مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات عامة

مظاهر التماسك والانسجام من خلال كتاب نظم الدرر في تناسب الآيات والسور للإمام البقاعي «المتشابه اللفظي في سورة آل عمران» «الحلقة السادسة عشرة»

تعريف المتشابه اللفظي  في القرآن الكريم:

المتشابه في اللغة:

ذكر علماء اللغة أن المتشابه يطلق على ما تماثل من الأشياء وأشبه بعضه بعضا وعلى ما يلتبس من الأمور، قال ابن فارس:«الشين والباء والهاء أصل واحد يدل على تشابه الشيء وتشاكله لونا ووصفا»يقال: شِبْهٌ وَشَبَهٌ وَشَبِيهٌ،[1] وفرق الجوهري بين المشتبه والمتشابه فقال: المُشْتَبِهات من الأمور: المشْكِلاتُ، والمُتشابِهاتُ: المُتَماثِلاتُ، وتَشَبَّهَ فلان بكذا، والتَّشْبيهُ: التمثيلُ، وأَشْبَهْتُ فلاناً وشابَهْتُهُ، واشْتَبَهَ عليّ الشيء  [2] قال المناوي في كتابه الموسوم بــ«التوقيف على مهمات التعاريف» «المتشابه: المشكل الذي يحتاج فيه إلى فكر وتأمل»[3]

المتشابه اصطلاحا:

للمتشابه معنى واسع، لكن المقصود هنا هو المتشابه اللفظي في القرآن الكريم الذي تتجلى فيه بلاغة القرآن وجمال نظمه وروعة بيانه، ومن أوضح التعاريف له ما بينه الطبري بقوله:« المتشابه هو ما اشتبهت الألفاظ به من قصصهم عند التكرير في السور في قصة باتفاق الألفاظ واختلاف المعاني، وقصة باختلاف الألفاظ واتفاق المعاني» [4] وكذلك ماذكره الزركشي في البرهان بقوله:«إيراد القصة الواحدة في صور شتى وفواصل مختلفة» [5] وتبعه السيوطي فقال:«والقصد به إيراد القصة الواحدة في صور شتى وفواصل مختلفة بل تأتي في موضع واحد مقدما، وفي آخر مؤخرا كقوله في البقرة:«وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ» وَفِي الْأَعْرَافِ:«وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً» وفي البقرة:«وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ» وسائر القرآن «وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ» أو في موضع بزيادة، وفي آخر بدونها نحو: «سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ» في البقرة، وفي يس «وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ»كما كان الحال كذلك عند أبي البقاء الكفوي في كتابه «الكليات» بقوله:« ومن المتشابه إيراد القصة الواحدة في سور شتى وفواصل مختلفة في التقديم والتأخير والزيادة والترك والتعريف والتنكير والجمع والإفراد والإدغام والفك وتبديل حرف بحرف آخر وقيل المحكم ما لا يتوقف معرفته على البيان والمتشابه ما لا يرجى بيانه»[6]

ومن خلال النظر والتأمل نخلص من هذه التعاريف أن المتشابه اللفظي في القرآن الكريم هو تشابه أو تماثل بين آيتين أو عدة آيات في حرف أو كلمة أو جملة أو جمل بسبب تقديم أو تأخير، أو تعريف وتنكير، أو حذف وذكر أو جمع وإفراد ونحوه من وجوه التشابه مع أو عدم اختلاف المعنى بين تلك الآيات بحسب سياق كل لفظة وجملة، ومقتضى كل مقام وموضع.

الموضع الأول من المتشابه اللفظي: «نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ»

السورة

رقم الآية

بداية موضع الاستشهاد

نهاية موضع الاستشهاد

آل عمران

[الآية 3] «نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيل مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ » «وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيل»

آل عمران

[الآية:7] «هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ» «وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَاب»

النساء

[الآية:113] «وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ »

 

«وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا»

النحل

[الآية:64] «وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ» «وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُون»

العنكبوت

[العنكبوت:51] « أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ» «إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُون»

الزمر

[الزُّمَر:41] «إِنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ»

 

«وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيل»

 تتحدث الآيات الكريمات عن إنزال القرآن الكريم على رسول الله صلى الله عليه وسلم على محمد صلى الله عليه وسلم، فعبر بالإنزال دون التنزيل فقال «أنزل عليك» أي خاصة «الكِتابَ» أي القرآن، وقصر الخطاب على النبي صلى الله عليه وسلم لأن هذا موضع الراسخين وهو رأسهم، دلالة على أنه لا يفهم هذا حق فهمه من الخلق غيره، [7] ومن الفروق بين الآيات؛ أن الآية الأولى جاءت بصيغة التضعيف: «نَزَّلَ» يقول الزمخشري« فإن قلت لم قيل «نَزَّلَ الكِتَابَ» «وأنْزَلَ التَّوْرَاةَ والإنجِيل»؛ قلت: لأن القرآن نُزِّلَ مُنجما ونُزِّلَ الكتابان جملةً” [8] وهذا الذي ذهب إليه الزمخشري في تضعيف عين الكلمة هنا، هو الذي يعبر عنه بالتكثير، أي يفعل ذلك مرة بعد مرة، فيدل على هذا المعنى بالتضعيف ويعبر عنه بالكثرة،[9] ورد عليه أبو حيان الأندلسي وذهب إلى أن التضعيف يكون للتكثير إذ دخل على فعل متعدي، أما اللازم فلا يفيده التكثير بل يكون للنقل كهمزة النقل بدليل قوله: «وَنَزَّلْنَا»لم يكن متعديا قبل التضعيف إنما كان لازما، وتعديه إنما يفيده التضعيف أو الهمزة، فإن جاء في لازم فهو قليل، وأيضا فالتضعيف الذي يراد به التكثير إنما يدل على كثرة وقوع الفعل، أما أن يجعل اللازم متعديا فلا، «ونزلنا» قبل التضعيف كان لازما ولم يكن متعديا، فيكون التعدي المستفاد من التضعيف دليلا على أنه للنقل لا للتكثير، وأيضا فلو كان التضعيف في «نَزَلَ» مفيدًا للتنجيم لاحتاج قوله تعالَى: «لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ القُرْآن جُمْلَةً واحِدَةً»  إلى تأويل، لأن التضعيف دال على التنجيم والتكثير، وقوله: جملة واحدة ينافي ذلك، وأيضا فالقراءات بالوجهين في كثير مما جاء يدل على أنهما بمعنى واحد [10]ويؤيده ابن عاشور بقوله:« والتضعيف في «نَزَّلَ» للتعدية فهو يساوي الهمزة في أنزل، وإنما التضعيف يؤذن بقوة الفعل في كيفيته أو كميته»[11]

ومن الفروق أيضا أن آيتين من هذه الآيات وردت بصيغة القصر؛ الآية الأولى قوله تعالى«« هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ»[آل عمران:7] فالقصر فيه بضمير الفصل «هو» يفيد التأكيد والتخصيص والتقوية، ومن بدائع البلاغة أن ذكر في القصر فعل «أنزل» الذي هو مختص بالله تعالى ولو بدون صيغة القصر، إذ الإنزال يرادف الوحي، ولا يكون إلا من الله بخلاف ما لو قال هو الذي آتاك الكتاب، وضمير «منه» عائد إلى القرآن، و«منه» خبر مقدم وآيات محكمات مبتدأ، [12] وهو كلام مستأنف مسوق لتفصيل آيات الكتاب، وأنها قسمان؛ قسم يفهمه الناس، وقسم لا يفهمونه لقصورهم وعجزهم وهو مبتدأ، والذي خبره، وجملة «أنزل عليك الكتاب» لا محل لها، لأنها صلة الموصول، «وعليك» متعلقان بأنزل، و«الكتاب» مفعول به،[13] والإتيان باسم الموصول «الذي» إنما هو لإرادة زيادة تقرير الغرض المسوق له الكلام، الذي هو التأكيد على أن هذا الكتاب منزل من عند الله، وليس من عند محمد صلى الله عليه وسلم ولا من عند غيره، والقصر الثاني في قوله تعالى«وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ»[النحل:64] وهو القصر بطريق النفي والاستثناء، وهو أقوى طرق القصر وأوكده، ووجهه أنه قصر إنزال الكتاب على التبيان، قال ابن عاشور:«والإتيان بصيغة القصر في قوله تعالى: «وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ » لقصد الإحاطة بالأهم من غاية القرآن وفائدته التي أنزل لأجلها، فهو قصر ادعائي ليرغب السامعون في تلقيه وتدبره من مؤمن وكافر كل بما يليق بحاله حتى يستووا في الاهتداء»[14]

وجاء قوله تعالى: «أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ» [العنكبوت:51] وقوله تعالى:« «إِنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ» [الزمر:41] بالنواسخ «أن»و«إن» اللتين تفيدان التوكيد، مع مجيء اسم الجلالة بضمير الجمع المفيد للتعظيم، ثم الخبر بالجملة الفعلية التي تفيد التقوية والتوكيد، قال ابن عاشور:« وافتتاح الجملة باسم الجلالة يؤذن بتفخيم أحسن الحديث المنزل بأن منزله هو أعظم عظيم،ثم الإخبار عن اسم الجلالة بالخير الفعلي يدل على تقوية الحكم وتحقيقه على نحو قولهم:هو يعطي الجزيل،ويفيد مع التقوية دلالة على الاختصاص،أي اختصاص تنزيل الكتاب بالله تعالى،والمعنى:الله نزل الكتاب لا غيره وضعه،ففيه إثبات أنه منزل من عالم القدس،وذلك أيضا كناية عن كونه وحيا من عند الله لا من وضع البشر، فدلت الجملة على تقو واختصاص بالصراحة،وعلى اختصاص بالكناية،وإذ أخذ مفهوم القصر ومفهوم الكناية وهو المغاير لمنطوقهما كذلك يؤخذ مغاير التنزيل فعلا يليق بوضع البشر، فالتقدير:لا غير الله وضعه، ردا لقول المشركين:هو أساطير الأولين»[15]

الموضع الثاني من المتشابه اللفظي: «الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم»

السورة

رقم الآية

بداية موضع الاستشهاد

نهاية موضع الاستشهاد

آل عمران

[الآية 10] «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّه شَيْئًا»

 

«وَأُولَـئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّار»

المجادلة

[الآية:17] «لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ الله شَيْئًا» أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون »

في هذه الآيات بيان مآل الكافرين يوم القيامة، وحتمية دخولهم النار وأنه لن يغنيهم أو ينفعهم في ذلك كثرة أموالهم وأولادهم،  والمعنى: لن تغنى عنهم من رحمة اللَّه أو من طاعة اللَّه شَيْئاً أي بدل رحمته وطاعته وبدل الحق،[16] حيث ابتدأت الآية الأولى بجملة خلت عنها الثانية وهي قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ» والجملة مستأنفة، وإن واسمها وجملة «كفروا» صلة الموصول، و«لن» حرف نفي ونصب واستقبال، «تغني» فعل مضارع منصوب بلن، والجملة خبر إن، و«عنهم» متعلقان بتغني، و«أموالهم» فاعل تغني، «ولا أولادهم» عطف على أموالهم، و«من الله» جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال لأن كان في الأصل صفة لـ «شيئا» فلما تقدم أعرب حالا على القاعدة المشهورة، والتقدير لن تدفع عنهم الأموال والأولاد شيئا من عذاب الله، «وَأُولَـئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّار»الواو استئنافية، والجملة مستأنفة مسوقة لتقرير عدم الإغناء، ولك أن تجعل الواو عاطفة، والجملة معطوفة على خبر  إن و«أولئك» اسم إشارة في محل رفع مبتدأ، و«هم» مبتدأ ثان، ووقود النار خبر«هم» والجملة الاسمية خبر اسم الإشارة، ويجوز أن يكون «هم» ضمير فصل ووقود النار خبر و«أولئك» اسم إشارة في محل رفع مبتدأ، و«هم» مبتدأ ثان، «ووقود النار» خبر «هم» والجملة الاسمية خبر اسم الإشارة، ويجوز أن يكون «هم» ضمير فصل «ووقود النار» خبر «أولئك»[17]

والجزء الثاني من الآيتين ابتدأ باسم الإشارة«أولئك» لفائدتين بلاغيتين: لاستحضارهم كأنهم بحيث يشار إليهم، وللتنبيه على أنهم أحرياء بما سيأتي من الخبر وهو قوله:«هم وقود النار» وعطفت هذه الجملة ولم تفصل، لأن المراد من التي قبلها لا وعيد في الدنيا وهذه في وعيد الآخرة بقرينة قوله في  الآية التي بعدها هذه«سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ» [آل عمرَان: 12] [18]

ومما يلاحظ في آية آل عمران أنها جاءت بالوصل؛ «وَأُولَـئِكَ»وذلك لوجود المناسبة بين الجملتين«إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ»«وَأُولَـئِكَ هُمْ…» حيث اتفقتا على الخبرية، وذلك من مواطن الوصل بين الجمل قال الخطيب القزويني«وإن لم يكن بين الجملتين شيء من الأحوال الأربع تعين الوصل إما لدفع إيهام خلاف المقصود وإما للتوسط بين حالتي كمال الانقطاع وكمال الاتصال، وهو ضربان؛أحدهما أن يتفقا خبرًا أو إنشاء، لفظًا ومعنى، كقوله تعالى: «إِنَّ الأبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ» ولعل الثانية فصلت عن الأولى في الآية الثانية لكونها جوابا عن سؤال، كأنه سئل عن علة عدم إغناء أموالهم وأولادهم؟فقيل: لأنهم أصحاب النار، قال ابن عاشور:«وجملة «أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ»  في موضع العلة لجملة  «لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً»، أي لأنهم أصحاب النار، أي حق عليهم أنهم أصحاب النار، وصاحب الشيء ملازمه فلا يفارقه، إذ قد تقرر في قوله: «أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً» [المجادلة: 15] ومن قوله: «فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ» [المجادلة: 16] أنهم لا محيص لهم عن النار، فكيف تغنى عنهم أموالهم وأولادهم شيئا من عذاب النار»[19] كما أن قوله تعالى:«إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئًا وَأُولَـئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّار »[آل عمران:10] أوجز من قوله تعالى:« لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون» [المجادلة:17] حيث لم يذكر فيها«أصحاب» و«فيها خالدون»وتضمنتا أيضا ضمير الفصل«هم» للتقوية والتوكيد؛ الأولى للتوكيد على كونهم وقودا للنار، والثانية للتأكيد على خلودهم في النار.

الموضع الثالث من المتشابه اللفظي:« كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ »

السورة

رقم الآية

بداية موضع الاستشهاد

نهاية موضع الاستشهاد

آل عمران

[الآية 11] «كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ» «وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَاب»

الأنفال

[الآية: 52] «كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ» «إِنَّ اللّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَاب»

الأنفال

[الآية:54] «كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ» «وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَونَ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِين»

تتشابه الآيات وتتفق على الجزء الأول منها، وهو قوله تعالى: «كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ»والذي يهمنا هنا هو التشبيه في قوله:«كدأب آل فرعون»و«الدأب» بسكون الهمزة وفتحها مصدر دأب يدأب إذ لازم فعل شيء ودام عليه مجتهدا فيه، ويقال للعادة «دأب» [20] حيث ذكر أن من كفر وكذب بالله مآله إلى النار، ولن يغني عنه ماله ولا ولده، وذكر أن شأن هؤلاء في تكذيبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وترتب العذاب على كفرهم كشأن من تقدم من كفار الأمم، أُخذوا بذنوبهم، وعذبوا عليها،[21] ووجهه أن دأب المشركين كدأب آل فرعون في تكذيبهم للرسل ومعاقبة الله لهم في الدنيا والآخرة، حيث خص فرعون وقومه لكونهم أكثر الأمم طغيانا وأشدهم عذابا، ومن الفروق بين هذه الآيات؛ ففي قوله تعالى:«فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ» استعارة حيث شبه إحاطة عذابه بهم بالمأخوذ باليد المتصرف فيه بحكم إرادة الأخذ؛ وقيل: هذه كلها استعارات ولا تشبيه فيها إلا كدأب آل فرعون فإنه صرح فيه بذكر أداة التشبيه[22] وقوله تعالى: «كذبوا بآياتنا» فهي كأنها جواب سؤال مقدر، وجوزوا أن تكون في موضع الحال، أي مكذبين، وجوزوا أن يكون الكلام تم عند قوله:«كدأب آل فرعون» ثم ابتدأ فقال«والذين من قبلهم كذبوا»  فيكون؛«الذين» مبتدأ، وكذبوا خبره.[23]

وفي قوله تعالى:«كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ» [آل عمران:11]التفات خلت عنها الآيات الأخرى، وهو في قوله«بآياتنا»إذ قبله من الله فهو اسم غيبة فانتقل منه إلى التكلم، فأخذهم الله بذنوبهم رجع من التكلم إلى الغيبة، ومعنى الأخذ بالذنب: العقاب عليه، والباء في «بذنوبهم» للسبب، وتضمنت هذه الآيات من ضروب الفصاحة حسن الإبهام وهو فيما افتتحت به لينبه الفكر إلى النظر فيما بعده من الكلام،[24] كما أن آيتا الأنفال المتمثلة في قوله تعالى:« كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَاب»[الأنفال:52] وقوله تعالى:«كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَونَ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِين»[الأنفال:54]جاءتا عقب بعض، فهل يعد ذلك تكرير وما فائدته؟ قال ابن عطية:« هذا التكرير لمعنى ليس للأوّل، فالأوّل دأب في أنْ هلكوا لما كفروا، وهذا الثاني دأب في أن لم يغير نعمتهم حتى يغيّروا ما بأنفسهم انتهى ، وقال قوم : كرّر لوجوه منها؛ أن الثاني جرى مجرى التفصيل للأول لأنّ في ذلك ذكر إجرامهم، وفي هذا ذكر إغراقهم وأُريد بالأول ما نزل بهم من العقوبة حال الموت، وبالثاني ما نزل بهم من العذاب في الآخرة، وفي الأوّل«بآيات الله»إشارة إلى إنكار الدلائل الإلهية، وفي الثاني «بآيات ربهم» إشارة إلى إنكار نعم من ربّاهم ودلائل تربيته وإحسانه على كثرتها وتواليها وفي الأوّل اللازم منه الأخذ، وفي الثاني اللازم منه الهلاك والإغراق»[25] قال الزمخشري:«وفي قوله بِآياتِ رَبِّهِمْ زيادة دلالة على كفران النعم وجحود الحق، وفي ذكر الإغراق بيان للأخذ بالذنوب «وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ» وكلهم من غرقى القبط وقتلى قريش كانوا ظالمين أنفسهم بالكفر والمعاصي»[26] كما أن آيتا الأنفال فيها خلاف مقتضى الظاهر لفائدة بلاغية وذلك في قوله تعالى:« بِآيَاتِ اللّهِ »[الأنفال:52]« بآيَاتِ رَبِّهِمْ»[الأنفال:54] حيث أتى باسم الجلالة ظاهرا لا مضمرا كما في قوله تعالى في سورة آل عمران:«بِآيَاتِنَا»[آل عمران:11] والفائدة في ذلك ما بينه ابن عاشور بقوله:«فأما الإظهار هنا في مقام الإضمار، فاقتضاه أن الكفر كفر بما يرجع إلى صفات الله، فأضيفت الآيات إلى اسم الجلالة ليدل على الذات بعنوان الإله الحق وهو الوحدانية، وأما الإضمار في آل عمران فلكون التكذيب تكذيبا لآيات دالة على ثبوت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، فأضيفت الآيات إلى الضمير على الأصل في التكلم» [27]

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

[1] معجم مقاييس اللغة، أحمد بن فارس بن زكرياء القزويني الرازي، أبو الحسين، المحقق: عبد السلام محمد هارون، دار الفكر، 3/243.

[2] الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري الفارابي، تحقيق أحمد عبد الغفور العطار، دار العلم للملايين- بيروت 6/2236.

[3] التوقيف على مهمات التعاريف، المناوي، عالم الكتب، الطبعة الأولى،ص:295.

[4] جامع البيان عن تأويل آي القرآن، أبو جعفر الطبري،تحقيق: عبد الله بن عبد المحسن التركي، الناشر: دار هجر للطباعة والنشر، الطبعة الأولى: 1422-2001،5/197.

[5] البرهان في علوم القرآن، الزركشي، المحقق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية 1/112.

[6] الكليات، أبي البقاء الكفوي، 1/1361.

[7] نظم الدرر،البقاعي، المجلد الثاني ص:14.

[8] الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، جار الله الزمخشري،دار الكتاب العربي بيروت 1/364.

[9] البحر المحيط في التفسير، أبو حيان التوحيدي، المحقق: صدقي محمد جميل، الناشر: دار الفكر ـــ بيروت1/167.

[10] نفسه1/167-168.

[11] التحرير والتنوير، محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي، الناشر : الدار التونسية للنشر – تونس3/147.

[12] نفسه 3/154.

[13] إعراب القرآن الكريم وبيانه، محي الدين الدرويش، المجلد الأول، ص:392.

[14] التحرير والتنوير 14/196.

[15] نفسه 23/383.

[16] الكشاف 1/339.

[17] إعراب القرآن الكريم وبيانه، محي الدين الدرويش، المجلد الأول، ص:396.

[18] التحرير والتنوير6/11.

[19] نفسه 28/51.

[20] البحر المحيط في التفسير3/37.

[21] نفسه 3/36.

[23] نفسه3/38.

[24] نفسه 3/38.

[25] نفسه 5/338.

[26] الكشاف 2/230.

[27] التحرير والتنوير 10/43.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق