مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكدراسات محكمة

القدح في الراوي بسبب البدعة:

1 ـ تعريف البدعة في اللغة والاصطلاح : البدعة اسم من الابتداع، كالرفعة من الارتفاع .[1] وهي الأمر المستحدث: وأصل مادة (بدع) للاختراع على غير مثال سابق[2] . ومنه قوله تعالى:” بديع السموات والأرض”[3] أي خالقها ومخترعها من غير مثال سابق متقدم، فهو سبحانه الخالق المخترع لا عن مثال سابق. ومنه أيضا قوله تعالى : ” قل ما كنت بدعا من الرسل”[4] أي ما كنت أول من جاء بالرسالة من الله إلى العباد، بل تقدمني كثير من الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

والبديع: اسم من أسماء الله الحسنى، ومعناه المخترع للأشياء والمحدث لها على غير مثال سابق، فهو البديع الأول قبل كل شيء.[5]

قال الشاطبي : ” ويقال : ابتدع فلان بدعة يعني ابتدأ طريقة لم يسبقه إليها سابق. وهذا أمر بديع، يقال في الشيء المستحسن الذي لا مثال له في الحسن، فكأنه لم يتقدمه ماهو مثله ولا ما يشبهه. ومن هذا المعنى سميت البدعة بدعة، فاستخراجها للسلوك عليها هو الابتداع، وهيئتها هي البدعة، وقد يسمى العمل المعمول على ذلك الوجه بدعة: فمن هذا المعنى سمي العمل الذي لا دليل عليه في الشرع بدعة، وهو إطلاق أخص منه في اللغة”.[6]

فالبدعة إذا، هي كل ما أحدث على غير مثال سابق، سواء كان محمودا أو مذموما، ثم غلب استعمالها فيما هو نقص في الدين أو زيادة.[7]

والبدعة في الاصطلاح هي كل ما أحدثه الناس من قول أو عمل في الدين وشعائره مما لم يؤثر عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه بدلالة قوله صلى الله عليه وسلم : وإياكم ومحدثات الأمور فإنها ضلالة.”[8]

قال ابن الجوزي رحمه الله : ” والبدعة عبارة عن فعل لم يكن فابتدع، والأغلب في المبتدعات أنها تصادم الشريعة بالمخالفة وتوجب التعاطي عليها بزيادة أو نقصان. فإن ابتدع شيء لا يخالف الشريعة ولا يوجب التعاطي عليها فقد كان جمهور السلف يكرهونه، و كانوا بنفرون من كل مبتدع وإن كان جائزا حفظا للأصل وهو الاتباع”[9]

وعرف صاحب القاموس البدعة بأنها: ” الحدث في الدين بعد الإكمال، أو ما استحدث بعد النبي صلى الله عليه وسلم من الأهواء والأعمال “.[10]

وحد الشيخ محمد أبو شهبة البدعة بأنها : ” اعتقاد ما أحدث على خلاف المعروف عن النبي صلى الله عليه وسلم لا بمعاندة ومكابرة، بل بنوع شبهة”[11]

فالتعريفان الأولان فيهما توسع في مدلول البدعة، وأما التعريف الأخير فهو أخص منهما، وهو الذي ينسجم مع مقاصد علماء الجرح والتعديل عندما يتكلمون في أصحاب البدع . إذ أنهم لا ينظرون إلى البدعة من الناحية اللغوية، ولا من حيث تقسيماتها إلى محمودة ومذمومة أو أي تقسيمات أخرى، وإنما من حيث كونها مخالفة لقواعد الشرع وأصوله لا بعناد، بل بنوع شبهة وتأويل .[12]

ومن ثمّ فإن صفة التبديع التي أطلقها أئمة الجرح والتعديل على بعض الرواة تنصرف إلى التبديع في العقيدة التي عليها مدار الكفر والإيمان، لمخالفة هؤلاء المبتدعة من الرواة عقيدة أهل السنة والجماعة .

والجرح بسبب الابتداع من أخطر أنواع الجرح بعد الجرح بالكذب في الحديث النبوي، لأنه يتناول أمرا يتصل بالعقيدة الإسلامية التي عليها مدار الكفر والإيمان، والفسوق والعصيان. ولذا كانت التهمة به عظيمة تستلزم نوعا من التدقيق والتمحيص والتثبت في أي سبب من أسباب الجرح من غيرها .[13]

وإلى هذا المعنى أشار تاج الدين السبكي بقوله : ” ومما ينبغي أن يتفقد عند الجرح حال العقائد واختلافها بالنسبة إلى الجارح والمجروح، فربما خالف الجارح المجروح في العقيدة فجرحه لذلك. وإليه أشار الرافعي بقوله : وينبغي أن يكون المزكون برآء من الشحناء والعصبية في المذهب، خوفا من أن يحملهم ذلك على جرح عدل أو تزكية فاسق، وقد وقع هذا لكثير من الأئمة جرحوا بناء على معتقدهم، وهم المخطئون، والمجروح مصيب. قلت، ومن أمثلة ما قدمنا، قول بعضهم في البخاري : تركه أبو زرعة وأبو حاتم من أجل مسألة اللفظ.[14] فيالله والمسلمين، أيجوز لأحد أن يقول: البخاري متروك، وهو حامل لواء الصناعة، ومقدم أهل السنة والجماعة.

ثم يا ألله والمسلمين، أتجعل ممادحه مذام؟ فإن الحق في مسالة اللفظ معه، إذ لا يستريب عاقل من المخلوقين في أن تلفظه من أفعاله الحادثة التي هي مخلوقة لله تعالى، وإنما أنكرها الإمام أحمد رضي الله عنه لبشاعة لفظها.

ومن ذلك قول بعض المجسمة في أبي حاتم ابن حبان: لم يكن له كبير دين، نحن أخرجناه من سجستان، لأنه أنكر الحد لله، فيا ليت شعري من أحق بالإخراج؟ من يجعل ربه محدودا أو من ينزهه عن الجسمية؟”[15]

وبناء على هذا أقول: إن الكلام في نقلة الأخبار يحتاج كما يقول الإمام الذهبي: إلى ورع تام، وبراءة من الهوى والتعصب، وخبرة كاملة بعلل الحديث ورجاله. فمن الرواة” من بدعته غليظة، ومنهم من بدعته دون ذلك، ومنهم الداعي إلى بدعته، ومنهم الكاف، وما بين ذلك. فمتى جمع الغِلظ والدعوة تُجُنّبَ الأخذ عنه، ومتى جمع الخفة والكف أخذوا عنه وقبلوه. فالغِلْظُ كغلاة الخوارج، والجهمية، والرافضة.والخفة كالتشيع والإرجاء، وأما من استحل الكذب نصرا لرأيه كالخطابية فبالأولى رد حديثه”[16]. هذا من حيث الإجمال، أما من حيث التفصيل فذلك ما سنوضحه في المسألة التالية لهذه النقطة.

2 ـ حكم رواية المبتدع:

اختلف العلماء في مسألة الرواية عن أهل البدع والأهواء على مذاهب شتى، يمكن إجمالها فيما يلي : 

 المذهب الأول : عدم قبول رواية المبتدع مطلقا، مهما تكن بدعته .

قال الخطيب البغدادي : اختلف أهل العلم في السماع من أهل البدع والأهواء، كالقدرية والخوارج والرافضة وفي الاحتجاج بما يروونه، فمنعت طائفة من السلف صحة ذلك لعلة أنهم كفار عند من ذهب إلى إكفار المتأولين، وفساق عند من لم يحكم بكفر متأول، وممن يروى عنه ذلك مالك بن أنس.

وقال من ذهب إلى هذا المذهب أن الكافر والفاسق بالتأويل بمثابة الكافر المعاند والفاسق العامد، فيجب ألا يقبل خبرهما ولا تثبت روايتهما.”[17]

وممن ذهب إليه : سفيان بن عيينة، والحميدي، ويونس بن أبي اسحاق، وعلي بن حرب، والباقلاني وغيرهم.[18]

 المذهب الثاني : قبول رواية أهل البدع مطلقا، وهو ضعيف .

قال الخطيب :” وقال جماعة من أهل النقل والمتكلمين: أخبار أهل الأهواء كلها مقبولة، وإن كانوا كفارا وفساقا بالتأويل… وقد احتج من ذهب إلى قبول أخبارهم بأن مُواقع الفسق متعمدا والكافر الأصلي معاندان، وأهل الأهواء متأولون غير معاندين، وبأن الفاسق المعتمد أوقع الفسق مجانة، وأهل الأهواء اعتقدوا ما اعتقدوا ديانة”.[19] وفي نزهة النظر : ” وقيل يقبل مطلقا”[20]، وكذا في تدريب الراوي.[21].

المذهب الثالث : التفصيل في رواية المبتدع، بين أن يكون داعية إلى بدعته أو غير داعية، فيقبل غير الداعية ويرد حديث الداعية.

قال الحافظ ثناء الله الزاهدي: ” وهذا المذهب هو الأعدل، وصارت إليه طوائف من الأئمة، وادعى ابن حبان إجماع أهل النقل عليه. ولكن في دعواه هذه نظر”.[22].

ثم اختلف القائلون بهذا التفصيل: فبعضهم أطلق ذلك، وبعضهم زاده تفصيلا فقال: ” إن اشتملت رواية غير الداعية على ما يشيّد بدعته، أو يزينه، ويحسّنه ظاهرا فلا يقبل، وإن لم تشتمل فتقبل.

وطرد بعضهم هذا التفصيل بعينه في عكسه في حق الداعية فقال : إن اشتملت روايته على ما يردُّ بدعته قبل : وإلا فلا. وعلى هذا إذا اشتملت رواية المبتدع ـ سواء كان داعية أم لم يكن ـ على ما لا يتعلق ببدعته أصلا هل ترد مطلقا، أو تقبل مطلقا؟

مال أبو الفتح القشيري إلى أنه إن وافقه غيره لا يلتفت إليه، إخمادا لبدعته، وإطفاء لناره، وإن لم يوافقه أحد، ولم يوجد ذلك الحديث إلا عنده مع كونه موصوفا بالصدق، والتحرز من الكذب، واشتهاره بالدّين، وعدم تعلق ذلك الحديث ببدعته فينبغي أن تقدم مصلحة تحصيل ذلك الحديث ونشره على مصلحة إهانته وإطفاء بدعته”.[23].

المذهب الرابع : قسم أصحابه البدعة إلى مكفرة وغير مكفرة، فمن كفر ببدعته لا تقبل روايته عند جماهير أهل العلم. ومن لا يكفر ببدعته يروى عنه إن استجمع بقية شروط القبول. والتحقيق في هذه المسألة كما قال الحافظ ابن حجر : ” أنه لا يرد كل مكفر ببدعته، لأن كل طائفة تدعي أن مخالفيها مبتدعة، وقد تبالغ فتكفر مخالفيها، فلو أخذ ذلك على الإطلاق لاستلزم تكفير جميع الطوائف، فالمعتمد أن الذي ترد روايته من أنكر أمرا متواترا من الشرع، معلوما من الدين بالضرورة، وكذا من اعتقد عكسه، فأما من لم يكن بهذه الصفة، وانضم إلى ذلك ضبطه لما يرويه مع ورعه وتقواه فلا مانع من قبوله.”[24].

وهذا الذي قاله ابن حجر هو الحق الجدير بالاعتبار، ويؤيده النظر الصحيح كما قال العلامة أحمد محمد شاكر رحمه الله.[25] ومن ثم فإن العبرة في الرواية بصدق الراوي وأمانته والثقة بدينه وخلقه، والمتتبع لأحوال الرواة كما يقول أحمد شاكر : ” يرى كثيرا من أهل البدع موضعا للثقة والاطمئنان، وإن رووا ما يوافق رأيهم، ويرى كثيرا منهم لا يوثق بأي شيء يرويه. ولذلك قال الحافظ الذهبي في الميزان في ترجمة أبان بن تغلب الكوفي: ” شيعي جلد، لكنه صدوق، فلنا صدقه وعليه بدعته”[26]، ونقل توثيقه عن أحمد وغيره ثم قال : فلقائل أن يقول كيف ساغ توثيق مبتدع، وحد الثقة العدالة والإتقان؟ فكيف يكون عدلا من هو صاحب بدعة؟ وجوابه أن البدعة على ضربين: فبدعة صغرى كغلو التشيُّع، أو كالتشيع بلا غلو ولا تَحَرُّق؛ فهذا كثير من التابعين وتابعيهم مع الدين والورع والصدق، فلو رد حديث هؤلاء لذهب جملة من الآثار النبوية، وهذه مفسدة بينة .

ثم بدعة كبرى، كالرفض الكامل والغلو فيه، والحطّ على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، والدعاء إلى ذلك؛ فهذا النوع لا يحتج بهم ولا كرامة. وأيضا فما أستحضر الآن في هذا الضرب رجلا صادقا ولا مأمونا؛ بل الكذب شعارهم، والتقية والنفاق دثارهم، فكيف يقبل نقل من هذا حاله، حاشا وكلا . فالشيعي الغالي في زمان السلف وعرفهم هو من تكلم في عثمان وطلحة ومعاوية وطائفة ممن حارب عليا ر   ضي الله عنه، وتعرض لسبّهم.

والغالي في زماننا وعرفنا هو الذي يكفّر هؤلاء السادة، ويتبرأ من الشيخين أيضا، فهذا ضالّ مفتر”، والذي قاله الذهبي مع ضميمة ما قاله ابن حجر فيما مضى: هو التحقيق الدقيق المنطبق على أصول الرواية، والله أعلم “[27]

 وتجدر الإشارة في هذا المقام إلى أن الخلاف في قبول رواية المبتدع أو عدم قبولها خلاف نظري كما قال الشيخ عبد الله بن الصديق الغماري رحمه الله.[28]ومن ثم يصعب على الباحث إيجاد تطبيقات مبنية على اختلاف الفقهاء بسبب اختلاف مذاهبهم في قبول رواية المبتدع.

أثر رواية الحديث في اختلاف الفقهاء، للدكتور عبد الحق يدير، سلسلة أطروحات وأعمال رقم 17، طبعة 2011م، المملكة المغربية، جامعة سيدي محمد بن عبد الله كلية الآداب والعلوم الإنسانية سايس-فاس. ص204 وما يليها.

الهوامش:


[1]  ـ انظر المصباح المنير للفيومي، مادة ‘ (بدع) : 1/38

[2]  ـ  انظر الاعتصام للشاطبي: 1/ 36 تحقيق محمد رشيد رضا.

[3]  ـ البقرة، الآية 116

[4]  ـ الأحقاف، 8

[5]  ـ انظر لسان العرب مادة : (بدع)

[6]  ـ انظر الاعتصام1/ 36

[7]  ـ انظر القاموس الفقهي لسعدي أبو حبيب ص.32

[8]  ـ رواه أبو داود في السنة في باب لزوم السنة والترمذي في كتاب العلم باب ما جاء في الأخذ في السنة واجتناب البدع.وابن ماجة في المقدمة باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين.

[9] ـ انظر تلبيس إبليس لابن الجوزي ص.16

[10]  ـ انظر القاموس المحيط للفيروزابادي مادة( بدع).

[11]  ـ انظر الاجتهاد في علم الحديث، ص.180

[12]  ـ نفسه .

[13]  ـ انظر أسباب اختلاف المحدثين:2/487

[14]  ـ مسالة اللفظ هي مسألة (خلق القرآن) التي امتحن من أجلها أهل العلم من طريق المأمون العباسي، وقد أصاب الذين لم يجيبوا إلى القول بخلق القرآن أذى كثيرا، وفي طليعتهم إمام المحدثين :أحمد بن حنبل رضي الله عنه، الذي سجن بسببها ثمانية وعشرين شهرا، وخلعت يداه وضرب بالسياط، وقد ألف الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله فيها رسالة قيمة سماها : ” مسألة خلق القرآن وأثرها في صفوف الرواة والمحدثين وكتب الجرح والتعديل “.

[15]  ـ انظر طبقات الشافعية الكبرى لتاج الدين السبكي : 2/ 12/ 13، تحقيق عبد الفتاح الحلو ومحمود الطناحي

[16]  ـ انظر الموقظة، ص.85.

[17]  ـ انظر الكفاية ، ص.120

[18]  ـ انظر كتاب العلل للترمذي1/ 61ـ 62

[19]  ـ انظر الكفاية، ص121، وص.124.

[20]  ـ انظر نزهة النظر ص81.

[21]  ـ انظر تدريب الراوي :1/ 324.

[22]  ـ انظر توجيه القاري إلى القواعد والفوائد الأصولية والحديثية والإسنادية للحافظ ثناء الله الزاهدي ص.189ـ 190.

[23]  ـ انظر توجيه القارئ إلى القواعد والفوائد الأصولية والحديثية والإسنادية للحافظ ثناء الله الزاهدي ص.189ـ 190

[24]  ـ انظر نزهة النظر، ص81.

[25]  ـ انظر شرح الفية السيوطي في علم الحديث، ص105.

[26]  ـ انظر ميزان الاعتدال في نقد الرجال للذهبي، 1/ 5ـ 6 تحقيق علي محمد البجاوي .

[27]  ـ  انظر شرح ألفية السيوطي في علم الحديث، ص.105

[28]  ـ انظر الاجتهاد في علم الحديث، ص.208.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق