظلم ممن ارتكب هاتين الخلتين وظهر أنهما المعني بهما في سورة الأنعام إبطالا بالحجة وتقريرا لمنـزلتها في المخالفة وإيضاحا للحق الذي هو مضاد لهما”[47].

ففي ضوء معطيات السورة بكاملها، وبالرجوع إلى الآيات السابقة، فسر الإمام الشاطبي معنى الظلم، وسمى وسيلته في ذلك “سياق الكلام”.

 ولا تعني هذه الوسيلة ما هو مرتبط بالمقال فقط، بل تعني، أيضا، ما هو مرتبط بالمقام مثل سبب النـزول وحال المخاطبين وظروف القول، ومن الشواهد على ذلك:

ـ لما نـزل قـوله تعالى: ﴿إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم﴾ (الاَنبياء: 97)

قال بعض الكفار: “فقد عبدت الملائكة وعبد المسيح” كذلك قال مثلهم أحد المسلمين حتى أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال له فيما روي عنه: “ما أجهلك بلغة قومك يا غلام!”[48]؛ لأنه جاء في الآية “إنكم وما تعبدون”، و”ما” لِما لا يعقل فكيف تشمل الملائكة والمسيح؟ قال الإمام الشاطبي وقد زاد هذه الآية توضيحا بالاعتماد على السياق: “والذي يجري على أصل مسألتنا[49] أن الخطاب ظاهره أنه لكفار قريش ولم يكونوا يعبدون الملائكة والمسيح وإنما كانوا يعبدون الأصنام، فقوله “وما تعبدون” عام     في الأصنام التي كانوا يعبدون فلم يدخل في العموم الاستعمالي غير ذلك، فكان اعتراض المعارض جهلا منه بالمساق وغفلة عما قصد في الآيات”[50].

فلقد استند الإمام الشاطبي في فهمه هذا على النظر في الواقع آنذاك وما هو عليه حال كفار قريش المخاطبين بهذه الآية، واعتبر ذلك من السياق، قال: “ومثله ما في الصحيح[51] أن مروان قال لبوابه: اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل له: لئن كان كل امرئ فرح بما أوتي وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا لنعذبن أجمعون! فقال ابن عباس: ما لكم ولهذه الآية؟ إنما دعا النبي، صلى الله عليه وسلم، اليهود فسألهم عن شيء فكتموه وأخبروه بغيره فأروه أن قد استحمدوا إليه بما أخبروه فيما سألهم، وفرحوا بما أوتوا من كتمانهم، ثم قرأ ابن عباس: ﴿وإذ اَخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب﴾ (ءال عمران: 187)، كذلك حتى قوله ﴿يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا﴾ (ءال عمران: 188)، فهذا من ذلك المعنى أيضا”[52].

فمروان ظن العموم من قوله تعالى: ﴿لا يحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب اَليم﴾ (ءال عمران: 188)،  فقال ما قاله لأنه أفرد هذه الآية عما قبلها وجهل سبب نـزولها، فبين له ابن عباس المقصود من هذه الآية في ضوء سياقها الذي يدخل في مفهومه هاهنا عناصر مقالية متمثلة في الآيات التي قرأها عليه، وعناصر مقامية متمثلة في سبب نـزول هذه الآية.

ـ روى جابر بن عبد الله، رضي الله عنهما، قال: “كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في سفر فرأى زحاما ورجلا قد ظلل عليه، فقال: ما هذا؟ فقالوا: صائم، فقال: ليس من البر الصيام في السفر، وفي لفظ لمسلم: عليكم برخصة الله التي رخص لكم”[53]. فقوله عليه السلام: “ليس من البر الصيام في السفر” لا يدل على العموم بدلالة السياق، قال الشيخ ابن دقيق العيد موضحا ذلك: “أخذ من هذا أن كراهة الصوم في السفر لمن هو في مثل هذه الحالة ممن يجهده الصوم ويشق عليه أو يؤدي به إلى ترك ما هو أولى من القربات، ويكون قوله “ليس من البر الصيام في السفر” منـزلا على مثل هذه الحالة، والظاهرية المانعون من الصوم في السفر يقولون: إن اللفظ عام، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ويجب أن نتنبه للفرق بين دلالة السياق والقرائن الدالة على تخصيص العام وعلى مراد المتكلم، وبين مجرد ورود العام على سبب ولا تجريهما مجرى واحد. فإن مجرد ورود العام على السبب لا يقتضي التخصيص به… أما السياق والقرائن فإنها الدالة على مراد المتكلم من كلامه، وهي المرشدة إلى بيان المجملات وتعيين المحتملات، فاضبط هذه القاعدة فإنها مفيدة في مواضع لا تحصى، وانظر في قوله عليه السلام: “ليس من البر الصيام في السفر” مع حكاية هذه الحالة من أي القبيلين هو فنـزله عليه”[54].

وقال في موضع آخر مسترشدا بسياق ورود الحديث (الخالة بمنـزلة الأم)[55]: “الحديث أصل في باب الحضانة، وصريح في أن الخالة فيها كالأم عند عدم الأم، وقوله عليه السلام: “الخالة بمنـزلة الأم” سياق الحديث يدل على أنها بمنـزلتها في الحضانة، وقد يستدل بإطلاقه أصحاب التنـزيل على تنـزيلها منـزلة الأم في الميراث إلا أن الأول أقوى، فإن السياق طريق إلى بيان المجملات وتعيين المحتملات وتنـزيل الكلام على المقصود منه”[56].

ويتسع مدلول السياق ليشمل بالإضافة إلى المعاني السابقة: أسرار التشريع ومعاني الأحكام المبثوثة هنا وهناك والمنسجمة مع المقاصد العامة للتشريع، وهذا ما يسميه الإمام الشاطبي بالمساق الحكمي الذي “يختص بمعرفته العارفون بمقاصد الشارع”[57] تمييزا له عن المساق العربي الذي يدرك بمطلق الفهم العربي في الاستعمال.

نستنج مما تقدم أن السياق مصطلحا يطلق عند الأصوليين ويراد به الأمور التالية:

ـ النصوص السابقة واللاحقة لما يراد بيانه أو تأويله، والنصوص البعيدة والسورة بأكملها.

ـ قصد الشارع (الملحوظ في النص المراد بيانه أو تأويله) ومقاصد التشريع (المبثوثة هنا وهناك).

ـ سبب نـزول الآية وورود الحديث وحال المخاطَبين وظروف القول.

وبهذا يتضح أن مصطلح السياق عند الأصوليين يشمل عناصر السياق المقالي والمقامي.

وبالرغم من أن هذا المصطلح يبدو مستعملا في الغالب للتعبير عن العناصر المقالية، ولا سيما العناصر السابقة أو اللاحقة لما يراد بيانه أو تأويله، فإن ذلك لا يعني قصورا في وعي الأصوليين بأهمية العناصر الأخرى في الفهم والبيان، كما أن غياب التنصيص في كل مرة على مفهوم شامل لها، لا يعني عدم توظيفه وسيلة أساسية في الكشف عن مراد الشارع.

وهذا ما سيكشف عنه القسم الثاني من هذا البحث:

السياق مفهوما

لم يصرح الأصوليون بمفهوم “السياق” بهذه الصيغة في كل مناسبة يستعملونه في الكشف عن مراد الله تعالى وفهم مقصوده، ولكن أقوالهم وأفكارهم وتحليلاتهم تكشف عن وجود مثل هذا المفهوم في أذهانهم وهم يمارسون عملية الفهم هذه. والذي يدل على ذلك:

1. الوعي، بصفة عامة، بالفرق بين المعنى الظاهر والمعنى المراد

لقد عبر الأصوليون في مناسبات عديدة عن أن المطلوب هو “مراد الشارع” و “قصد الشارع”، يقول الإمام ابن قيم: “التعويل في الحكم على قصد المتكلم والألفاظ لم تقصد لنفسها وإنما هي مقصودة للمعاني والتوصل إلى معرفة المراد”[58]، كما يقول: “والألفاظ ليست تعبدية والعارف يقول ماذا أراد واللفظي يقول ماذا قال”[59] ليخلص إلى التمييز بين مستويين من الفهم مستوى عام وهو مستوى إدراك اللفظي، ومستوى خاص وهو مستوى إدراك العارف الفقيه فيقول: “والفقه أخص من الفهم وهو فهم مراد المتكلم من كلامه وهذا قدر زائد على مجرد وضع اللفظ في اللغة، وبحسب تفاوت مراتب الناس في هذا تتفاوت مراتبهم في الفقه والعلم”[60]، ولا شك أن المستوى الثاني هو المطلوب كما يقرر ذلك الإمام الشاطبي مؤكدا رأي ابن قيم في التمييز بين المستويين وإن اختلف تعبيره عنهما، قال: “كل عاقل يعلم أن مقصود الخطاب ليس هو التفقه في العبارة بل التفقه في المعبر عنه وما المراد”[61].

وأيا كانت التسمية، فإن المستوى الأول يخص المعنى اللغوي الواضح أو الظاهر أو الحرفي، وهو المعنى المستفاد من النص فحسب، أما المستوى الثاني فيخص المعنى الدلالي المعبر عن مراد المتكلم أو ما يسمونه ب”الدلالة الحقيقية” التي يتم تحصيلها “بحسب الكلام في نفسه وما يقترن به من القرائن الحالية واللفظية والمتكلم به وغير ذلك”[62]؛ أي عن طريق الاستفادة من السياق بمعناه الشامل لشقيه المقالي (أو اللفظي) والمقامي أو (الحالي).

2. طريقة دراسة الصيغ والنصوص المحتملة

لم يتناول الأصوليون الصيغ والنصوص بالبحث مجردة عن سوابقها ولواحقها وظروف ورودها، وأحوال المخاطَبين بها وغير ذلك مما من شأنه أن يوضح المراد منها وما تعنيه حقيقة لا ظاهرا. وهذا ما تكشف عنه مباحث العام والخاص، والأمر والنهي، والمنطوق والمفهوم، والحقيقة والمجاز، والمطلق والمقيد، والمجمل والمبين… إلى غير ذلك.

فاللفظ العام، مثلا، لا تبقى دلالته على الشمول والاستغراق وذلك أن “العموم إنما يعتبر بالاستعمال، ووجوه الاستعمال كثيرة ولكن ضابطها مقتضيات الأحوال التي هي ملاك البيان”[63].

ودراسة الأصوليين لأدلة تخصيص العام تدل على إدراكهم الواعي لعناصر السياق وأثرها في تحديد المعنى، وهي عناصر مقالية كآية أخرى، أو حديث آخر متصل باللفظ العام أو منفصل عنه، وعناصر مقامية كالحس والعقل والعادة وفعل الرسول صلى الله عليه وسلم وسبب ورود العام…(مع تفصيل الأصوليين لشروط جواز التخصيص بهذه العناصر، وخلافهم أيضا في بعضها).

 وصيغة الأمر لا تفيد دائما الوجوب، بل رصد لها الأصوليون أكثر من معنى مثل الندب والإرشاد والإباحة والتأديب والامتنان والإكرام… كما رصدوا لصيغة النهي وجوها متعددة من المعاني: مثل التحريم والكراهة والتحقير…

فمجيء هذه الصيغ بهذه المعاني المتعددة، ينبئ عن وعي الأصوليين بأثر السياق في تحديد المعنى، ولاشك أن منه العناصر المقالية والعناصر المقامية. ويبلغ الاعتماد على السياق بشقيه المقالي والمقامي أقصى مدى عند من يسمون بالوافقية وهم الذين يتوفقون في دلالة صيغ العموم إذ يرون أنها لا تدل على عموم ولا على خصوص أصلا، وأن دلالتها على ذلك تابعة للسياق، وأيضا الذين يتوفقون في دلالة صيغة الأمر إلى أن يدل السياق على المعنى المقصود.

والسياق هو الذي يتعين فيه معنى المشترك اللفظي إذ يرى غالب الأصوليين أنه ليس له في السياق إلا معنى واحد، كما أن السياق أساسي في ترتيب النصوص الشرعية من حيث الوضوح والخفاء.

ويتجاوز الأصوليون معاني العبارات الظاهرة إلى معانيها المفهومة وذلك فيما يسمى بفحوى الخطاب أو مفهوم الموافقة، وإعمال هذا المفهوم منوط عند فريق من الأصوليين[64] بالسياق فقوله تعالى: ﴿فلا تقل لهما أف﴾ (الاِسراء: 23) يفهم منه النهي عن أنواع الأذى بالنسبة للوالدين، بدلالة سياق الآيات التي تأمر بالإحسان إلى الوالدين ومخاطبتهما بالقول الكريم وتنهي عن انتهارهما وإيذائهما، فضلا عن الوقوف على مقصود الشارع بالنسبة للوالدين من نصوص كثيرة أخرى…[65].

وهكذا تدل المباحث المتنوعة على حضور مفهوم السياق والوعي بأهميته البالغة في الفهم والبيان، حتى ليصح القول إن هذا المفهوم قد ظهر عند الأصوليين على المستوى العملي الوظيفي أكثر من ظهوره على المستوى التنظيري الفكري[66].

3. ما ورد من عبارات ترادف المفهوم من السياق

مثل: (القرينة أو القرائن) وبخاصة منها المقالية والحالية، وهي العبارة الأكثر تداولا بين الأصوليين، قال الإمام الغزالي موضحا مجال عمل القرينة بصفة عامة: “ويكون طريق فهم المراد تقدم المعرفة بوضع اللغة التي بها المخاطبة، ثم إن كان نصا لا يحتمل، كفى معرفة اللغة، وإن تطرق إليه الاحتمال، فلا يعرف المراد منه حقيقة إلا بانضمام قرينة إلى اللفظ، والقرينة إما لفظ مكشوف…وإما إحالة على دليل العقل….وإما قرائن أحوال من إشارات ورموز وحركات وسوابق ولواحق، لا تدخل تحت الحصر والتخمين، يختص بدركها المشاهد لها، فينقلها المشاهدون من الصحابة إلى التابعين بألفاظ صريحة، أو مع قرائن من ذلك الجنس أو من جنس آخر، حتى توجب علما ضروريا بفهم المراد، أو توجب ظنا. وكل ما ليس له عبارة موصوفة في اللغة فتتعين فيه القرائن”[67].

وذكر الإمام ابن قيم الجوزية أن مراد المتكلم لا يتم تحصيله عن طريق الكلام وحده “بل بحسب الكلام في نفسه وما يقترن به من القرائن الحالية واللفظية والمتكلم به وغير ذلك”[68].

كما قال في موضع آخر: “والألفاظ لم تقصد لنفسها وإنما هي مقصودة للمعاني والتوصل إلى معرفة مراد المتكلم… فإذا ظهر مراده ووضح بأي طريق كان عمل بمقتضاه سواء كان بإشارة أو كتابة أو بإماءة أو دلالة عقلية أو قرينة حالية أو عادة له مطردة لا يخل بها”[69].

(دلالة الحال أو الدلالة الحالية): نقل الإمام الزركشي عن الإمام القفال الشاشي قوله: “قد يقترن بالخطاب من دلالة الحال ما يقف به السامع على مراد الخطاب”[70]، وقال الإمام ابن تيمية متحدثا عن لفظ الإشارة: “… فلابد من دلالة حالية أو لفظية تبين أن المشار إليه غير لفظ الإشارة، فتلك الدلالة لا يحصل المقصود إلا بها وبلفظ الإشارة، كما أن لام التعريف لا يحصل المقصود إلا بها وبالمعهود”[71].

(مقتضيات الأحوال): قال الإمام الشاطبي: “إن علم المعاني والبيان الذي يعرف به إعجاز نظم القرآن فضلا عن معرفة مقاصد كلام العرب، إنما مدراه على معرفة مقتضيات الأحوال: حال الخطاب من جهة نفس الخطاب أو المخاطب أو المخاطب أو الجميع، إذ الكلام الواحد يختلف فهمه بحسب حالين وبحسب مخاطَبين وبحسب غير ذلك كالاستفهام لفظه واحد ويدخله معان أخر من تقرير وتوبيخ وغير ذلك، وكالأمر يدخله معنى الإباحة والتهديد والتعجيز وأشباهها…”[72] وقال: “لا يدل على معناها -يقصد الألفاظ والصيغ المحتملة- إلا الأمور الخارجية وعمدتها مقتضيات الأحوال[73]، وقال أيضا إن العرب “تطبق ألفاظ العموم بحسب ما قصدت تعميمه، مما يدل عليه معنى الكلام خاصة، دون ما تدل عليه تلك الألفاظ بحسب الوضع الانفرادي، كما أنها أيضا تطبقها وتقصد بها تعميم ما تدل عليه في أصل الوضع، وكل ذلك مما يدل عليه مقتضى الحال”[74].

(المقام): قال الإمام الشاطبي متحدثا عن صيغ الأمر والنهي المطلقة وكيف أن مجيئها في القرآن على ضربين: “أحدهما: أن تأتي على العموم والإطلاق في كل شيء، وعلى كل حال، لكن بحسب كل مقام وعلى ما تعطيه شواهد الأحوال في كل موضع، لا على وزان واحد، ولا حكم واحد، ثم وكل ذلك إلى نظر المكلف، فيزن بميزان تنظره، ويتهدى لما هو اللائق والأحرى في كل تصرف، آخذا ما بين الأدلة الشرعية والمحاسن العادية…”[75].

وقال الإمام الولاتي المالكي متحدثا عن شروط جواز نقل الحديث بالمعنى: “… ولابد أن يكون الناقل له بالمعنى عارفا بمدلولات الألفاظ التي يأتي بدلها، وبمقاماتها الكلام ومقتضياتها”[76].

4. ما ورد من شواهد صريحة تكشف عن مفهوم السياق عند الأصوليين وتبرز مدى تفطنهم لجميع عناصره المقالية منها والمقامية على مستوى المقال

يتجلى هذا المفهوم على مستويين:

السياق المقالي الخاص: ونقصد به النصوص السابقة أو اللاحقة للنص المراد بيانه أو

تأويله، أو جملة النصوص المتراصة مع هذا النص.

قال الإمام الشاطبي مؤكدا أن فهم نص ما لا يتم إلا بعد استيفاء جميع أجزائه بالنظر وملاحظة أحواله وأطرافه: “… فلا محيص للمتفهم عن رد آخر الكلام على أوله وأوله على آخره، فإن فرق النظر في أجزائه فلا يتوصل إلى مراده”[77]، وأيضا فإن “الاقتصار على بعض الآية في استفادة حكم ما لا يفيد إلا بعد كمال النظر في جميعها”[78].

وشأن متبعي الهوى الأخذ ببعض الكلام دون بعض، وشأن الراسخين في العلم استيفاء النظر في جميع الكلام، قال الإمام الشاطبي أيضا: “فمن لا يعتبره من أوله إلى آخره، ويعتبر ما ابتنى عليه زل فهمه، وهو شأن من يأخذ الأدلة من أطراف العبارة الشرعية ولا ينظر بعضها ببعض، فيوشك أن يزل. وليس هذا من شأن الراسخين وإنما هو شأن من استعجل طلبا للمخرج في دعواه”[79].

السياق المقالي العام: وهو الذي يتجلى مفهومه من خلال التعامل مع القرآن الكريم وما صح من السنة النبوية الشريفة على أنهما وحدة متكاملة يبين بعضه بعضا أو على أنهما “لفظة واحدة وخبر واحد موصول بعضه ببعض ومضاف بعضه إلى بعض ومبني بعضه على بعض”[80] كما قال الإمام ابن حزم، وقال أيضا “والحديث والقرآن كله كلفظة واحدة فلا يحكم بآية دون أخرى ولا بحديث دون آخر بل يضم كل ذلك بعضه إلى بعض إذ ليس بعض ذلك أولى في الإتباع من بعض ومن فعل غير هذا فقد تحكم بلا دليل”[81]، كما ألح الإمام الشاطبي على هذه الوحدة قائلا: “المدني من السور ينبغي أن يكون منـزلا في الفهم على المكي، وكذلك المكي بعضه مع بعض على حسب ترتيبه في التنـزيل وإلا لم يصح”[82]، وقال في موضع آخر: “مأخذ الأدلة عند الأئمة الراسخين إنما هو على أن تؤخذ الشريعة كالصورة الواحدة بحسب ما ثبت من كلياتها وجزئياتها المرتبة عليها، وعامها المرتب على خاصها، ومطلقها المحمول على مقيدها، ومجملها المفسر ببينها، إلى ما سوى ذلك من مناحيها، فإذا حصل للناظر من جملتها حكم من الأحكام فذلك الذي نظمت به حين استنبطت”[83].

والأصوليون وهم يتعاملون مع جميع النصوص الشرعية على اعتبار أنها سلسلة واحدة موصولة الحلقات، لا يقتصرون في تعاملهم هذا على الصيغ الظاهرة لهذه النصوص بل يتعدونه إلى عللها ومعانيها الشرعية، فتشكل هذه العلل والمعاني الجزئية عن طريق الاستقراء والتتبع معاني كلية وقواعد أو قوانين عامة تنضاف إلى المنصوص وتقوم بالوظيفة نفسها في الفهم والفقه فلا فرق بين قوله تعالى: ﴿ولا تزر وازرة وزر أخرى﴾ (فاطر: 18) وقوله تعالى: ﴿وما جعل عليكم في الدين من حرج﴾ (الحج: 76)، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار)[84]، وبين قانون كالمحافظة على النفس ووجوب دفع أشد الضررين”[85]؛ “إذ صار ما استقرئ من عموم المعنى كالمنصوص بصيغة عامة”[86]، من هذا الجانب يمكن للمقاصد الشرعية أن تمنح امتدادا لمفهوم السياق المقالي العام عند الأصوليين، وإن كان من الممكن أيضا أن تندرج ضمن مفهوم السياق المقامي باعتبارها تابعة لحال المتكلم، الشارع، إذ تمثل مقاصده الملحوظة له في التشريع.

وأيا كان الأمر فإن أهمية المعرفة بالمقاصد الشرعية بالغة في فهم النصوص والتوصل إلى حكم الشارع المستنبط منها، مما جعل الأصوليين يعدون المعرفة بهذه المقاصد شرطا من شروط المجتهد، قال الإمام السبكي (توفي 756ﻫ): “الثالث: أن يكون له من الممارسة والتتبع لمقاصد الشريعة ما يكسبه قوة يفهم منها مراد الشارع من ذلك وما يناسب أن يكون حكما له في ذلك المحل وإن لم يصرح به…”[87]، واعتبر الإمام الشاطبي “زلة العالم أكثر ما تكون عند الغفلة عن اعتبار مقاصد الشرع في ذلك المعنى الذي اجتهد فيه”[88].

على مستوى المقام

يتسع مفهوم السياق عند الأصوليين ليشمل ما له علاقة بالمخاطِب أو المتكلم، والمخاطَب أو المستمع، وظروف الخطاب وملابساته المختلفة كأسباب النـزول والورود وعادات العرب وأعرافها حالة التنـزيل، يتجلى هذا المفهوم من خلال شواهد صريحة من أقوال أئمة الأصول على اختلاف مذاهبهم، وقد قدمنا بعض هذه الشواهد في الاستدلال على استعمال ما يرادف السياق من العبارات مثل: القرينة وخاصة منها القرينة الحالية ودلالة الحال ومقتضيات الأحوال والمقام، ونضيف هنا ما يشهد لكل عنصر من عناصر هذا السياق:

حال المخاطِب أو المتكلم: وقد اعتمد عليه من يسمون بالواقفية في الرد على أرباب العموم من الأصوليين، حكى الإمام الغزالي اعتراضهم قائلا: “… قصد الاستغراق يعلم بعلم ضروري يحصل عن قرائن أحوال ورموز وإشارات وحركات من المتكلم وتغيرات في وجهه، وأمور معلومة من عادته ومقاصده، وقرائن مختلفة لا يمكن حصرها في جنس ولا ضبطها بوصف بل هي كالقرائن التي يعلم بها خجل الخجل ووجل الوجل وجبن الجبان، وكما يعلم قصد المتكلم إذا قال السلام عليكم أنه يريد التحية أو الاستهزاء واللهو، ومن جملة القرائن فعل المتكلم فإنه إذا قال على المائدة هات الماء فهم أنه يريد العذب دون الحار الملح…”[89]. فكل ما يصدر عن المتكلم أثناء كلامه من إشارات ورموز وحركات وتغيرات في وجهه… أدلة تبين مراد المتكلم وتظهر قصده من كلامه دون أن تكون تابعة للفظه “فمن سلم أن حركة المتكلم وأخلاقه وعادته وأفعاله وتغير لونه وتقطيب وجهه وجبينه وحركة رأسه وتقليب عينيه تابع للفظه بل هي أدلة مستقلة يفيد اقتران جملة منها علوما ضرورية”[90].

ويلحق بحال المتكلم سكوته، إذ عد الأصوليون عدم تلفظ المتكلم في مناسبات معينة دليلا مفيدا لمعنى، وذلك “كسكوته صلى الله عليه وسلم عن أمر يشاهده من قول أو فعل ليس معتقد كافر ولا سبق تحريمه كالمعاملات التي كان الناس يتعاملون والمآكل والمشارب التي كانوا يتعاطونها ولم يقع منه نهي عنها ولا نكير على فاعليها، فإنه دليل على جواز ذلك في الشرع لضرورة حاله فإنه لا يجوز له أن يقر الناس على منكر لأنه داع للخلق إلى الحق وصفه الله بالقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقال: ﴿يامرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر﴾ (الاَعراف: 157)[91].

ويلحق بحال المتكلم، أيضا، طريقة أدائه للكلام، وفي هذا الصدد تنبه الأصوليون إلى الأثر الدلالي الذي تحدثه بعض ظواهر الأداء الصوتي خصوصا منها ظاهرتي الوقف والابتداء، قال الإمام الغزالي: “الوقف على السماوات في قوله تعالى: ﴿وهو الله في السموات و في الاَرض يعلم سركم وجهركم﴾ (الاَنعام: 4) له معنى يخالف الوقف على الأرض، والابتداء بقوله: ﴿يعلم سركم وجهركم﴾، وقوله تعالى: ﴿وما يعلم تاويله إلا الله والراسخون في العلم﴾ (ءال عمران: 7) من غير وقف، يخالف الوقف على قوله: “إلا الله” وذلك لتردد الواو بين العطف والابتداء”[92].

حال المخاطَب أو المستمع: ولا تقل أهميته عن حال المتكلم، قال الشيخ ابن تيمية: “والحال، حال المتكلم والمستمع، لابد من اعتباره في جميع الكلام[93]” ومما يوضح أهمية المستمع ضمن الحدث الكلامي عند الأصوليين، سلوكهم في بيان مراتب ألفاظ الرواة في نقل الأخبار عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأيضا “سلوكهم في عملية الترجيح بين الروايات المتعددة، فكون المستمع قد سمع مباشرة من الرسول، صلى الله عليه وسلم، أو له صلة بالحادثة المتصلة بالرواية أو شخصا أعقل أو أعلم أو أعدل من سواه كان من العوامل المرجحة والمؤكدة لمعنى من المعاني أو حكم من الأحكام”[94].

وقد ذكر الإمام الزركشي ضمن ما تُرجح به الرواية أمورا عديدة ترجع إلى حال المستمع من حيث درجة علمه وفقهه وسنه وطول صحبته[95].

علاقة المتكلم بالمستمع: وهي ما يعبرون عنها أحيانا ب”عهد المتخاطبين”[96] ولا تخفى أهميتها في الكشف عن المعنى، قال الإمام الغزالي منكرا أن تدل صيغة الأمر بمجردها على الوجوب: “… وكل ذلك علم بالقرائن فقد تكون للآمر عادة مع مأمور وعهد وتقترن به أحوال وأسباب بها يفهم الشاهد الوجوب”[97].

أسباب النـزول وورود الأحاديث وعادات العرب وأعرافها حالة التنـزيل

قال الإمام الشاطبي: “معرفة أسباب التنـزيل لازمة لمن أراد علم القرآن”[98]، وقال: “…وليس كل حال ينقل ولا كل قرينة تقترن بنفس الكلام المنقول، وإذا فات نقل بعض القرائن الدالة فات فهم الكلام جملة أو فهم شيء منه، ومعرفة الأسباب رافعة لكل مشكل في هذا النمط…”[99]، كما قال أيضا: “ومن ذلك معرفة عادات العرب في أقوالها وأفعالها ومجاري أحوالها حالة التنـزيل، وإن لم يكن تم سبب خاص لا بد لمن أراد الخوض في علم القرآن منه وإلا وقع في الشبه والإشكالات التي يتعذر الخروج منها إلا بهذه المعرفة”[100] ثم استطرد قائلا: “وقد يشارك القرآن في هذا المعنى السنة إذ كثير من الأحاديث وقعت على أسباب ولا يحصل فهمها إلا بمعرفة ذلك”[101].

ويلحق بأسباب نـزول الآيات وورود الأحاديث أماكن وأوقات نـزول هذه الآيات وورود هذه الأحاديث إذ لا شك أن المعرفة بها تساعد في دفع ما يبدو من تعارض بين الآيات، وبيان تاريخ التشريع وتدرجه بوجه عام، وتعد دراسة الأصوليين للناسخ والمنسوخ والتي تتوقف على المعرفة بهذا العنصر من السياق خير دليل على عنايتهم به واعتبارهم له في فهم النصوص الشرعية.

وبالرغم من أن ملابسات التنـزيل هذه قد شكلت درايتها علوما مستقلة من جملة العلوم المتعقلة بالقرآن الكريم (علم أسباب النـزول-علم المكي والمدني…) فإن الأصوليين لم يختلفوا في ضرورة الاستفادة من معطيات هذه العلوم لفقه النصوص واستنباط الأحكام على وجهها الصحيح، بل إن هؤلاء الأصوليين ليسوا في معظمهم سوى طائفة من علماء القرآن[102]الذين يفكرون وينظرون بما تحصل لديهم من علوم ومعارف حول القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة.

ويلحق بأحوال العرب وعاداتهم عصر التنـزيل، أحوال المخاطَبين في كل زمان ومكان، ومما يدل على وعي الأصوليين بهذا العنصر من السياق:

أولا؛ أخذهم بالعرف دليلا شرعيا تبنى عليه الأحكام وتتغير تبعا لذلك بتغيره، ومن تم وقع التنبيه على ضرورة المعرفة بهذا العرف وملاحظة تغيره، قال الإمام القرافي (ت684ﻫ) مخاطبا المجتهد المفتي: “مهما تجدد في العرف اعتبره ومهما سقط أسقطه، ولا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك بل إذا جاءك رجل من غير إقليمك يستفتيك، فلا تجره على عرف بلدك وسله عن عرف بلده فاجره عليه وأفته به دون عرف بلدك والمقرر في كتبك، فهذا هو الحق الواضح والجمود على المنقولات أبدا ضلال في الدين وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضيين”[103].

ثانيا؛ إيمانهم بشكل عام بمبدأ مراعاة الظروف وخصوصيات الأحوال عند عملية تطبيق الأحكام، قال الإمام ابن قيم الجوزية: “… وهذا محض الفقه ومن أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عرفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأمكنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم، فقد ضل وأضل وكانت جنايته على الدين أعظم من جناية من طبب الناس كلهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم بما في كتاب من كتب الطب على أبدانهم بل هذا الطبيب الجاهل وهذا المفتي الجاهل أضر ما على أديان الناس وأبدانهم”[104].

هكذا تتدخل عناصر كثيرة من محيط النص، أو الكلام، تنتمي إلى الزمان أو المكان  أو الأشخاص، لتمنح لهذا النص، أو الكلام، دلالة أخرى تقرب أو توصل إلى المطلوب.

فإذا أضفنا إلى هذه العناصر المقامية تلك العناصر التي كشفنا عنها ضمن مفهوم السياق المقالي، فإننا نكون قد ألقينا بعض الضوء على مفهوم السياق عند الأصوليين، هذا المفهوم الذي لا نلتمسه فقط فيما ورد من شواهد صريحة في الدلالة عليه، وإنما أيضا فيما ثبت من وعي الأصوليين، سواء على المستوى التنظيري أو الوظيفي، بقصور المعنى الظاهر أو الحرفي، ووجوب مراعاة ما يحيط بالصيغ والنصوص من ظروف وملابسات متنوعة للتوصل إلى المعنى السليم المعبر عن إرادة الشارع.

 الهوامش


  1. الرسالة: ص: 62.
  2. البحر المحيط: ج: 8  ص: 54.
  3. نفسه: ج: 8  ص: 54.
  4. نفسه: ج: 8  ص: 503.
  5. إرشاد الفحول: ج: 1  ص: 576-577.
  6. البحر المحيط: ج: 8  ص: 55.
  7. إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام: ج: 2  ص:19.
  8. البحر المحيط: ج: 4  ص: 289-290.
  9. إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام: ج: 1  ص: 406.
  10. نفسه: ج: 2  ص: 232.
  11. بدائع الفوائد: ج: 4  ص: 9-10.
  12. الموافقات: ج: 3 ص: 153.
  13. الرسالة: ص: 62.
  14. نفسه: ص: 52.
  15. الرسالة: ص: 52.
  16. الرسالة: ص: 63.
  17. كشف الأسرار: ج: 2  ص: 187-188.
  18. ويقصد به قوله تعالى: “إنه بما تعملون بصير”.
  19. أصول السرخسي: ج:1  ص:193.
  20. مفتاح الوصول إلى بناء الفروع على الأصول: ص: 53.
  21. سنن النسائي: ج: 6  ص: 267.
  22. البحر المحيط: ج: 8  ص: 54، وانظر: الأم: كتاب الهبة، ص: 64، والمحرر في الفقه على مذهب الإمام احمد بن حنبل: ج: 1  ص: 375.
  23. البحر المحيط: ج: 8  ص: 55، وانظر: المحرر في الفقه على مذهب الإمام أحمد: ج: 1 ص: 224.
  24. كشف الأسرار: ج: 2 ص: 127.
  25. نفسه: ج: 3  ص: 164.
  26. مرآة الأصول،ص: 189.
  27. الآية السابقة نفسها.
  28. الآية السابقة نفسها.
  29. كشف الأسرار ج: 2 ص: 126-127.
  30. حاشية العطار على جمع الجوامع: ج: 1 ص: 320.
  31. كشف الأسرار: ج: 1 ص: 173.
  32. التقرير والتحبير: ج: 1 ص: 192.
  33. انظر هذا المثال وغيره في شرح التلويح على التوضيح ج1 ص234،  وكشف السرار ج: 1 ص: 126.
  34. كشف الأسرار: ج: 1 ص: 171.
  35. أصول السرخسي: ج: 1 ص: 236.
  36. كشف الأسرار: ج: 1 ص: 171.
  37. أصول السرخسي: ج: 1 ص: 236.
  38. المقصود قوله تعالى: ﴿… فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع…﴾ النساء: 3.
  39. أنظر: كشف الاسرار: ج: 1 ص: 173.
  40. أنظر أصول السرخسي: ج: 1 ص: 236-237.
  41. أنظر: شرح التلويح على التوضيح: ج: 1 ص: 244.
  42. أصول السرخسي: ج: 1 ص: 236. وانظر باقي الأمثلة في ص: 240 من المصدر نفسه،  وكشف الأسرار ج: 2  ص: 400-401.
  43. الآية السابقة نفسها.
  44. شفاء الغليل: ص: 51-52. وانظر أيضا ص: 65-66 من المصدر نفسه.
  45. شفاء الغليل: ص: 52.
  46. معنى الحديث في سنن الترمذي: أبواب تفسير القرآن، ج: 4 ص: 227-228.
  47. الموافقات ج: 3 ص: 276- 277.
  48. ذكر ابن حجر في تخريج أحاديث الكشاف أن هذا الحديث اشتهر على ألسنة كثير من العجم وفي كتبهم، وهو لا أصل له ولا وجود له مسندا ولا غير مسند. انظر: الكشاف: ج: 3 ص: 136 (الحاشية)
  49. أي إذا اعتمدنا على السياق لفهم المقصود.
  50. الموافقات: ج: 3 ص: 279.
  51. متن البخاري بحاشية السندب: باب تفسير القرآن،  ج: 3 ص: 115-116.
  52. الموافقات: ج: 3 ص: 279-280
  53. متن البحاري بحاشية السندي: كتاب الصوم، ج:1 ص: 333، وصحيح مسلم بشرح النووي: كتاب الصيام، ج:7 ص: 233. وقد روي الحديث فيهما بلفظ: (ليس من البر الصوم في السفر).
  54. إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام: ج: 2 ص: 19.
  55. سنن الترمذي: أبواب البر والصلة: ج: 3 ص: 209.
  56. إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام: ج: 2 ص: 231-232.
  57. الموافقات: ج: 3 ص: 276.
  58. أعلام الموقعين: ج: 1 ص: 217.
  59. نفسه: ج: 1 ص: 219.
  60. نفسه: ج: 1 ص: 219.
  61. الموافقات: ج: 13 ص: 410.
  62. أعلام الموقعين: ج: 3 ص: 119.
  63. الموافقات: ج: 3 ص: 271.
  64. كالإمام الغزالي والآمدي وابن الحاجب. انظر: مناجم الأصوليين في طرق دلالات الألفاظ على الأحكام: ص: 156.
  65. انظر تفصيل هذه للمباحث مع ما يظهر فيها من اعتماد الأصوليين على السياق في “دراسة المعنى عند الأصوليين” و”دلالة الأفاظ عند الاصوليين دراسة بيانية ناقدة”.
  66. سبق فيما قدمنا تنبيه الشيخ ابن دقيق العيد على القصور الحاصل في الكلام عن السياق وتقرير ما يتعلق به من قواعد بالرغم من أهميته في البيان.
  67. المستصفى: 185.
  68. أعلام الموقعين: ج: 3 ص: 119.
  69. نفسه: ج: 2 ص: 218.
  70. البحر المحيط: ج: 4 ص: 51،  وانظر أيضا:  ميزان الأصول: ص: 289.
  71. مجموع فتاوى ابن تيمية: ج: 20  ص: 495-496.
  72. الموافقات: ج: 3  ص: 347.
  73. نفسه: ج: 3  ص: 347.
  74. نفسه: ج: 3  ص: 269. وانظر أيضا ص: 271.
  75. نفسه: ج: 3 ص: 138.
  76. فتح الودود على مراقي السعود: ص 248-249.
  77. الموافقات: ج: 3  ص: 413.
  78. نفسه: ج: 3  ص: 415.
  79. الاعتصام: ج:1 ص:223.
  80. الإحكام في أصول الأحكام: ج: 2  ص:35.
  81. نفسه: ج3:  ص: 118.
  82. الموافقات: ج3 ص406.
  83. الاعتصام: ج: 1  ص: 244-245.
  84. تنوير الحوال: شرح موطأ الإمام مالك: كتاب الأقضية، باب القضاء في الرفق: ج: 2 ص: 122.
  85. الخطاب الشرعي وطرق استثماره: ص: 386.
  86. الموافقات: ج: 3  ص: 304.
  87. الإبهاج في شرح المنهاج: ج: 1  ص: 8.
  88. الموافقات: ج: 4  ص: 170.
  89. المستصفى: ص: 228.
  90. نفسه: ص: 228.
  91. التقرير والتحبير: ج: 1، ص: 135.
  92. المستصفى: ص: 191، وانظر أيضا: الإحكام في أصول الأحكام للآمدي: ج: 3 ص: 12.
  93. مجموع فتاوى ابن تيمية: ج: 7 ص: 114.
  94. البحث الدلالي عند الأصوليين: ص: 63.
  95. انظر البحر المحيط: ج: 8 ص: 174-175.
  96. المحصول في علم أصول الفقه: الجزء الأول من القسم الثاني ص: 593.
  97. المستصفى: ص: 208.
  98. الموافقات: ج: 3 ص: 347.
  99. نفسه: ج: 3 ص: 347.

100. نفسه: ج: 3 ص: 351.

101. نفسه: ج: 3 ص: 352.

102. فالإمام الزركشي مثلا الذي ألف “البحر المحيط” في الأصول هو نفسه مؤلف “البرهان في علوم القرآن” وغيره كثير

103. الفروق: ج: 1، ص: 176-177.

104. إعلام الموقعين: ج: 3، ص: 89.

Science

دة. فاطمة بوسلامة

أستاذة علوم القرآن بمؤسسة دار الحديث الحسنية/الرباط

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق