وحدة الإحياءقراءة في كتاب

قراءة في كتاب: العالم الإسلامي ومشروع النظام العالمي الجديد للدكتور عبد الهادي بوطالب

في ذكرى رحيل الدكتور عبد الهادي بوطالب

احتفاء بذكرى رحيل العالم والمفكر ورجل الدولة المرموق الدكتور عبد الهادي بوطالب، يطيب لموقع مجلة الإحياء أن يعيد نشر قراءة في كتابه الموسوم: “العالم الإسلامي ومشروع النظام العالمي الجديد“، سبق أن أنجزتها سنة 1997، وأنا حينها لا زلت طالبا أواصل دراساتي العليا في مرحلة الماجستير بالقاهرة. وقد نشرت بالعدد 237 من مجلة الفيصل.

وقد شاءت الأقدار أن تشكل تغطية إعلامية لصدور العدد بجريدة الشرق الأوسط الدولية، سانحة لسؤال الدكتور عبد الهادي بوطالب عني من مكتبه  بالديوان الملكي من خلال اتصاله بأحد المنابر الصحفية المغربية التي كنت أنشر فيها بين الفينة والأخرى في المرحلة الجامعية الأولى من دراستي.

وعلى إثر هذا الاتصال، الذي لا يسع المجال لذكر تفاصيله وحيثياته الدالة، استضافني فضيلته ببيته بالدار البيضاء، ودار بيننا حديث مطول عن مساره العلمي والسياسي وعن مستجدات الحياة السياسية ببلدنا حينها، وهو الحديث الذي أعتز به وأحتفظ باستعادة أهم مفاصله في سياق أنسب.

وقد كان من المقرر أن أجري مع فضيلته حوارا شاملا، غير أن إكراهات عودتي للقاهرة في نفس اليوم، وأذكر أنه كان يوم جمعة، حالت دون ذلك. فتم الاتفاق على أن أبعث لفضيلته الأسئلة عبر البريد العادي؛ لأن البريد الإلكتروني لم يكن متاحا وقتذاك، على أن يتفضل بالجواب عنها وإعادة إرسالها لي بالقاهرة. وهو ما تم بالفعل.

وبهذه المناسبة نعيد نشر المادتين، دون أي تعديل، تخليدا لذكرى روحه الطيبة؛ إنسانا متواضعا أصيلا، وعالما جليلا، ورجل دولة من الطراز الرفيع..

رحمه الله تعالى رحمة واسعة.

على سبيل التقديم

لقد بات من المؤكد أن العالم الإسلامي هو المستهدف الأول من الانعكاسات السلبية للتحولات الدولية منذ انهيار المعسكر الشرقي وحتى حرب الخليج الثانية ومأساة البوسنة المؤلمة. ومن ثم فإن أي تفكير جدّي في مستقبل العالم الإسلامي رهن بإجالة النظر، وتعميق التفكير جماعيًا في طبيعة مشروع “النظام العالمي الجديد”، وشبكة الروابط والتوازنات التي تربطه بعالمنا الإسلامي، حتى يمكننا فك الارتباط الظالم بنظام القوة والمصلحة، وتأسيس قواعد جديدة لنظام قوامه العدل والتعايش والتعاون.

ومن الدراسات القليلة الجادة التي تصدت لتحليل هذا الموضوع ومقاربته من موقع العالم بالتاريخ والسياسة الممارس لها، المتضلع في الفكر والقانون والاجتماع، الأستاذ عبد الهادي بو طالب من خلال كتابه الأخير: “العالم الإسلامي ومشروع النظام العالمي الجديد”. وقد قسمه إلى مقدمة مكثفة اختزل فيها المشهد الدولي الحديث والمعاصر بكثير من العمق والاستيعاب، وأربعة فصول:

الفصل الأول: العلاقات الدولية من القطبية الثنائية إلى القطبية المتعددة.

الفصل الثاني: العالم الإسلامي ومقوماته الذاتية.

الفصل الثالث: مقومات النظام الإسلامي.

الفصل الرابع: تمهيد لقيام نظام عالمي جديد.

ففي الفصل الأول يتجاوز الكاتب شرنقة الارتهان بين الثنائية القطبية والأحادية القطبية، مؤكداً أن أية قوة مهما كان نفوذها لن تستطيع السيطرة على العالم والتحكم فيه، وأن العالم بعد انهيار القطب الشيوعي أمست تحكمه تعددية قطبية، ولو أنها في مرحلة التشكل. أما القطب الأمريكي فلم يتردد عدد من المفكرين، أبرزهم أمريكيون، في توقع انهياره في المستقبل القريب بوصفه دولة عظمى[2].

وهي الحقيقة التي جعلت الولايات المتحدة تنهج سياسة الضغط على الحلفاء المنافسين واستدراج الدول المجاورة إلى وحدة جمركية كاملة، واتباع سياسة الاحتضان الاقتصادي والسياسي للحيلولة دون طموحات اليابان في اكتساب الأسواق الجديدة في أوروبا، وهو ما اتضح بجلاء في منطقة الخليج العربي.

لقد عرض بو طالب، بنوع من الدقة المنهجية والروح العلمية التي تمزج بشكل رفيع بين السياسي والاقتصادي والثقافي، أهمّ المناطق والمنظومات المؤهلة لأن تؤدي دوراً طلائعياً ومؤثراً في تشكيل الملاحم الكبرى لمشروع النظام العالمي الجديد إلى جانب الفاعلين التقليديين: الولايات المتحدة وروسيا، في مقدمتها الاتحاد الأوروبي واليابان والصين والهند وأمريكا اللاتينية.

يُلمح الكاتب إلى انعدام التطابق بين التطور السياسي والاقتصادي من جهة، والتطور الأخلاقي من جهة أخرى، فليست هناك علاقة تلازم شرطية تربط بينهما، فالنمو الاقتصادي والسياسي لا يؤديان بالضرورة إلى نمو أخلاقي، وهو ما لاحظه بالنسبة لتجربة أمريكا اللاتينية “ومن المفارقات المؤسفة أنه كلما تم انفتاح وتطور سياسي واقتصادي كانت له تبعات سلبية في ميدان المخدرات..!”.

وبعد أن أوضح إخفاق معظم الدول الإفريقية في إعادة الهيكلة الاقتصادية إذعانا لشروط برامج المؤسسات المالية الدولية، وكيف أدى ذلك إلى مضاعفة متاعبها الاقتصادية، وترسيخ مختلف مظاهر الانحلال الإداري التي تمس هيبة الدولة وقدرتها على حسن التدبير، يتساءل المؤلف: “وفي هذا الوضع القاتم كيف يتأتّى لدول القارة السمراء أن تُسمعَ صوتَها في عالم تخلى عن المبادئ ليبني مستقبله على تفاعل القوى؟”.

وإلى غاية نهاية الفصل الأول لا نكاد نمسك بأية ملامح محددة للنظام العالمي الجديد، حيث جميع القرائن تتضافر للدلالة على أن الحيرة بدأت تدب في جميع المناطق بما في ذلك الولايات المتحدة وأوروبا، وأن غالبية الفاعلين الدوليين هم في ريبة من النظام الجديد، ولاسيما أن الأحداث قد أخذت تعود بالعالم القهقرى إلى سابق مطاحناته[3].

في الفصل الثاني، بعد أن يحدد المؤلف العالم الإسلامي تحديدا عقديا قبل أي تحديد جغرافي أو اقتصادي أو اجتماعي، لكونه “عالم الرسالة المحمدية العالمية التي جاءت دعوتها موجهة للناس كافة، والتي أمر دستورُها “القرآن” أمّتها أن تكون الداعية إلى الخير، الناهية عن المنكر في كل مكان”، وبعد أن يحدد الأمة بكونها الأمة التي تلتف حول الإسلام، يقف على المفهومين الجزئي والكلي للإسلام مشدداً على المفهوم الكلي الحضاري الواسع حيث يجرى الحديث عن الحضارة الإسلامية، والسياسة الإسلامية، والنظام الإسلامي، والثروات الإسلامية، والطاقات الفكرية الإسلامية في إطار مشروع شامل “لأسلمة المعرفة” بجميع مشاربها[4].

ومع أن لا أحد يجادل في المضمون الكوني للإسلام ورسالته العالمية، فإن عبد الهادي بو طالب إذ يوسع دائرة امتداده واستقطابه وتأثيره لتشمل بعض رموز التراث المسيحي واليهودي مثل ابن العبري المالطي وابن ميمون الأندلسي وابن جبيرول وابن سهل الشاعر[5]، قد يثير بعض الحساسيات والاعتراضات من جرّاء انفتاحه الجريء، غير أن هذا الانفتاح في نظرنا ليس وليد رؤية مستلبة بقدر ما يعبر عن تصور متكامل أصيل يحسب أن العالم الإسلامي إنما “نشأ وامتد عالما تفاعلت فيه الحضارات والثقافات في ظل قيم الإسلام الذي انتشر كدين عالمي، ورسالة تحررية عالمية، فقامت له دولة، وازدهر له فكر، وانتشرت له حضارة..”.

بعد ذلك يقوم المؤلف برصد أهم أبعاد العالم الإسلامي: الاستراتيجية الجغرافية والاقتصادية والسياسية والثقافية وذلك بلغة علمية رصينة تستحضر الأرقام والإحصاءات والجداول التوضيحية والمقارنات.

البعد الجغرافي: تناول فيه المؤلف العمق الاستراتيجي المتميز للعالم الإسلامي الذي قسمه إلى ثلاث مناطق مناخية: المنطقة الإفريقية، ومنطقة الشرق الأدنى، والمنطقة الآسيوية.

البعد الاقتصادي: تناول فيه العامل السكاني “الديمغرافي” حيث يبلغ مجمل سكان الدول الإسلامية الأربع والخمسين ما يزيد على مليار نسمة. يضاف إليها 194 مليون من الأقليات الإسلامية. ومع أن العامل السكاني يشكل لدى بعضهم هاجس تخوف، إلا أن عبد الهادي بوطالب يذهب إلى “أنها من حيث البعد الاستراتيجي قد تصبح من المقومات المهمة لتقدم العالم الإسلامي في حالة توحيده الاقتصادي، معتبراً أن السوق الإسلامية المفترضة تفوق السوق الأوربية المشتركة ومنطقة التبادل الحر بين كندا والولايات المتحدة والمكسيك أربع مرات”.

الثروات الطبيعية: وفي مقدمتها موارد الطاقة: نفط، غاز.. إذ يمتلك العالم الإسلامي 27٪ من الإنتاج العالمي، ويختزن العالم العربي وحده نسبة 62,4٪ من الاحتياطي النفطي العالمي، وهو ما جعل دول العالم الإسلامي تحتل مركزا مهماً في السوق النفطية الدولية، ذلك أنها تمثل أغلبية داخل منظمة الدول المصدرة للنفط “أوبك”، بل توشك هذه المنظمة أن تكون إسلامية. كما يمتاز العالم الإسلامي بموارده المعدنية ذات الأهمية الاستراتيجية؛ كالفوسفات الذي يحتل المغرب فيه موقع الصدارة من حيث التصدير، وثاني منتج بعد الولايات المتحدة. كما يوجد الأورانيوم بكميات مهمة في النيجر، والحديد في موريتانيا، والمنغنيز في الغابون…

ورغم كل هذه المعطيات فإن الكاتب، انسجاما مع نزوعه النقدي، يعتبر أن “السياسات الاستثمارية التي انتُهجت حتى الآن قد أدت إلى بطلان مردودية الخيرات الإسلامية بالنسبة للعالم الإسلامي”[6].

صحيح أن هناك صعابا وعوائق لا تشجع على الاستثمار في العالم العربي، من قبيل عدم الاستقرار السياسي الذي غالبًا ما يؤدي إلى عدم استقرار الاختيارات الاقتصادية، وعدم وجود قوانين ثابتة لضمان الاستثمار وتشجيعه، أو تشعب الإجراءات الإدارية وتعقدها، فضلا عن عدم توافر البنيات الصالحة لتنشيط الاقتصاد، إلا أننا لا نلمس رغبة حقيقية لدى أصحاب رؤوس الأموال العربية في تدارس هذه المشكلات وإيجاد حل لها.

كما أشار الكاتب إلى المضاعفات الاقتصادية السلبية للحرب العراقية الإيرانية “350 مليار دولار”، وحرب الخليج الثانية بعد اكتساح العراق غير المشروع للكويت مهما كانت المسوغات “450 مليار دولار”.

وبنبرة متفائلة يبشر الكاتب بغد إسلامي أفضل بفضل المقومات البشرية والطبيعية التي يقوم عليها العالم الإسلامي، وبفضل ما يتمتع به من طاقة للإنتاج والاستهلاك كفيلة بان تجعل منه منطقة مؤهلة للتوسع التنموي، وذات بعد اقتصادي واعد، مع انتقاده الشديد لغياب وعي سياسي بالضرورة المصيرية للوحدة الإسلامية.

البعد السياسي: يشير الكاتب إلى أن العالم الإسلامي بدوله الأربع والخمسين يحتل قرابة 30٪ من مقاعد الأمم المتحدة، كما أنه، على تشتته في إطار تنظيمات جهوية غير إسلامية، أمسى حضوره واضحاً في السياسة الدولية، وبرغم ما يتميز به من قوة بشرية وطاقة هائلة، وخيرات ومواد خام ضرورية في الاقتصاد العالمي، فإنه يعاني من كثرة صراعاته وتناحراته الخارجية والداخلية..

ويكشف عبد الهادي بوطالب ينظر سياسي عميق مختلف المفارقات التي يعيشها العالم الإسلامي “فهو عالم تجارب أسلحة الأقوياء المتطورة، وعالم التبعية الاقتصادية والفكرية، وعالم التحالفات التي يضطر إليها داخل سباق الصراعات، وبالتالي يخضع لها في تبرير سياسته واقتصاده. والعالم الإسلامي في أكثريته عالم المديونية للغرب، كما أنه يتحمل ضغوط العهد الجديد الذي لم يعد عهد سيادة الدول على الشعوب، ولكن أصبح عهد سيادة المنظمات النقدية الدولية والبنوك العالمية ومؤسسات القروض، وكلها، يواصل الكاتب بأسلوب تحليلي متميز، تفرض قيوداً على الدول الضعيفة المحتاجة، وتوجهها في اتجاه سياسة لا شعبية تخلق لها أزمات اجتماعية”[7].

وخلافاً لكل التصورات الوحدوية الحالمة نجد عند الكاتب وعيا واقعيا نافذاً؛ إذ يستبعد وحدة العالم الإسلامي السياسية في شروطه وظروفه الحالية، لكون “الوحدة كلمة كبيرة معقدة صعبة التحقيق، خاصة بين مجموعات بشرية لها كياناتها وخصوصياتها وأنماط عيشها، وإن انتظمت كلها في منظومة الإسلام أو في قيم الإسلام”، ويقترح بدل الإغراق في مثاليات الوحدة الانطلاق من دراسة المعطيات المشتركة بين دول هذا العالم والمساعدة على تحقيق مشروع تضامنه الذي قد يؤدي إلى تحقيق وحدته في الأمد البعيد.

وبعد أن يقف بتفصيل عند المقومات الروحية والمعنوية للوحدة الإسلامية يؤكد ضرورة البحث عن الشروط الموضوعية والمادية لخلق وحدة حقيقية، مستحضراً مخلفات الحقبة الاستعمارية الوخيمة على البنيات الاجتماعية والثقافية للمجتمعات الإسلامية التي جعلت منها مجرد سوق استهلاك واسع للعالم المصنّع الذي يستورد منه المواد الخام بأثمان هزيلة ويعيدها إليه مصنعة جاهزة للاستهلاك بأثمان باهظة[8].

وقبل أن يختم أهم تجليات البعد السياسي يثير واحدا من أهم المواضيع السياسية والفكرية وأخطرها، يتعلق بمناهج التغيير؛ إذ نجده يميز بين مدرستين: المدرسة التطورية الانقلابية، والمدرسة الحضارية الإصلاحية، آخذاً في الحسبان “أن من بين المسلمين من يريد أن يحدث تغييراً كمياً “الانقلابيون” وفيهم من يريد أن يحقق تغييراً كيفياً “الحضاريون”، ولكنهم كلهم يسعون إلى التغيير، وهذا قاسمهم المشترك[9]، مشدداً على اتباع منهج التغيير الحضاري الذي يحض على التغيير القيمي والإصلاح الفكري والتربوي وفقا لسنة التدرج.

البعد الثقافي: يبدد الكاتب المخاوف التهويلية من الخطر الإسلامي المزعوم، بدليل أن قوة انتشار الإسلام وسرعة امتداده في المكان والزمان لا تعود “لقوة جيوشه، ولا لبطش قادته، وإنما لتقبل شعوب الأرض للرسالة الإسلامية كوسيلة للتحرر من الطغيان السائد على مستوى نظم الحكم، وعلى صعيد البنيات الاجتماعية” مشدّداً على “أن طاقة الدفع الإسلامي لازالت قادرة اليوم على الفعل والتغيير لأنها طاقة أزلية، تستمد إشعاعها ودوامها من إشعاع ودوام الرسالة القرآنية: “إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ” (الحجر: 9)[10].

وفي عمق البعد الثقافي يتناول الكاتب مغزى الأمة في النظام الإسلامي مؤمناً أن الأمة الإسلامية ذات بعد عالمي إنساني بحكم أن الإسلام دين الناس كافة، وأن رسالته رسالة عالمية خالدة تتجاوز الحدود القومية والأبعاد الحضارية والفروق الطبقية والحواجز المكانية والزمانية الفاصلة، لتلتقي في الوحدة الإسلامية..

ويؤكد عبد الهادي بوطالب أن الله، تبارك وتعالى، في الأمة الإسلامية هو الموحّد والموحَّد، إذ بتوحيده تتوحد الأمة وتصبح: “كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ” (آل عمران: 110)، ما دامت متشبثة بمقوماتها، ملتزمة أهداف دينها الداعي إلى مكارم الأخلاق.

بعد هذه الرؤية الاحتفائية بالذات الباعثة على الأمل تأتي الرؤية الواقعية النقدية لتكشف واقع المسلمين الذين يعيشون هوة شاسعة بين ماضيهم المجيد وحاضرهم الذي تحكمه ظاهرة التخلف الفكري المتمثل في ارتفاع نسبة الأمية، وفي الغيبة الكلية أو الجزئية عن ميدان العلم والتقانة “التكنولوجيا”، وفي اجترار برامج تعليمية لم تعد تستجيب لمتطلبات العصر، وفي تبعية مناهجه التربوية للدول المستعمرة سابقا، وفي النسب الزهيدة من المبالغ المخصصة للبحث العلمي مما تسبب في هجرة الأدمغة، والارتهان الشبه الكلي لفضاء الحضارة الغربية.

إذا كان الفصل الثاني يركز على المقومات المادية والطبيعية للعالم الإسلامي، فإن الفصل الثالث يهتم بإبراز أهم الأسس الفكرية والدينية والسياسية للنظام الإسلامي، وكذا أهم المقومات التصورية والفلسفية المؤطرة للمنظومة الإسلامية في أفق التأكيد على “حجم الإسلام ووزنه كمجموعة فاعلة حضاريًا واقتصاديًا وسياسيًا، لها تطلعات على المستوى الدولي، كما أن عليها واجبات تجاه البشرية جمعاء”[11].

لقد جاء الفصل الثالث مكثّفاً بأهم الإشكالات التي تثار عادة في حقل الفكر الإسلامي المعاصر، والسياسي منه على وجه الخصوص؛ كعلاقة الدين بالدنيا، وعلاقة الدين بالسياسة، وعلاقة السياسة بالأخلاق، وعلاقة السلطة بالمجتمع، وطبيعة السلطة في الإسلام، والموازنة المستفيضة بين الديمقراطية الغربية والشورى الإسلامية، فضلا عن الموازنة بين منهجية التنمية في كل من الإسلام والغرب.

لقد أوضح المؤلف أن الإسلام جاء نظاماً متكاملا ومكملا لما قبله؛ حينما تأهل الفكر البشري ليرقى إلى مستوى الاستنباط الفلسفي والاستنتاج العلمي. كما أثبت أن الفكر الموضوعي لا يمكنه أن يفصل بين الدين والدنيا، وأن الدين طاقة روحية من صلب طبيعة البشر لا مفر منها ولا غنى عنها، فالمرجعية الأسمى للنظم السياسية في الإسلام هي القرآن والسنة؛ إذ ما من عمل مؤسساتي إسلامي لا يستهدف تدبير أمور المجتمع في إطار الأحكام الإلهية[12]، ومن ثم فإن الفكر السياسي القائم على الشريعة الإسلامية حافل بالقيم والمبادئ والممارسات، يعتمد على تنظير وتطبيق يجعلان منه نمطاً خلقياً متميزاً كاملاً في معالجة شؤون الحياة كافة، وهو ما جعل الكاتب يستخلص باطمئنان علمي واثق أن علم السياسة لم يكن علماً دخيلاً على الإسلام، ولا مستقلاً عنه كما كان للديانة المسيحية، فالأخلاق جزء من السياسة، والسياسة بدورها أخلاقية محضة، وفي هذا تجاوز لكل انتهازية أو اصطناع، كما أن المعارضة في الإسلام واضحة المعاني والأهداف، فقصدها الأول هو مساعدة الحاكمين على انتهاج السياسة الأكثر عدلاً وارتباطاً بالنظام الإسلامي من طريق المراقبة التقويمية[13]. أما الغرض المقصود من الحكم فهو إقرار الحق في حكمة وتوازن بوساطة حاكم مدرك للقانون نصا وروحاً، ومعتمد على مؤسسات وأجهزة تساعده على تنفيذ الأحكام.

ويستحضر الكاتب قولة ابن قيم الجوزية: “حيثما يوجد العدل فثم شرع الله”؛ ليستخلص أن الحكم في الإسلام إنما يؤكد الربط الكامل بين الحكم والعدل مصداقا لقوله تعالى: “وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ” (النساء: 58).

كما يشير الأستاذ عبد الهادي بوطالب إلى أن ثنائية الراعي والرعية، خلافا لثنائية الحاكم والمحكوم، تفيد أن علاقتهما بشرية متمثلة في وعي كل منهما لدوره ومسؤوليته، فالكل راع والكل مسؤول عن رعيته. مؤكّداً أن السلطة في الإسلام روحية أكثر منها مادية، فكما أنه لا إكراه في الدين، فلا إكراه ولا قهر في السياسة، فرقابة الضمير الديني المتمثل في رقابة الله التي هي رأس الحكمة، هي سلطة الحكم الإسلامي الضاربة جذورها في أعماق المجتمع، وهي سر انسجام المجتمع الإسلامي وتلاحمه[14].

وبعد أن يلخص شروط الحاكم في الكفاءة والنزاهة والثقة والعلم والاجتهاد، يحدد البيعة بوصفها نوعاً من التعاقد الحر، مميزاً بين البيعة العامة المنصبة على اختيار الخليفة، والبيعة الخاصة المتعلقة باختيار نخبة من أهل الحل والعقد أو الهيئة البرلمانية بلغة العصر.

وبرغم إقرار المؤلف باختصاص الله تعالى بالتشريع، إلا أنه أقر للمجتهدين باختصاص فرعي في التشريع كلما انعدم النص.

وفي هذا السياق فقد أبرز المؤلف كيف أنّ النظام السياسي الإسلامي الأمثل هو ذلك النظام الذي يقوم على الشرعية “مطابقة السلوك السياسي للنص الديني” والمشروعية “الرضا والموافقة من طرف الأمة” معاً، وأن الشرعية بمفردها لا تغني عن المشروعية شيئا، وأن الشورى مقوّم أساسي من مقومات الحكم في الإسلام، كما أنها ملزمة وواجبة شرعاً، وهي اجتهاد لا يُلغي ولا يحل محل التشريع القرآني، وإنما يصار إليها للتشريع في المجالات التي لا يوجد فيها نص شرعي، أو يوجد لكنه غامض محتمل؛ كما يكون في القضايا المستجدة والنوازل العارضة في غير العبادات؛ أي في الأمور الدنيوية بحيث تصبح الشورى وسيلة للإجماع؛ ولا يغدو الاجتهاد مقصورا على الفقهاء، وإنما يتعداهم إلى الخبراء[15].

 وهو ما يجعلنا نشدد من جهتنا على أن الشورى ليست سلوكاً أخلاقياً ضيقاً، وإنما هي آلية من آليات الارتقاء النوعي للمجتمع الإسلامي في الإطار السياسي، ووسيلة من وسائل تحصين القرار من الوقوع في محاذير الأوهام والأهواء الشخصية للحاكم. فالشورى ليست شكلا من أشكال أنظمة الحكم لنقول إن نظام الحكم في الإسلام ثابت ومنصوص عليه، وإنما يختلف النظام باختلاف المجتمعات والظروف.. غير أن الشورى آلية من آليات إنتاج القرار التي تتوخى الوصول إلى الواقع، فهي في الحقيقة عملية استبانة واستظهار للرأي ممن يمتلكون رأيا، وهو ما يجعلنا نتحفظ على رأي المؤلف بخصوص التحديد الحصري للشورى بكونها: “مؤسسة آلية لتطبيق نظام الخلافة”[16].

فالغاية العملية السالفة الذكر للشورى لابد أن تؤدّى بروحية أخلاقية سامية تجسد مفاهيم الأخوة والتراحم، وهما عنصران ضروريان، بانعدامهما تفقد الشورى خصوصيتها الإسلامية وتتحول إلى مجرد آلية خالية من الروح؛ فالديمقراطية لا تتقاطع مع الشورى إلا في واحدة من مراميها وهي مشاركة الأمة في القرار لكن غايات المشاركة ليست واحدة.

ما دامت رؤية الناس للخير والشر تتغير تبعا بتغير العقائد والمجتمعات والتطورات الاقتصادية والسياسية فلا يمكنهم أن يهتدوا إلى نظام مستقر ثابت الدعائم. ووعيا من الهدي القرآني بهذه الحقيقة ومراعاة منه لها فقد “بين للناس أن مقياس كل مصلحة هي الخلق المستمد من الفطرة والقائم على أساس العمل لمرضاة مثل أعلى هو غاية الإنسان من الحياة ومن العمل”.

ومن هنا تنبع الحاجة الماسة لتفعيل مقصد الشورى باعتبارها “ألفة للجماعة، ومسبارا للعقول، وسببا إلى الصواب..” كما ذهب إلى ذلك الفقيه المالكي أبي بكر بن العربي في أحكامه؛ خاصة وأن الشورى فضلا عن إسهامها في التمييز بين الخير والشر بين الصواب والخطأ، فإنها تسهم في الموازنة والمفاضلة بين صواب وأصوب، وحسن وأحسن من أجل اتباعه والأخذ به ما أمكن.

ولأن الشورى، في امتدادها الأفقي والعمودي الذي يشمل النظام الاجتماعي والعلاقات الاجتماعية والسياسية في كليتها، عادة ما تؤدي إلى تلافي الخطأ واجتنابه، و تحري الصواب والتمسك به، أو إلى الارتقاء إلى درجات الصلاح والإتقان الممكنة من خلال الإفادة من مختلف الآراء والاجتهادات؛ وهي بذلك تسهم في سداد قراراتنا واجتهاداتنا وتحالفاتنا وسياساتنا وسائر أضرب تصرفاتنا.

وفي هذا السياق نجد إجمالا مكثفا لوظائف الشورى ومقاصدها فضلا عن الوصول إلى الصواب والأصوب، والحسن والأحسن في: الخروج من الأهواء والاعتبارات الذاتية، ترسيخ قيم النسبية والتواضع، تحقيق العدالة والإنصاف، إشاعة مناخ الحرية والمبادرة وتحرير الطاقات في البناء والإبداع، وتنمية القدرة على التفكير والتأمل، والتحفز لتنزيل ما تم التشاور حوله، والعمل على دعمه والدفاع عنه، وإشاعة مشاعر الألفة وتعزيز مطالب الوحدة، والاستعداد لتحمل التبعات والنتائج مهما كانت سلبية، الإسهام في تدبير الاختلاف والتنازع، ومنع الاستبداد والطغيان. كما تسهم في إطالة عمر نظام الحكم وضمان استقراره من خلال تجديد الإجماع حوله..

وبالمقابل فإن كلفة غياب مقصد الشورى عن حياة الأمة تكون بالغة الوخامة لأن غيابها يفضي، لا محالة، إلى التفرد والتعسف والظلم والطغيان والأثرة.. ولأن الشورى نقيضة الاستبداد؛ فما أن تحل وتترسخ وتسود في صياغة السياسات العامة للجماعة الوطنية حتى يضمحل الاستبداد ويغيب، وما أن تغيب الشورى حتى يخيم الظلم ويعم الطغيان إيذانا بأفول الحضارة والعمران.

والحق في ممارسة الشورى، كمدخل للإسهام في تدبير الشأن العام للجماعة الوطنية، مثلما يؤدي إلى حماية الشعوب من استبداد حكامها وسوء تدبيرهم للشأن العام، فإنه يؤدي إلى حماية الحكام أنفسهم من نزعة الاستبداد ومن القابلية للاستبداد.

وهي القابلية التي تتسع كلما اتسع الفراغ الدستوري والمؤسسي الشوري الضامن للحقوق والحريات العامة؛ استلهاما لروح الشريعة وتحقيقا لمقاصدها الكلية في العدل والحرية والمساواة والكرامة الإنسانية.. كما أن هذه القابلية تتسع كلما تجاهل ذوي الأمر حقيقة أن السلطة بطبيعتها تغوي على حد تعبير صاحب “روح القوانين” منتيسكيو.

ومن حسنات انفتاح الفقه السياسي الإسلامي على الفكر السياسي الحديث الارتقاء بالشورى من مجرد استبانة الرأي إلى حيازتها لقوة الإلزام القانوني. وسلطتها في تحديد الإطار القانوني الذي بمقتضاه يتم رسم السياسات العامة للدولة من خلال المؤسسات التشريعية.

كما نسجل على الأستاذ الجليل انعدام مساءلته للتجربة السياسية الإسلامية كما طبقت في التاريخ لا كما هو منصوص عليها، وعدم كشفه عن مظاهر الانحراف عن روح مبدأ الشورى آلية لكشف الواقع بوصفه نمطا تربويا إنسانيا قوامه التراحم والتآخي والتوالي، مع إيماننا أن الانحراف في التطبيق التاريخي للشورى لا يضر في أصل المفهوم، ما دام مصدر التشريع إلهياً والانحراف بشرياً.

وبدل الفصل القاطع بين السلطات وما ينتج منه من أزمات سياسية، يدعو المؤلف إلى الأخذ بمنهج الإسلام في التكامل والتعاون بينها من دون الوقوع في الحكم الفردي المستبد. ويؤكد الباحث أن السيادة في الإسلام لله وحده، وأنه، جل وعلى، السلطة التأسيسية الخالدة التي تستَمد منها كل السلطات البشرية التنفيذية وجودها. وأن نظام الشورى يشكل أساساً لحفظ التوازن ورقابة السلطة القضائية والتنفيذية مع التركيز على الوضعية الخاصة للسلطة القضائية في الإسلام، فقد قاضى الشعبُ أمام القضاء خلفاءه وملوكه، فخضع هؤلاء وامتثلوا للحكم القضائي الشرعي وأذعنوا لتنفيذ أحكامه[17].

فضلا عن كل هذه المقومات أبرز المؤلف إقرار الإسلام لمبدأ المساواة بين البشر، وإعلانه للسلام العالمي، وسعيه للتعايش السلمي، كما أوضح أن السلام في الإسلام هو القاعدة، وأن الحرب هي الاستثناء.

وفي الفصل الأخير، الذي تميز بمنزع نقدي واضح لكلا العالمين الإسلامي والغربي، وبنفس استشرافي قاصد، دعا المؤلف إلى التعاون والمشاركة في إرساء أسس نظام عالمي جديد يحكمه التعاون لا المواجهة، ويحل محل النظام القديم الذي أوشك أن يستنفد كل شروط وجوده ومسوغات استمراره من جراء ما أصابه من تصدع واعتراه من خلل، مع تشديده على إدخال الإسلام في الحساب ضمن المرتكزات التي سوف يحدد بمقتضاها النظام العالمي الجديد وذلك لما للمسلمين من حجم وثقل، وما تستبطنه تعاليم الإسلام من قيَم ومُثُل يمكن الأخذ والاقتباس منها في صياغة نظام عالمي جديد. فسواء من حيث الضخامة السكانية، والاتساع الجغرافي، والمؤهلات الطبيعية، أو من حيث المقومات الذاتية القمينة بتوفير التماسك والانسجام للمجتمع البشري، فإن الإسلام يبرز حاليًا بهذه المعطيات طرفًا أصيلاً في معركة التحول الحضاري.

الهوامش:  


[1]. عبد السلام طويل، قراءة في كتاب: “العالم الإسلامي ومشروع النظام العالمي الجديد”، للدكتور عبد الهادي بوطالب، الرياض: مجلة الفيصل، عدد: 237، 1997.

2. أبرزهم ليستيرثورو (Lester Thurow) والمؤرخ بول كنيدي (Paul Kennedy).

[3]. عبد الهادي بوطالب، العالم الإسلامي ومشروع النظام العالمي الجديد، بيروت: دار الساقي/لبنان، 1995م، ص43.

[4]. المصدر نفسه، ص49.

[5]. المصدر نفسه، ص51.

[6]. المصدر نفسه، ص61.

[7]. المصدر نفسه، ص69.

[8]. المصدر نفسه، ص70.

[9]. المصدر نفسه، ص71.

[10]. المصدر نفسه، ص72.

[11]. المصدر نفسه، ص100.

[12]. المصدر نفسه، ص103.

[13]. المصدر نفسه، ص104.

[14]. المصدر نفسه، ص108.

[15]. المصدر نفسه، ص112.

[16]. المصدر نفسه، ص114.

[17]. المصدر نفسه، ص120.

د. عبد السلام طويل

  • رئيس وحدة بحثية بالرابطة المحمدية للعلماء بالمغرب، ورئيس تحرير مجلتها الإحياء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق