وحدة المملكة المغربية علم وعمرانغير مصنف

مظاهر يقظة المغرب الحديث، لمحمد المنوني

 

 تحميل الكتاب

  دعوة الحق

186 العدد

سبق لي منذ أزيد من ربع قرن أن نوهت على صفحات مجلة الأنيس التطوانية بكتاب: «الآداب والعلوم والفنون على عهد الموحدين». للأستاذ الجليل محمد المنوني، ذلك الأثر القيم الذي اعتبر صدوره –وقتذاك- حدثا بارزا في تاريخنا الفكري بالمغرب، فاستوجب الكثير من الإشادة والتنويه .. وقد ختمت تحليلي المسهب، وتقييمي للكتاب برجاء أن يتحفنا المؤلف المفضال بمؤلفاته وبحوثه التي هو بصدد إنجازها … وأحمد الله –سبحانه- أن استجاب لرجائي، حيث وفق استاذنا الكبير إلى إثراء مكتبتنا التاريخية بالعديد من البحوث المسهبة القيمة، والدراسات المنهاجية الرصينة، التي ازدانت بها صفحات المجلات؛ المغربية منها والشرقية على السواء .. كما كان للإذاعة الوطنية فضل تعريف المستمعين على بعض تلك المواضيع الطريفة الشيقة التي يدبجها براع أستاذنا الكبير، أمد الله في حياته ..!
والآن، التقي مع قراء مجلة دعوة الحق الزاهرة الغراء، التي يعد الأستاذ المنوني من الدعامات البارزة بين محرريها، وأغزرهم إنتاجا على صفحاتها، في جولة عبر مؤلفه الجديد المعنون ب: «مظاهر يقظة المغرب الحديث».
وهذا الكتاب –ككل بحوث الأستاذ المنوني، بلا مبالغة- يتناول موضوعا بكرا طريفا، يضيف إلى المكتبة المغربية درة ثمينة طالما تشوقت إلى الحظوة بها، وكثر ما اشتكت من افتقارها إلى التحلي بمثلها .. كما أنه يضع في تاريخ المغرب الحديث لبنة خالدة من شأنها أن تلقي الأضواء الكاشفة على العديد من النقط التي ظلت، أو ظل جلها،، مكتنفا بالغموض،، مجهولا من لدن الكثرة من عشاق تاريخنا.
والآن، وبعد هذا التمهيد الذي كان لابد لي منه، فما هو هذا المؤلف الجديد، الذي أود تعريف القراء عليه؟ وما هو الإطار العام الذي وضعه الأستاذ المنوني له لاستيعاب مباحثه وفصوله؟
أما الكتاب فيعد –بحق- مساهمة جادة من الأستاذ المنوني في كتابة تاريخنا المعاصر، الذي
يجب أن تتضافر الجهود على كتابة فصوله، كل في دائرة اختصاصه، حتى لا يكون مصيره مصير الفترات الغامضة من تاريخنا القديم، كما هو الشأن بالنسبة للفترة الفاصلة بين عصري الأدارسة والمرابطين.. التي لسنا نعرف عنها إلا أقل القليل.
وأما الإطار، فهو: ملامح، أو مظاهر، النهضة المغربية الحديثة في مختلف المناحي وشتى المجالات، تلك الملامح التي وفق الأستاذ المنوني، كامل التوفيق، في استجلائها، وجمع شتاتها، بقدر ما حالفه التوفيق في عرضها وتبويبها، وتسليط الأضواء الكاشفة عليها.
والكتاب يتكون من جزأين اثنين، يتناول أولهما، وهو الجزء الذي نقدمه، ملامح النهضة المغربية، التي انتظمتها فصول عدة، بحيث تناول فيه المؤلف الفاضل بالبحث والتحليل، بيان المآل الذي آل إليه المغرب خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، ثم تطرق، بعد ذلك، إلى استعراض ملامح النهضة، أو اليقظة، خلال فترتين اثنتين، تبدأ أولاهما من لدن احتلال الجزائر سنة 1830 وتمتد إلى موقعة تطوان سنة: 1860، أما ثانية الفترتين فتشمل الحقبة الزمنية الممتدة من حرب تطوان، إلى انصرام القرن التاسع عشر، وبالضبط، إلى وفاة الوزير الداهية أبا احماد سنة: 1900.
ويطالعنا في مدخل الدراسة وصف تحليلي حي، لهذا التدهور الذي أصاب العالم الإسلامي، حيث أصيب بالخمول والجمود، فوقف حائرا مشدوها حيال مستحدثات المدنية الغربية ومبتكراتها، التي عمت أوروبا، وشملت جميع مرافق الحياة تقريبا، وكان موقف العالم الإسلامي منها ومنه المغرب طبعا، موقف الخائف الوجل المتردد، الذي لا يكاد يصدق ما تراه عيناه .. بل والذي أمسى يخشى أن يتطاير عليه شرر الآلات البخارية التي ربما خيل إليه أنها من عمل المردة وصنع الشياطين ..! هذا الموقف من الحضارة الصناعية، وهذا التردد في احتذائها، أو الاقتباس منها، قد جر على العالم الإسلامي الكثير مما عاناه، وما فتئ يعانيه، من الويلات والشرور، فجعله يفقد زمام القيادة، ويتخلى عن مقعد الريادة، بل إنه أطمع فيه أعداءه، وجعلهم يستهينون به، ويستصغرون شأنه، ويتحينون الفرص لابتلاعه والإجهاز عليه .. وقد استتبع الحذر من الأخذ بأسباب الحضارة الصناعية – كما لاحظ مؤلفنا- انهيارا في الاقتصاد المغربي شمل جميع المرافق، ثم تدهور في الشؤون الإدارية والدفاعية، بحيث دمر الأسطول المغربي، عن آخره، وأصبحت البلاد مهددة من حين لآخر بالوقوع تحت سيطرة أعدائها، مما حدا ببعض الأصوات الحرة الخيرة، الغيور على وطنها وأمتها إلى رفع عقائرها منذرة بسوء المصير، محذرة من مغبة الفوضى والانحلال، داعية إلى الأخذ بزمام المبادرة قبل أن يتسع الخرق على الرافع .. ومن هؤلاء المصلحين: محمد الكردودي المتوفى سنة 1268 هـ / 1851 م الذي ضمن صيحته كتابه: «كشف الغمة، ببيان أن حرب النظام حق واجب على هذه الأمة».
ومنهم –أيضا- ابن عزوز؟ الذي له: «رسالة العبد الضعيف، إلى السلطان الشريف». التي رفعها إلى السلطان مولاي عبد الرحمن في موضوع تنظيم الجيش المغربي.
ومنهم – أيضا أبو الحسن التسولي المتوفى سنة: 1228 هـ / 1842م الذي ضمن جوابه «البسيط» للأمير عبد القادر الجزائري، آراءه في الإصلاح، التي تتلخص في أنه لا يتم إصلاح بدون قوة نظامية العدد والعدة.
وإلى جانب هؤلاء المصلحين المؤلفين، وليسوا إلا أمثلة لغيرهم، لا نعدم وجود شعراء ملتزمين، استنهضوا الأمة، وحدوا ركبها المتواني، عن طريق الكلمة المنغمة، ومن هؤلاء الوزيران الشهيران: محمد بن إدريس العمراوي، الفاسي، ومحمد غريط المكناسي، اللذان لم يشغلهما المنصب والحياة عن المساهمة في إذكاء روح اليقظة بين الجماهير المتطلعة إلى غد أفضل .. والذي يلفت النظر هو وجود شعراء بالجنوب المغربي يحسون بنفس إحساس إخوانهم في الشمال، ومن هؤلاء: محمد بن الشيخ سيدي الشنجيطي، الذي تقوم صيحاته دليلا على مدى ارتباط أجزاء الوطن العزيز ببعضها البعض..
والحق أن كارثة احتلال الجزائر، وبعدها حرب تطوان، كانت نذير شؤم للمغرب الذي أخذ تخمه يتقلص شيئا فشيئا، وجعل شعاعه يخبو رويدا رويدا ..! «وإذا أردنا –يقول المؤلف- أن
نستخلص مقدار ما أصاب البلاد من كارثة الجزائر وسابقتها (موقعة ايسلي المشئومة) نجد المغرب أصبح فاقدا قوته البحرية، مضيعا هيبة جيشه البري، مهددا في استقلاله من طرف الجار الأوربي القريب، فماذا تبع هذا الوضع المقلق؟ نشأ عن ذلك كله أن فتحت أبواب مراكش للأوربيين، بعدما كانت مغلقة في وجوههم، إلا في أحوال خاصة، فأخذوا يتسابقون لاكتساب النفوذ فيها، وكثر ترددهم عليها بالتجارات أولا، ثم بعد ذلك، بالمشروعات، الأمر الذي نشأ عنه عواقب وخيمة سياسيا واقتصاديا».
وقد «تبع –يقول المؤلف- احتلال الجزائر وضعف المغرب عن نصرتها، أن أصبح المغرب المنيع الجناب بالأمس، القريب، يعيش في هذا العهد المظلم تحت تهديد مستمر لاستقلاله، فمن مشاكل الحدود التي تثار في كل مناسبة، إلى اغتصاب لبعض أجزائه، من فرنسا تارة، وإسبانيا أخرى، إلى تدخلات لا حد لها في شؤون المغرب الشرقي، بل كاد المغرب يفقد استقلاله نهائيا عقب موقعة إيسلي، لولا التنافس الدولي الذي عاش في ظله استقلال المغرب حتى أوائل القرن  العشرين».
تلك هي المقدمات التمهيدية، والنتائج الواقعية المستخلصة منها، وهي مدار البحث الذي عالجه الأستاذ المنوني خلال عرضه الطور الأول من أطوار النهضة الذي لم يستغرق أكثر من بضع عشرة صفحة من الكتاب، وكان بالإمكان التوسع في النقط المدروسة بهذا الفصل، لولا أنها نقط معروفة متداولة بين الباحثين.
ولذلك فقد نقلنا السيد المؤلف إلى الباب الثاني من الكتاب، ولعله أهم أبوابه وأجدرها بعناية الباحثين، وقد استغرق من الكتاب أربعة وسبعين ومئتي صفحة، وشمل المدة الزمنية الممتدة من: 1276 هـ / 1860م إلى 1318 هـ / 1900م، وهذا الطور «يمتاز بأنه عهد إصلاح وتجديد من طرف الحكومة المغربية، كما يمتاز بأن مركز المغرب فيه ازداد تحرجا وضعفا، بعد حادثة تطوان التي هي مبدأ هذا الطور الثاني، فإن هذه الموقعة أزالت الهيبة عن بلاد المغرب، واستطال الغربيون بسببها، وانكسر المسلمون انكسارا لم يعهد لهم مثله، وكثرت الحمايات التي نشأ عنها ضرر كبير».
«وفي هذا الطور بدأ واضحا تدهور الاقتصاد المغربي، الذي بقي على وضعيته القديمة أمام تقدم أوروبا المدهش».
«ومما ينبغي أن يسجل هنا، أن المغرب في هذا الطور اشتد التنافس الدولي حوله، فقد سار موضع اهتمام أربع من الدول الأوربية: اسبانيا، وانجلترا، وفرنسا، وألمانيا الحديثة العهد بتوحيدها».
وتجاه هذه المواجهة، وإزاء هذه التحديات السافرة لم يكن لأولياء الأمر بد من اتخاذ زمام المبادرة علهم يجنبون البلاد ما يمكن أن ينتج عن ذلك من شرور وويلات، ولم يكن هناك من سبيل للوقاية إلا الأخذ بأسباب النهضة، ومحاولة اللحاق بركبها المتطور .. الذي بابه ومفتاحه هو التضلع من المعرفة التقنية التجريبية، وهذا ما قام به –فعلا- كل من الملك محمد الرابع، والملك الحسن الأول، حيث حاول كل منهما تجديد هيكل الدولة، عن طريق تجديد الجهاز الحكومي، وتطويره، ثم عن طريق إرسال البعثات الطلابية إلى الشرق والغرب لدراسة العلوم العصرية، التي هي المفتاح لكل نهضة مفيدة»، وحقا، أنهما بذرا البذور الصالحة، ووضعا اللبنات الأولى لإصلاح الحالة بالمغرب، ولو ساعدتهما الظروف، وساعدت الذين أتوا بعدهما، لتحول المغرب من ذلك التاريخ، إلى أمة لها مقامها ومكانتها كما صارت اليابان أمة عظيمة، وهي التي كانت بعثاتها تدرس بأوروبا في الوقت الذي كانت توجد هناك بعثات المغرب، ولكن اليابان كان بعيدا عن أوروبا، فلم تعمل هذه لعرقلته ما عملته في المغرب الجار القريب لأوروبا.
هذا، وقد شمل الإصلاح الحكومي إصلاح الجهاز الإداري الذي انتظم: تنظيم الجهاز الحكومي، وتجديد الجيش، وإحياء الأسطول، وبناء المعامل، وإصلاح الشواطئ .. الخ. وقد استغرقت هذه المواضيع قرابة السبعين من صفحات الكتاب. أي من 28 إلى 94.
أما البعثات التعليمية، فقد خصها السيد المؤلف بما تستوجبه من العناية، وعالجها بما تستحقه من التحليل والبسط، حيث تتبع نشاط تلك البعثات مرحلة، مفصلا الحديث عن وجهة كل بعثة، ملمعا إلى عدد أفرادها، مشيرا إلى العلوم التي درسوها أو تخصصوا فيها، مع بيان ما أسهموا به من تآليف في مختلف الفنون.
وموضوع البعثات الطلابية جدير بعناية الباحثين والدارسين، وقمين بأن يفرد بالتآليف، وتوضع حوله رسائل جامعية تلقي الأضواء الكاشفة على مختلف جوانبه .. وحسب الأستاذ المنوني أن دلل ببحثه هذا صعابه ومهد طريقه، ووضع أمام الباحثين خطوطه الرئيسية.
ومن البعثات التعليمية ينتقل بنا السيد المؤلف للحديث عن الطباعة وملحقاتها، بالمغرب، الذي استغرق من الكتاب خمسين صفحة، ولست أبالغ إذا ما أكدت بأن هذا الموضوع من أهم ما حواه كتاب الأستاذ المنوني، حيث تتبع فيه سيادته تاريخ الطباعة بالمغرب، مستقرئا جزئياتها وكلياتها، متتبعا مختلف أطوارها ومراحلها في صبر وأناة، بحيث يمكن القول بأن المؤلف قد وضع بين أيدي الدارسين والباحثين الخطوط العريضة لتاريخ الطباعة وملحقاتها بالمغرب.
وبعد الحديث عن الطباعة وما إليها ينتقل بنا المؤلف الفاضل للحديث عن المساهمة الشعبية في الدعوة إلى الإصلاح والأخذ بأسباب التقدم والتطور تلك المساهمة الجليلة التي تمثلت في هذه الأصوات الإصلاحية التي ارتفعت عالية مدوية، منادية بمقاومة الامتيازات الأجنبية، داعية إلى إصلاح الجيش، حاثة على الجهاد، مطالبة بالقيام –على عجل- بإصلاح الأوضاع.
وكان من الطبيعي، وقد ارتفعت هذه الأصوات تنادي بالإصلاح، أن تتجه همة المصلحين إلى الاشتغال بالصحافة، باعتبارها المنبر الحر، والأداة الفعالة لتشخيص أدواء المجتمع، وتنبيه الأمة إلى ما يحيق بها من أخطار، نتيجة ضعفها وقلتها، وقد اكتفى المؤلف في موضوع الصحافة بهذه اللمحات الخاطفة، طالما أن الموضوع أصبح معروفا لدى الدارسين بما كتب حوله من أبحاث ومؤلفات، لعل في طليعتها كتاب الأستاذ زين العابدين الكتاني عن الصحافة المغربية نشأتها وتطورها، ذلك الكتاب الثمين الذي ما برحنا ننتظر صدور جزئه الثاني على أحر من الجمر.
ونتجاوز فصل صدى حرب تطوان في الأدب المغربي، الذي حسب الأستاذ المنوني أن وضع مفتاحه بأيدي الدارسين الذين سوف يجدون في المادة الطيبة التي قدمها لهم خير معوان لطرق الموضوع بتوسع، نترك هذا الفصل، لنجد أنفسنا أمام الفصل المخصص لطلائع المعارضة الشعبية، الذي أعقبته خاتمة الكتاب، التي انتهت بالصفحة 305، بيد أن المؤلف ارتأى –وحسنا فعل- أن يذيل بحثه القيم بثلاثة ملاحق، تناولت الموضوعات التالية:
1- قطعة من قانون تسيير أمانة المراسي.
2- إلحاق وإضافات لترجمة الطبيب أحمد التمسماني.
3- سير التعليم الحديث في الوسط اليهودي بالمغرب.
وإلى هنا تنتهي جولتنا الخاطفة عبر كتاب «مظاهر يقظة المغرب الحديث» الذي يعتبر من الدرر الثمينة التي ظفرت بها مكتبتنا التاريخية، والذي لا يسعني إلا أن أهنئ أستاذي الكبير السيد محمد المنوني على ما أسداه –وما رح يديه- لتاريخ المغرب الفكري من أياد بيضاء، وعلى ما أسهم به في بناء نهضتنا الفكرية من لبنات تحتل الصدارة في بناء نهضتنا الشامخ الذري .. متمنيا لسيادته المزيد من النشاط، واطراد التوفيق، آملا أن لا يطول انتظار عشاق أبحاثه للجزء الثاني من «مظاهر يقظة المغرب الحديث» الذي –ولا شك- سوف يكون –كما عودنا أستاذنا- سفرا ثمينا، وبحثا طريفا، يلقي الكثير من الأضواء على هذه الحقبة المهمة من تاريخنا، التي ما زالت معلوماتنا عنها مكتنفة بالغموض.

  •  

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق