وحدة الإحياءحوارات

سلطة الثقافة محكومة بالنضال من أجل القيم.. حوار مع الدكتور عبد الهادي بوطالب

 حاوره: عبد السلام طويل

في ذكرى رحيل الدكتور عبد الهادي بوطالب

احتفاء بذكرى رحيل العالم والمفكر ورجل الدولة المرموق الدكتور عبد الهادي بوطالب، يطيب لموقع مجلة الإحياء أن يعيد نشر قراءة في كتابه الموسوم: “العالم الإسلامي ومشروع النظام العالمي الجديد”، سبق أن أنجزتها سنة 1997، وأنا حينها لا زلت طالبا أواصل دراساتي العليا في مرحلة الماجستير بالقاهرة. وقد نشرت بالعدد 237 من مجلة الفيصل.

وقد شاءت الأقدار أن تشكل تغطية إعلامية لصدور العدد بجريدة الشرق الأوسط الدولية، سانحة لسؤال الدكتور عبد الهادي بوطالب عني من مكتبه  بالديوان الملكي من خلال اتصاله بأحد المنابر الصحفية المغربية التي كنت أنشر فيها بين الفينة والأخرى في المرحلة الجامعية الأولى من دراستي.

وعلى إثر هذا الاتصال، الذي لا يسع المجال لذكر تفاصيله وحيثياته الدالة، استضافني فضيلته ببيته بالدار البيضاء، ودار بيننا حديث مطول عن مساره العلمي والسياسي وعن مستجدات الحياة السياسية ببلدنا حينها، وهو الحديث الذي أعتز به وأحتفظ باستعادة أهم مفاصله في سياق أنسب.

وقد كان من المقرر أن أجري مع فضيلته حوارا شاملا، غير أن إكراهات عودتي للقاهرة في نفس اليوم، وأذكر أنه كان يوم جمعة، حالت دون ذلك. فتم الاتفاق على أن أبعث لفضيلته الأسئلة عبر البريد العادي؛ لأن البريد الإلكتروني لم يكن متاحا وقتذاك، على أن يتفضل بالجواب عنها وإعادة إرسالها لي بالقاهرة. وهو ما تم بالفعل.

وبهذه المناسبة نعيد نشر المادتين، دون أي تعديل، تخليدا لذكرى روحه الطيبة؛ إنسانا متواضعا أصيلا، وعالما جليلا، ورجل دولة من الطراز الرفيع..

رحمه الله تعالى رحمة واسعة.

على سبيل التقديم

الدكتور عبد الهادي بوطالب من الشخصيات المغربية البارزة، سبق له أن تولى مواقع رسمية عديدة، منها وزير في الحكومة ومستشار للملك الحسن الثاني، ورئيس للبرلمان المغربي، ومدير للإيسيسكو. وهو كاتب ومفكر عربي إسلامي وأستاذ جامعي صدرت له مؤلفات كثيرة في التاريخ والأدب والقانون والاجتماع والسياسة، وهو عضو في الأكاديمية المغربية وعضو في المجمع الملكي لبحوث الحضارة في الأردن.

ما هي أهم المحطات التي ساهمت في صياغة شخصيتكم “العالمة” وأعطتها الطابع الموسوعي؟

إن تكويني المتنوع أضفى على شخصي المتواضع تنوع الشخصية؛ فأنا بدءًا درست علوم اللغة العربية والعلوم الشرعية والآداب وأصول الفقه وأصبحت في سن العشرين من عمري عالما من علماء جامعة القرويين المغربية بمدينة فاس. ووصلت هذه الرتبة العلمية في هذه السن المبكرة، فكنت أشكل حالة شاذة بالنسبة للعلماء شيوخ القرويين الذين لم يسبق أن كان أحدهم ضمن العلماء في هذه السن.

 ثم لم ألبث أن وضعت توجهي الأصيل (أو تخصصي في علوم الأصالة) جانبا وسارعت إلى تكوين علمي آخر مغاير، فأصبحت أستاذًا للقانون. وفي مرحلتي الأولى كنت أديبا وشاعرا. وأصبحت في مرحلتي التالية باحثا قانونيا ومتخصصا في النظم السياسية في العالم الثالث، المادة التي لقنتها لأفواج الطلاب المتعاقبين على مدرجي كليتي الحقوق بالدار البيضاء والرباط طيلة عشرين سنة. ولي في القانون والنظم السياسية مؤلفات معروفة.

وقبل العشرين كنت أتابع دروسي في جامعة القرويين، لكني كنت أطعم دراستي بتكوين عصامي: كنت منفتحا على اللغة الفرنسية وآدابها. وفي الوقت نفسه كنت أنهي كل أسبوع نص قراءة كتاب على الأقل بالعربية أو الفرنسية، ثم انفتحت في المرحلة الثانية من تكويني على اللغة الإنكليزية ونهلت منها ما يسر لي أن أقرأ وأستفيد مما ينشر بها.

لكن المدرسة الكبرى التي غشيتها منذ بداية شبابي هي مدرسة الرحلات والأسفار. إني أعرف أغلبية أقطار العالم. واليوم أنا في سن السبعين يكاد يكون لي بكل قطر ذكرى، وبكل أديب أو عالم في الأقطار التي زرتها صلة حميمة أو صلات عمل وتدارس.

والسياسة التي خضت بحرها طيلة عمري علمتني الكثير مما لا يوجد في الكتب ولا يحصل عليه الدارسون في المعاهد والجامعات. ويكفي أن تعلموا أني أعرف ما يقارب مائة رئيس دولة، قضى بعضهم وأفضى إلى ما قدم، وما زال بعضهم على قيد الحياة. ومن بين هؤلاء من أعتز بصداقتهم وما يكنّونه لي من مشاعر المودة، مقابل تقدير مني لهم يستحقونه، كما أعرف مئات من المفكرين والساسة والوزراء في عالمنا العربي الإسلامي.

كيف استطعتم أن توفقوا بين منطق السلطة والسياسة (كوزير ورئيس للبرلمان ومستشار للملك الحسن الثاني) وبين منطق العلم والمعرفة؟ وكيف تتصورون نوعية العلاقة النموذجية التي يجب أن تكون بين سلطة السياسة وسلطة الثقافة؟

 السؤال كما تضعونه، وهو ذو شقين، يوجب علي أن أدلي إليكم بجوابين عن التوفيق بين منطق السلطة والسياسة وبين منطق العلم والمعرفة، وهذا هو الشق الأول. أما الشق الثاني؛ فهو نوعية العلاقة النموذجية الواجب قيامها بين سلطة السياسة وسلطة الثقافة. وللجواب على الشقين أرى أن هناك حلقة مفقودة لم تثيروها في سؤالكم. هي سلطة النضال من أجل القيم الذي يكون على المناضل أن يتقيد به في أي موقع يوضع فيه أو يجد نفسه فيه. وأعترف بأن هذه السلطة طغت في نفسي على السلطتين الأخريين. فأنا نفذت إلى سلطة السياسة من سلطة النضال من أجل تحقيق قيم آمنت بوجوب تحقيقها، ومن أجل مُثل عانقتها ولم أترك معانقتها قط في أي موقع كنت.

 وسلطة الثقافة كانت هي أيضا محكومة عندي بسلطة النضال من أجل القيم، فقد كنت دائما أبحث لنفسي وأطعّمها بثقافة ملتزمة بالقيم التي آمنت لنفسي بها. وأعتقد أن هذه السلطة الثالثة السائدة عندي والتي هي فوق جميع السلطات هي التي جعلتني لا أتهافت على أية ثقافة، ولا أنساق في إذعان وخنوع لسلطة السياسة، ولا أتهافت في السياسة على أي منصب، بل أختار من المناصب ما أخدم من منابرها سلطة القيم.

ولعلها لكونها سلطة متميزة عن السلطتين الأخريين، ولأنها لها معاييرها المغايرة، فإني تركتها تتحكم في نفسي وترسم لي مواقع قدمي، وكانت في النهاية عنصر توفيق بين السلطتين، حتى ليمكن القول أني كلما تعارضت مقتضيات السلطتين فيما بينهما لجأت إلى تحكيم سلطة النضال من أجل القيم وأذعنت في النهاية لحكمها وسرت على ما ترسمه لي من أقوال وأفعال ومواقف وممارسات. وهكذا كتب لي في عملي السياسي الطويل أن أتولى أسمى المناصب وأتركها مستقيلا عندما أرى ذلك ضروريا بدون حسرة ولا ندم.

وبكلمة جامعة أني أرى أن سلطة السياسة وسلطة الثقافة تنتهي حدوها عند حدود التقيد بالقيم التي يجب أن تسود وحدها شخصيتي السياسي والمثقف.

من خلال عملكم كمستشار سابق للملك الحسن الثاني مكلف، من بين مهامكم الأخرى، بقضايا العالم الإسلامي، ومن خلال رئاستكم للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (إيسيسكو) سابقا، كيف تقيمون حصيلة العمل الإسلامي المشترك؟ وما هي بحسب تصوركم أهم عوامل الإعاقة التي تحول دون تحقيق التضامن الإسلامي؟ وكيف يمكن تفعيل قيم الحق التي نمتلكها بحكم رصيدنا الحضاري وإخراجها من حيز الكمون والسلبية إلى حالة الفعل والتأثير؟

إنها أسئلة ثلاثة بالغة الأهمية ومرتبطة في حلقة واحدة، لذا دعني اختصرها دون أن أغير شيئا في صياغتكم المحكمة: إنكم تسألونني ما هي حصيلة العمل الإسلامي المشترك؟ وما هي معوقاته؟ وكيف تتم تنمية حصيلته؟

وأقول جوابا على ذلك أن العالم الإسلامي شاسع الأطراف ممتد على القارات الخمس المأهولة إذا أخذناه في معنى عامة المسلمين، وهو بذلك صعب الاندماج في مجموعة متماسكة متجانسة، باستثناء رابطته الأساسية وهي الانتماء إلى الإسلام الموحد. لكن العالم الإسلامي، بمعنى آخر، هو مجموع الدول الإسلامية المنضوية تحت لواء منظمة المؤتمر الإسلامي التي تأسست سنة 1969 على إثر محاولة إحراق اليهود المسجد الأقصى واليوم وصل عددها 54 دولة أعضاء في المنظمة.

إن حصيلة العمل الإسلامي المشترك في نطاق هذه المنظمة إن لم تكن تلبي طموح المسلمين إلى تحقيق التضامن الكامل، (وهو حجر الأساس في الوحدة الإسلامية المرغوب فيها من جماهير المسلمين)، فإنها حصيلة محدودة لكنها مع ذلك إيجابية؛ إذ كم هو رائع حقا أن يلتئم صف العالم الإسلامي في منظمة واحدة تلتقي فيها 54 دولة لا تجمعها إلاّ رابطة الإسلام الواحد الذي يتجاوز الحدود والقوميات وتعدد اللغات، ويصهر تباين الأعراق والألوان في بوتقته، لكن يبقى هذا الانصهار نظريا. ومع ذلك فالعمل الإسلامي يسير في هذا الحد الأدنى مواكبا معوقات التعددية الفسيفسائية التي تبدو كلها مفرقة لا موحدة، ومقسمة لا جامعة.

إن العمل الإسلامي لم تكن حصيلته كبرى لأنه في مرحلته الحاضرة لا يعدو أن يكون بناء من أعلى؛ وقد اقتضت ذلك الظروف الخاصة التي نشأت المنظمة فيها وترعرعت طيلة تسع وعشرين سنة. ويبقى أن هذا العمل الإسلامي الفوقي يتطلب عملا بنيويا من أسفل، وهذا مجال شديد التعقيد طويل النفس في حاجة إلى تخطيط محكم طويل المدى.

إن بناء العالم الإسلامي يجب أن ينطلق من قاعدة المدرسة والمعهد والجامعة والكتاب والإعلام والثقافة وتربية البيت والأسرة وجميع الأدوات التي تصنع المستقبل. ومن أجل ذلك تأسست المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة التي شرفت بأن كنت أول مدير منتخب لها من سنة 1982 إلى سنة 1992.

لكن يبدو بكل أسف أن العمل السياسي الذي تديره المنظمة الأم هو الذي يحظى بالأسبقية عند الدول الأعضاء عملا بقاعدة درء المفاسد مقدم على جلب المصالح. فالقضايا السياسية التي لا تمهل والتي يواجهها العالم الإسلامي تأخذ باهتمام الدول الأعضاء أكثر مما يأخذه التخطيط المنطلق من القاعدة لإنشاء العالم الإسلامي المقبل على أساس التربية الواحدة والثقافة الواحدة والعلم الواحد.

وسأكون صريحا معكم لأقول أنه لا المنظمة الأم بمشاغلها العظمى الملحة، ولا المنظمة المنبثقة عنها المتخصصة في شؤون التربية والعلوم والثقافة تتوفران على وسائل عملهما بما يجعل منهما منظمتين فاعلتين.

والقضية بدءًا وختمًا إرادة سياسية، فإذا توفرت إرادة العمل الإسلامي المشترك في القمة انعكس تأثيرها على العمل الإسلامي في القاعدة، ولا أحد منها يغني عن الآخر أو يعوضه، وهذه الإرادة السياسية الواعية بعظمة كسب رهان صنع عالم إسلامي متضامن فكرا وروحا هي التي ستضيف إلى تخطيطها لصنعه عبر توفير وسائل العمل الإسلامي المشترك.

كيف تقيمون الواقع الثقافي الإسلامي والعربي خصوصا في ظل الانشطار والتمزق الإيديولوجي والمعرفي بين المرجعية الثقافية الحضارية الإسلامية من جهة، وبين المرجعية العلمانية الغربية من جهة ثانية؟ وهل من إمكانية لخلق نوع من المصالحة المرجعية؟

لحسن الحظ نعيش اليوم تقاربا بين النزعات الفكرية ساعد عليه سقوط الانشطارية الإيديولوجية العالمية. فبعد انهيار الاتحاد السوفياتي وسقوط جدار برلين أخذ العالم يتعولم حول معطيات متقاربة.

وحتى العلمانية الغربية ضعفت حدة مقاومتها للنزعة الدينية، فلم يعد الصراع في أوج احتدامه كما كان قبل نهاية القطبية السوفياتية.

صحيح أنه لم تستسلم نزعة لأخرى، لكن النزعتين معا انطوتا على نفسيهما واحتفظتا بموقعيهما كل في محيطه، وإذا صح أن أقتبس مصطلحات السياسة أو الحرب، فلأقل أنهما في هدنة وإن لم يعلنا عن نهاية الحرب.

إن من بين المبادئ التي تسود عالم اليوم تعايش الرأي مع الرأي الآخر، والتعايش السلمي بين أطراف النزاع، وسيادة الحوار. وأعتقد أن حرب العلمانية مع الدين قد سكتت طبولها تحت تأثير هذه المبادئ، وربما سيفضي هذا إلى المصالحة المرجعية بينهما حسب تعبيركم.

من وجهة نظركم، كيف يمكن للعالم الإسلامي أن يفرض نفسه كفاعل رئيسي ومؤثر في النظام العالمي الجديد؟

لقد أفردت لهذا الموضوع كتابا خاصا بالعربية والفرنسية بعنوان: “العالم الإسلامي ومشروع النظام العالمي الجديد”. وقد صدر في نهاية سنة 1990 وظلت معطياته مستقرة بحيث ليس الكتاب في حاجة إلى تحيين مضمونه المواكب للأحداث.

وقد دعوت في هذا الكتاب إلى ضرورة التزام واضعي النظام العالمي بالحوار، وعدم فرضه من لدن قطبية أحادية، أو تنميطه على غرار مجتمع سياسي واحد، بل العالم الجديد يجب أن يصنعه الجميع تخطيطا وتطبيقا، وأن يكون من وحي أفكار جديدة، كما دعوت إلى إشراك جميع التيارات والديانات في هذا الحوار الذي يجب أن لا يستثني فكرا أو مذهبا. واعتبرت أن كل شيء في العالم الإسلامي يؤهله ليسهم بفعالية وعقلانية في الحوار العالمي.

كما شرحت بتفصيل في الكتاب المذكور ما يتوفر عليه العالم الإسلامي من عطاء فكري زاخر يمكن أن يكون منقحا ومتمما لحضارة الغرب التي تفتقد حضارته المادية البعد الروحي الذي يتوفر عليه الإسلام، وبدون الحوار؛ أي بفرض هذا النظام عن طريق إملاء إرادة واحدة فلن يكون النظام الجديد، لا ديمقراطيا ولا عالميا.

ونحن نلاحظ أن هذه المنهجية لم تتبع لحد الآن في وضع نظام العولمة، وأن إرادة واحدة هي التي تفرضها ليكون النظام منمطا على شكل نظام وحيد سائد. وإذا استمر الأمر على ذلك بدون فتح الحوار في هذا الشأن الخطير الذي يرهن مستقبل العالم، فإن هذا النظام سيولد ميتا وعلى الأقل لن يكتب له البقاء.

لقد دعوت إلى أن تأخذ المنظمات العربية (الجامعة العربية) والإسلامية (منظمة المؤتمر الإسلامي) زمام المبادرة، بتعاون مع المنظمات الأممية وفي طليعتها اليونيسكو، لوضع مجسّد لصورة النظام العالمي الجديد حتى يطبعه الفكر بطابعه، وليس المال والاقتصاد فحسب، وحتى يكون النظام العالمي مجتمع مثُل وقيم وروحانيات وماديات في آن واحد، بدلا من أن يكون مجتمع تكالب على التكاثر المادي، والاستهلاك، والاستهتار بالقيم. وأعتقد أن للديانات السماوية وفي طليعتها الإسلام، لأنه دين ودنيا، ما تغني به الفكر في الحوار الذي أدعو إليه، كما أن المعتقدات التي تتوفر على أخلاقيات خصبة وغنية يمكن أن تثري الحوار بما يرشد ويعقلن النظام المزمع إقامته.

كيف تعاطيتم مع مقولتي “نهاية التاريخ” لفرانسيس فوكوياما، و”صدام الحضارات” لصمويل هانتينغتون؟

هذه المقولات صدمت الفكر العالمي عند ظهورها ولم تلبث أن خبا أوارها. فسواء كتابات توينبي عن “دراسة التاريخ” وفوكوياما عن “نهاية التاريخ” أو هانتينغتون عن “صدام الحضارات”، أو صراعها، فجميعها تدخل في مجالات علوم المستقبليات التي لا تدمج في العلوم الدقيقة المنضبطة أو الحقة. والتعاطي معها يجب أن يطبعه التساؤل عنها كقيمة علمية أو نظرية ثابتة.

هناك من لا يؤمن إلا بصراع المصالح، وهذا اتجاه آخر لم تشيروا إليه، ولعله أن يكون أقرب إلى الحقيقة من غيره من المقولات المشار إليها.

إن المهاتما غاندي كان يقول: “إن الحياة يجب أن ترتكز على قاعدة الحقيقة”. لكن من يمتلك الحقيقة؟ هذا هو السؤال الذي لا يمكن لأحد أن يملك حقيقة الجواب عليه.

على كل حال فللإسلام اتجاه آخر، هو أن الاختلاف، اختلاف الحضارات أو المصالح حقيقة أزلية: “ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة. ولا يزالون مختلفين، إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم…”. وقد قال بعض مفسري القرآن في تفسيرهم للفقرة الأخيرة من الآية: “ولذلك؛ (أي الاختلاف) خلقهم إذ “وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ” ” كما جاء في آية أخرى.

هناك رأي شائع ومغلوط في الشرق العربي عموما مفاده عدم اهتمام المغرب بالقضايا القومية العربية، وارتباطه أكثر بالغرب، ما تعقيب سيادتكم؟

هذا الرأي الشائع ليس صحيحا كل الصحة ولا مغلوطا كل الغلط، وهو كذلك أيضا وارد بالنسبة للمشرق العربي الذي يهتم بصيرورة منطقته العربية وحاضرها ومستقبلها أكثر مما يهتم بالمغرب العربي بجميع دوله.

والقول أن المغرب مرتبط أكثر بالدوائر الغربية صحيح إلى حد ما إذا قلنا أن الجغرافيا تصنع التاريخ.

إن المغرب يوجد على بعد اثني عشر كيلومترا من أوروبا لا يفصله عنها إلا مضيق جبل طارق، وله ارتباط وثيق بفرنسا التي فرضت عليه حمايتها طيلة ما يقرب من نصف قرن، ولم ترحل عنه إلا بعدما تركت ماثلة عليه بصماتها. تماما كما هو الشأن بالنسبة لإنكلترا حيال دول المشرق والخليج العربيين. وفرنسا ما تزال المصدر الأول إلى المغرب والمستورد الأول منه. والمغرب سيصبح مرتبطا مع أوروبا في منطقة اقتصادية للتبادل الحر سنة 2010، ومن الآن فله بالاتحاد الأوروبي علاقة شراكة.

والعلاقات الاقتصادية هي حجر الزاوية اليوم في العلاقات الدولية العامة. ومع ذلك لا يمكن القول أن المغرب لا يهتم بالقضايا القومية لعالمنا العربي. فهو عضو فعال في الجامعة العربية منذ استقلاله، وهو أكبر مستقبل للقمم العربية، وهو الذي ساهمت قواته الملكية المسلحة في حرب 1967. وكان من بين الدول العربية القلائل الذي لبوا نداء التضامن العربي كما لباه في حرب العبور سنة 1973. وفي كلا الحربين هب المغرب لنجدة الشقيقتين: جمهورية مصر العربية في حرب سيناء والجمهورية العربية السورية في حرب الجولان، وقد شهدنا مؤخرا حدثين عظميين: توقيع المغرب اتفاقية اقتصادية لإقامة منطقة تبادل حر بينه وبين جمهورية مصر العربية، وأخرى بينه وبين المملكة الأردنية الهاشمية.

فهل يجد المغرب العربي من أخيه المشرق العربي نفس الاهتمام؟ نتمنى أن تشكل علاقات المملكة المغربية بالمشرق هذا النموذج المفتقد.

الهوامش


[1] . حوار أجراه عبد السلام طويل مع الدكتور عبد الهادي بوطالب، مجلة العالم، العدد 634، لندن، (22 ربيع الثاني 1419ﻫ/15 غشت 1998م)، ص44-46.

Science

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق