مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةدراسات عامة

محترزات الضبط عند المحدثين

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله عظيم النِّعم، أوجد الإنسان من العدم، وعلمه بالقلم ما لم يعلم، والصلاة والسلام على من أوتي جوامع الكلم ، وعلى آله سادات الأمم، وعلى أصحابه أولي الهمم.

وبعد: فإن من شروط قبول الحديث عند المحدثين، أن يكون راويه ثقة عدلا ضابطا، فالضبط كما قال د. فاروق حمادة هو: “الركن الثاني من أركان الحديث الصحيح عمدة الأحكام بعد العدالة.. وبهذين الركنين – العدالة والضبط- يقوم بناء الحديث الصحيح، وقد أجمع العلماء على أنه لا يقبل إلا حديث العدل الضابط، وما عداهما، أي:  العدالة والضبط تتمات وفروع، فالحديث الصحيح هو: ما اتصل سنده بنقل العدل الضابط من أول السند إلى منتهاه من غير شذوذ ولا علة، فعلى هذا تشترك العدالة والضبط معا في تشييد بناء خاص ولابد أن يكون اشتراكهما وثيقا؛ بحيث لا يستغني أحدهما عن الآخر لإيجاد هذا البناء، ومهما كان الراوي عدلا صالحا تقيا؛ لكنه غير ضابط لمروياته وحديثه فلا  يقبل في الصحيح، ولا يعتد بحديثه “[1]

ولهذا فقد حدد علماء الحديث والجرح والتعديل أوصافا تطرأ على رواة الحديث تكون سببا لاختلال ضبطهم، وهو ما يطلق عليه: محترزات الضبط، أو أسباب سلب الضبط، أو ما يخرج باشتراط الضبط.

ولأهمية هذا الموضوع فقد أفردته بهذا المقال الذي سأتناول فيه إن شاء الله تعالى الآتي:

1-كثرة الوهم.

2-كثرة مخالفة الراوي لمن هو أوثق منه، أو لجمع من الثقات.

3-سوء الحفظ.

4-شدة الغفلة.

5-فحش الغلط.

6-جهل الراوي بمدلولات الألفاظ ومقاصدها، وما يحيل معانيها عند الرواية بالمعنى.

فأقول وبالله التوفيق:

محترزات الضبط عند المحدثين:

   ذكر المحدثون بعض الأمور التي تكون سببا في اختلال ضبط الرواة في مروياتهم؛ وذلك للاحتراز منها؛ ومن بين هذه المحتزات الآتي:

1-كثرة الوهم:

وهو أن تكثر عن الراوي الرواية على سبيل التوهم ، فيصل المرسل، ويرفع الأثر الموقوف، أو يوقف المرفوع، أو ينسب حديث صحابي لصحابي آخر، أو أن ينسب لفظا الإسناد غير إسناده، أو نحو ذلك من الأمور القادحة.

ومن كثر وهمه ترك الاحتجاج بما انفرد به، ولا يكون حجة، قال أبو حاتم البستي: “ومنهم من قد كتب وغلب عليه الصلاح والعبادة، وغفل عن الحفظ والتمييز؛ فإذا حدث؛ وضع المرسل وأسند الموقوف، وقلب الأسانيد، وجعل كلام الحسن، عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم، وما يشبه هذا، حتى خرج عن حد الاحتجاج به”[2].

وأخرج ابن عدي وغيره عن عبد الرحمن بن مهدي قال لأبي موسى: “احفظ عني: الناس ثلاث: رجل حافظ متقن، فهذا لا يختلف فيه، وآخر يهم، والغالب على حديثه الصحة، فهذا لا يترك حديثه، ولو ترك حديث مثل هذا لذهب حديث الناس، وآخر يهم والغالب على حديثه الوهم فهذا يترك حديثه”[3].

2-كثرة مخالفة الراوي لمن هو أوثق منه ، أو لجمع من الثقات:

إن مخالفة الثقات على نوعين:

الأول: أن يكون الراوي الضعيف مخالفا لثقة، فحديثه منكر باتفاق المحدثين.

الثاني: أن يكون الراوي الثقة مخالفا لثقة أحفظ منه، وأضبط، أو لجماعة وإن كان كل منهم دونه.

وقد ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى أن مخالفته  للثقات، قد تكون بتغيير سياق الإسناد، أو بدمج موقوف بمرفوع فيسمى المدرج، أو بتقديم أو تأخير فيسمى “المقلوب”، أو بزيادة راو وقد يقع الإبدال عمدا امتحانا، أو بتغيير حرف مع بقاء السياق، فالمصحف والمحرف، فهي خمسة أنواع” [4] ، فذكر المدرج، والمقلوب، والمزيد في متصل الأسانيد، والمضطرب، والتصحيف.

3-سوء الحفظ:

وسيء الحفظ هو من لم يترجح جانب إصابته على جانب خطئه؛ بمعنى: أن يكون غلطه مساويا لإصابته، أو أكثر ، وهو على ضربين:

الأول: أن يكون ملازما للراوي في جميع حالاته، وهو ما يطلق عليه بالشاذ.

الثاني: أن يكون سوء الحفظ طارئا عليه، إما بسبب كبر سنه، أو لذهاب بصره، أو لاحتراق كتبه، أو عدمها، بأن كان يعتمدها فرجع إلى حفظه فساد لفقدان أصل كتبه، فهذا هو المختلط.

قال أبو حاتم: “ومنهم جماعة ثقات اختلطوا في أواخر في أعمارهم حتى لم يكونوا يعقلون ما يحدثون فأجابوا فيما سئلوا، وحدثوا كيف شاؤوا فاختلط حديثهم الصحيح بحديثهم السقيم فلم يتميز فاستحقوا الترك”[5].

4-شدة الغفلة:

وهي على ضربين:

الأولى: أن تكون شدة الغفلة مطلقة؛ بحيث لا يكون لذا الراوي من اليقظة والإتقان ما يميز به الصواب من الخطأ في مروياته ويعرف ذلك بالغلط الفاحش، وسيأتي في المطلب الرابع.

الثاني: أن تكون شدة الغفلة في حالة خاصة، فيرد حديثه في تلك الحالة، كأن يتساهل في وقت من الأوقات في التحمل، كأن يتحمل في حالة النوم الكثير الواقع منه، أو من شيخه.

5-فحش الغلط:

وهو أن يزيد خطأ الراوي على صوابه زيادة فاحشة؛ بحيث يكون خطؤه أكثر من صوابه، أو يتساويان، إذ لا يخلوا الإنسان من الغلط والنسيان، قال ابن حبان البستي: “من كثر خطؤه وفحش وكاد  أن يغلب صوابه فاستحق الترك من أجله، وإن كان ثقة في نفسه، صدوقا في روايته؛ لأن العدل إذا ظهر عليه أكثر أمارات الجرح استحق الترك”  [6]

وقال الشافعي: ” ومن كثر غلطه من المحدثين، ولم يكن له أصل كتاب صحيح، لم نقبل حديثه، كما يكون من أكثر الغلط في الشهادة لم نقبل شهادته”[7] .

6-جهل الراوي بمدلولات الألفاظ ومقاصدها، وما يحيل معانيها عند الرواية بالمعنى:

فبعض المحدثين اشترطوا في الراوي الذي يؤذي الحديث بالمعنى أن يكون عالما باللغة، عارفا بمدلولات الألفاظ، ومقاصدها، وما تحيل عليه معانيها قال الشافعي: “ولا تقوم الحجة بخبر  الخاصة حتى يجمع أمورا: منها أن يكون من حدث به ثقة في دينه، معروفا بالصدق في حديثه، عاقلا لما يحدث، عالما بما يحيل معاني الحديث منه اللفظ، وأن يكون مما يؤذي الحديث بحروفه كما سمع، لا يحدث به على المعنى؛ لأنه إذا حدث به على المعنى وهو غير عالم بما يحيل معناه، لم يدر لعله يحيل الحلال إلى الحرام، وإذا أداه بحروفه، فلم يبق وجه يخاف فيه إحالة الحديث” [8] .

الخاتمة:

وفي ختام هذا المقال خلصت إلى الآتي:

1-من شروط قبول الحديث عند المحدثين أن يكون راويه ثقة، عدلا، ضابطا.

2-الضبط هو الركن الثاني من أركان الحديث الصحيح بعد العدالة.

3-إجماع العلماء على أنه لا يقبل إلا حديث العدل الضابط.

4-العدالة والضبط يشتركان معا في تشييد بناء خاص بحيث لا يستغني أحدهما عن الأخر.

5-مهما كان الراوي عدلا، صالحا، تقيا؛ لكنه غير ضابط لحديثه فلا يقبل في الصحيح، ولا يعتد بحديثه.

6-حدد علماء الحديث والجرح والتعديل أوصافا تطرأ على رواة الحديث، تكون سببا لاختلال ضبطهم، وهو ما يسمى ب:  “محترزات الضبط” أو “أسباب سلب الضبط”، أو  “ما يخرج باشتراط الضبط.”   .

7-من محترازات الضبط الآتي:

أ-كثرة الوهم .

ب-كثرة مخالفة الراوي لمن هو أوثق منه، أو لجمع من الثقات.

ت- سوء الحفظ.

ث-شدة الغفلة.

ج-فحش الغلط.

ح-جهل الراوي بمدلولات الألفاظ، ومقاصدها، وما يحيل معانيها عند الرواية بالمعنى.

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

*******************

هوامش المقال:

[1]  –  المنهج الإسلامي في الجرح والتعديل (ص: 209).

[2]  – كتاب المجروحين (1 /67).

[3]  – الكامل في ضعفاء الرجال (1/ 166).

[4] – ينظر : نزهة النظر (ص: 112- 113- 114- 115) بتصرف، واهتمام المحدثين بنقد الحديث للدكتور لقمان السلفي (ص: 240).

[5]  –  كتاب المجروحين (1/ 68).

[6]  – كتاب المجروحين (ص: 74).

[7]  –  كتاب الأم (ص: 175-176).

[8]  –  كتاب الأم (ص: 170-171).

******************

لائحة المصادر والمراجع المعتمدة:

اهتمام المحدثين بنقد الحديث سندا ومتنا ودحض مزاعم المستشرقين وأبنائهم. د محمد لقمان السلفي. دار الداعي. الرياض. ط2/ 1420هـ.

الكامل في ضعفاء الرجال. لابن عدي الجرجاني. ت: لجنة من المختصين بدار الفكر. بيروت بيروت. ط1/ 1404هـ- 1984مـ.

كتاب الأم للإمام الشافعي. ت: د رفعت فوزيا عبد المطلب. دار الوفاء. المنصورة ط1/ 1422 هـ- 2001مـ.        

كتاب المجروحين من المحدثين. لابن حبان البستي. ت: حمدي عبد المجيد السلفي. دار الصميعي. ط1/ 1420هـ- 2000مـ.

المنهج الإسلامي في الجرح والتعديل. دراسة منهجية في علوم الحديث. د. فاروق حمادة. دار المعرفة، الرباط. ط2/ 1409هـ 1989مـ.

نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر لابن حجر ت: د عبد الله بن ضيف الله الرحيلي. جامعة طيبة. ط1/ 1429هـ- 2008مـ.

*راجع المقال الباحث: يوسف ازهار

Science

د. محمد بن علي اليــولو الجزولي

  • أستاذ باحث مؤهل بمركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة النبوية العطرة بالعرائش، التابع للرابطة المحمدية للعلماء بالرباط.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق