مركز دراس بن إسماعيل لتقريب المذهب والعقيدة والسلوكشذور

في أقسام الحكم الشرعي

 

قال العلامة الشيخ أبو عبد الله محمد بن قاسم جسوس شارحا لقول العلامة ابن عاشر رحمه الله:

“الحكم في الشرع خطاب ربنا         المقتضي فعل المكلف أفطنا

بطلب أو إذن أو بوضــــــــــــــع         لسبب أو شرط أو ذي منع”

“يعني أن حكم الشرع القسيم للحكم العقلي والعادي هو خطاب الله المتعلق بفعل المكلف بطلب أو إذن أو وضع سبب أو شرط أو مانع لما ذكر من الطلب أو الإذن، فالخطاب جنس، والمراد به هنا المخاطب به، فهو مصدر بمعنى اسم المفعول.

قال العراقي في شرح مختصر الأسنوي للمنهاج ما نصه: “يقال خِطاب، خَاطب زيد عمر يخاطبه خطابا ومخاطبة، أي وجه اللفظ المفيد إليه وهو حيث يسمعه، فالخطاب هو التوجيه، وخطاب الله تعالى عين توجيه ما أفاد إلى المستمع أو من في حكمه، لكن مرادهم هنا بخطاب الله هو ما أفاد وهو الكلام النفساني، وهو الحكم الشرعي لا توجيه ما أفاد؛ لأن التوجيه ليس بحكم، فأطلق المصدر وأريد ما خوطب به على سبيل المجاز من باب إطلاق المصدر على اسم المفعول”. انتهى.

ولهذا قال في شرح المقدمات: “وحقيقة الخطاب هو الكلام الذي يُقصد به مَن هو أهل للفهم، واختلف هل من شرط التسمية به وجود المخاطَب أم لا؟ وعلى ذلك جرى الخلاف في كلام الله تعالى هل يسمى في الأزل خطابا قبل وجود المخاطبين أم لا”. انتهى. وقال المحلى: “خطاب الله أي كلامه النفسي الأزلي المسمى في الأزل خطابا حقيقة على الأصح”. انتهى.

فجعل القول الأول هو الأصح، وإضافة الخطاب إلى الله تُخرج خطاب من سوى الله تعالى من الملائكة والإنس والجن، فلا يسمى خطاب هؤلاء كلهم حكما شرعيا، وإنما سمي خطاب الرسل بالتكليف حكما شرعيا لأنهم مبلغون عن الله تعالى معصومون في تبليغهم من الكذب عمدا وسهوا.

وقوله: “المتعلق بفعل المكلف”؛ أي الدال عليه، فخرج أربعة أشياء: خطاب الله المتعلق بذاته وصفاته وذوات المكلفين والجمادات كمدلول: ﴿الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء﴾[الأنعام: 102]، ﴿ولقد خلقناكم﴾[الأعراف: 11]، ﴿ويوم نسير الجبال﴾[الكهف: 47]. قال في شرح المقدمات: “والمراد بفعل المكلف ما يصدر عنه، يشمل القول والنية”. انتهى. يعني وغيرهما. قال السكتاني: “مراده بالصدور أن يكون مكتسبا له بذاته كركعة مثلا، أو باعتبار أسبابه كالإيمان بالله ورسله؛ لأن اكتسابه باعتبار أسبابه كالنظر مثلا، أما ذاته فمن مقولات الكيف”. انتهى.

قال المحلي: “وتعلق خطابه تعالى بفعل المكلف إما تعلقا معنويا قبل وجوده، أو تنجيزيا بعد وجوده بعد البعثة إذ لا حكم قبلها”. انتهى. […]. وقوله: “بفعل المكلف” أحسن من قول ابن الحاجب: بأفعال المكلفين؛ لتناوله ما يتعلق بفعله عليه الصلاة والسلام في خاصة نفسه بخلاف عبارة ابن الحاجب، […]. وأما قوله: “افطنا” بضم الطاء وفتحها فهو تكميل للبيت.

وخرج بقوله: “بطلب” إلخ الذي هو متعلق بخطاب مدلول “وما تعملون” من قوله: ﴿والله خلقكم وما تعملون﴾[الصافات: 96]، فإنه متعلق بفعل المكلف من حيث أنه مخلوق لله تعالى لا من حيث الطلب أو الإذن. والطلب شامل لطلب الفعل ولطلب الكف، وكل منهما جازم وغير جازم، فهي أربعة، فإذا ضمت إلى الإذن الذي هو إباحة الفعل والترك من غير ترجيح لأحدهما على الآخر تكمل أقسام الحكم الشرعي خمسة، وستأتي أسماؤها وحقائقها في كلام الناظم، ويأتي لنا بيان خواصها.

وقوله: “أو بوضع” معطوف على قوله: بطلب، فهو متعلق بما تعلق به قوله: بطلب، وهو خطاب لتأويله بمعنى مخاطب به كما سبق، وجعل المحلي قوله بالطلب وما بعده متعلقا بقوله: المتعلق، فتكون بدل اشتمال من فعل مكلف، ولذلك قال: “إن التعريف لا يشمل من الوضع ما كان متعلقه غير فعل المكلف كالزوال سبب لوجوب الظهور”. انتهى. ولو علقه بخطاب كما قلنا ما خرج، قاله سيدي عبد الرحمان في حواشي الصغرى. وقول الشارح في صغيره: “طلب الخطاب لفعل المكلف وتعلقه به إما أن يكون بطلب أو إذن، يعني من غير وضع، وإما أن يكون بوضع” إلخ كالصريح في أن قوله بطلب يتعلق بقوله: “المقتضي” الذي هو بمعنى المتعلق كما فهم المحلي، وقد علمت ما فيه، ويقتضي أن قوله: بوضع معطوف على ذلك المقدر، وهو قوله: من غير وضع، وهو بعيد من لفظ الناظم. ويقتضي أيضا أن الخطاب بالوضع ليس حكما شرعيا، وهو خلاف ما صرح به بعدُ من أنه معطوف على قوله: بطلب، فتأمل كلامه ففيه اضطراب وتدافع والله أعلم.

وعلى ما قررنا فالمعنى أن الخطاب المتعلق بفعل المكلف تارة يكون بطلب أو إذن، وتارة يكون بغير طلب ولا إذن، بل بوضع أحد هذه الأمور الثلاثة يعني الطلب أو الإذن، ويسمى الخطاب بالطلب أو الإذن خطاب تكليف، ويسمى الخطاب بالوضع لهما خطاب وضع، كما أن كلا من خطابي التكليف والوضع يسمى حكما شرعيا كما يفهم من كلام الناظم. قال الزركشي في شرح جمع الجوامع: “ومنهم من أدخل خطاب الوضع في خطاب التكليف، وهو اختيار الإمام الرازي؛ لأن معنى كون الشيء شرطا حرمة المشروط بدون شرطه، وكونه مانعا كذلك، ومنهم من منع تسمية هذه الأشياء الوضعية أحكاما، وقال إنما هي علامات للأحكام وهو ضعيف؛ إذ لا تخرج بذلك عن كونها أحكاما شرعية”. انتهى.

فقول الناظم: “أو بوضع” مبني على أنه من أقسام الحكم الشرعي، ومن لم يقل بذلك كابن السبكي اقتصر في تعريف الحكم الشرعي على قوله: “هو خطاب الله تعالى المتعلق بفعل المكلف من حيث أنه مكلف”، وأسقط الوضع، قال العضد: “ولا مشاحة في الاصطلاح”. وزاد ابن راشد في أقسام الوضع التقديرات والحجج، فقال: “خطاب الوضع يحتوي على خمسة أقسام، وهي السبب والشرط والمانع والتقديرات والحجج، قال: وسميت هذا خطاب وضع لأن الشارع جعلها علامة موضوعة على الأحكام التكليفية، وكأنه يقول إذا زالت الشمس فاعلموا أني حكمت عليكم بوجوب صلاة الظهر، وإذا تطهرتم واستقبلتم فاعلموا أن صلاتكم صحيحة، وإذا وجد الدّين فاعلموا أن زكاة العين غير واجبة عليكم، وإذا مات المقتول فاعلموا أن ديته موروثة عنه، وهو وإن كان غير مالك لها في الحياة فقدروا أنه ملكها قبل موته، وإذا نهضت الحجة عند القاضي فاعلموا أني أمرته بالقضاء لمن قام بها”. وقال الزركشي: “سمي الخطاب المتعلق بأفعال المكلفين لا بالاقتضاء والتخيير خطاب وضع لأنه شيء وضعه الله في شرائعه لإضافة الحكم إليه تعرف به الأحكام تيسيرا لنا، فإن الأحكام غيب، والفرق بينهما من حيث الحقيقة أن الحكم في الوضع هو قضاء الشرع على الوصف بكونه سببا أو مانعا أو شرطا، وخطاب التكليف لطلب أداء ما تقرر بالأسباب والشروط والموانع”. انتهى. ومثله للعراقي. قال في شرح المقدمات: “وتخصيص هذا النوع من الأحكام باسم الوضع محض اصطلاح، وإلا فالأحكام كلها أعني المتعلقات بالأفعال التنجيزية بوضع الشرع لا مجال للعقل ولا العادة في شيء منها”. انتهى.

وكما يفترق خطاب الوضع وخطاب التكليف بما سبق يفترقان أيضا بأن الوضع لا يتوقف على العلم والبلوغ، فإن القتل سبب للضمان وإن صدر من الصبي والمجنون، والنجاسة مانعة من الصلاة بالنسبة للبالغ وغيره، وكذلك الوضوء شرط للصلاة بالنسبة إليهما، ولا يتوقف أيضا على القدرة أو كونه عن كسبه بخلاف خطاب التكليف، فإنه يشترط فيه علم المكلف وقدرته على ذلك الفعل وكونه عن كسبه، واستثنى الشارع من عدم اشتراط العلم والقدرة في خطاب الوضع قاعدتين: الأولى أسباب العقوبات كالقتل الموجب للقصاص والزنى والسرقة، والثانية أسباب انتقال أملاك كالبيع والهبة، فمن باع وهو لا يعلم أن هذا اللفظ أو هذا التصرف يوجب انتقال الملك لكونه أعجميا ونحوه لا يلزمه بيع، وكذا من أكره على البيع، وسر هذا قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل مال امرئ إلا عن طيب نفس)، ولا يحصل الرضى إلا مع الشعور والإرادة، فلذلك اشترط في هذه القاعدة العلم والإرادة والقدرة، قاله القرافي.

قال ابن راشد: “وخاصية السبب أن يوجد الحكم عند وجوده ويعدم عند عدمه، مثاله الزوال إذا وجد وجد الخطاب بصلاة الظهر، وقبل الزوال لا يوجد، فإن تخلف الحكم عنه فيكون إما لتخلف شرط أو لوجود مانع، وإذا وجد الحكم عند عدمه فقد يكون لإخلافه بسبب آخر. وخاصية الشرط أن يعدم الحكم عند عدمه مثل الطهارة في الصلاة إن عدمت عدمت الصلاة، دليله قوله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة إلا بطهور)؛ أي أن الصلاة تعدم عند عدم الطهور، ولا يلزم من وجود الشرط شيء؛ إذ قد يوجد الطهر ويوجد المانع أو يتخلف السبب فلا يترتب على الشرط شيء. وخاصية المانع أن يعدم الحكم عند وجوده كالدين في زكاة العين، والتقدير إعطاء الموجود لحكم المعدوم والمعدوم حكم الموجود، فالأول كالمريض يباح له التيمم عند وجود الماء إذا عجز عن استعماله، فالماء موجود وهو في حق المريض كالعدم، ومثال الثاني ما تقدم من تقدير ملك المقتول لديته قبل موته. والحجج جمع حجة وهي التي يستند إليها القضاة كالبينة والإقرار واليمين مع النكول ومع الشاهد الواحد، فإذا نهضت الحجة عند القاضي وجب عليه الحكم، وهي عندي راجعة إلى السبب”. انتهى.

وعلى ما اقتصر عليه الناظم فخطاب الوضع هو نصب الشارع أمارة من سبب أو [شرط] أو مانع على الطلب بأقسامه الأربعة وعلى الإباحة، وعليه فكل واحد من الأحكام الخمسة سبب وشرط ومانع، قال الشارح: قال بعضهم ممثلا للأقسام: فالواجب كالظهر، والسبب زوال الشمس، والشرط العقل والبلوغ، والمانع الحيض والإغماء. والمندوب كالنافلة، فالسبب لها دخول الوقت، وشرطها العقل، والمانع عدم الوقت. والمحرم كأكل الميتة، فالسبب موتها حتف أنفها، والشرط عدم الضرورة، والمانع وجود الضرورة. والمكروه كصيد اللهو، فالسبب اللهو، والشرط عدم الضرورة، والمانع وجود الضرورة. والمباح كالنكاح، فالسبب له العقد، والشرط خلو العقد من الموانع، والمانع النكاح في العدة مثلا. انتهى.

وما اقتصر عليه الناظم من أن الحكم الشرعي قسمان خطاب تكليف وهو الأحكام الخمسة الآتية وخطاب وضع وهو الخطاب بنصب الأسباب والشروط والموانع، وكذا التقادير والحجج الشرعية على ما سبق عن ابن راشد، هو المشهور والمعروف، وزاد ابن راشد قسما ثالثا وهو المركب من خطاب التكليف وخطاب الوضع، وذلك كالطهارة فهي خطاب تكليف من جهة الأمر بها وخطاب وضع من جهة أنها شرط. وقسما رابعا وهو ما هو خطاب تكليف في الابتداء وخطاب وضع بعد الوقوع، وذلك كالبيع فإنه مباح، والمباح من خطاب التكليف، فإذا وقع صار سببا لملك المشتري يتصرف فيه بالبيع وغيره، والسبب من باب خطاب الوضع.

 وعلى هذا فأقسام الحكم الشرعي أربعة: خطاب التكليف، وخطاب الوضع، ومركب منهما، وتكليف في الابتداء، ووضع بعد الوقوع، وكل من القسمين الأولين -وهما خطاب التكليف وخطاب الوضع- ينقسم إلى خمسة أقسام، ذكر الناظم من أقسام الثاني ثلاثة: السبب، والشرط، والمانع، وبقي عليه التقديرات والحجج، وأشار إلى جميع أقسام الأول وأسمائها وحقائقها بقوله:

 “أقسام حكم الشرع خمسة ترام              فرض وندب وكراهة حرام

         ثم إباحة فمأمور جزم                        فرض ودون الجزم مندوب وسم

 ذو النهي مكروه ومع حتم حرام             مأذون وجهيه مباح ذا تمام”

فأخبر أن أقسام الحكم الشرعي خمسة: الفرض، الندب، والكراهة، والحرام، و الإباحة، وهو مذهب جمهور الأصوليين، وزاد ابن السبكي تبعا لإمام الحرمين وجماعة من المتأخرين خلاف الأولى؛ لأن النهي غير الجازم عنده إن تعلق بالكف عن الفعل بدلالة المطابقة كالنهي المتعلق بالقراءة في الركوع مثلا فهو الكراهة، وإن تعلق بالكف عن الفعل بدلالة الالتزام على النهي عن ضده فهو خلاف الأولى كطلب قيام الليل، فإنه يدل بدلالة الالتزام على النهي عن ضده كنوم الليل كله، فيطلق على النوم أنه خلاف الأولى، ولا يطلق عليه أنه مكروه، ومرجع هذه الأقسام كلها عند التحقيق إلى ثلاث: مطلوب الفعل، مطلوب الترك، ولا مطلوب بواحد منهما.

وأخبر الناظم أيضا أن المأمور بفعله إن جزم بالأمر به، أي طلب فعله طلبا جازما بأن لم يجوّز تركه فهو الفرض، وذلك كالإيمان بالله ورسله وكقواعد الإسلام الخمس، وإن لم يجزم بالأمر به فإن طلب طلبا غير جازم بأن جوز تركه فهو المندوب، وذلك كصلاة الفجر ونحوها، وأن المنهي عن فعله الذي طلب تركه إن كان النهي من غير تحتم فإن جوز فعله فهو المكروه، وذلك كالقراءة في الركوع مثلا، وإن كان مع تحتم بأن لم يجوز فعله فهو الحرام، كشرب الخمر والزنى ونحوهما، أما [إذا] ورد الشرع في فعله وتركه على السواء [فهو] المباح.

وجملة “ترام” صفة لخمسة، ومعنى ترام تقصد، وجملة “وُسم” صفة مندوب، ومعنى وسم علم من الوسم وهو العلامة. والفرض من فرض الشيء قدره، والندب الحث على الشيء والرغبة فيه. والمكروه ضد المحبوب. والحرام ما أوجب الشرع احترامه أي تجنبه واتقاءه. والمباح مأخوذ من التوسعة وعدم الضيق، ومنه باحة الدار أي ساحتها، ويقال فيه الحلال لأنه انحلت عنه [التباعات] فلا حق فيه للخلق ولا منع فيه من جانب الحق.

وخاصية الفرض – ويقال له الواجب والمستحق والمكتوب والمحتوم واللازم- الثواب على الفعل مع قصد الامتثال، فإن لم يقصد الامتثال فإن كان الفعل مما يفتقر للنية كالصلاة والصوم لم يخرج المكلف عن عهدته إلا بالنية، وإن لم يفتقر خرج عن العهدة بمجرد الفعل، والذم على الترك أي ترك المأمور به أو ترك بدله إن كان مما له بدل كالتيمم ومسح الخفين إلا أن يعفو الله. قال الشيخ زروق في شرح الوغليسية: “إذ لا يلزم من الاستحقاق الوقوع في باب الوعيد لعارض الكرم بخلاف الوعد، فإن الله لا يظلم مثقال ذرة، وهذا فيما دون الشرك، فإن الله لا يغفر أن يشرك به، وكذا حقوق العباد فإنها موقوفة على رضاهم”. انتهى.

 كن كيف شئت فإن الله ذو كرم            وما عليك إذا أذنبت من بأس 

 إلا اثنين فلا تقربهما أبـــــدا              الشرك بالله والإضرار بالناس

وخاصية المندوب الثواب على الفعل وعدم الذم على الترك، قال ابن راشد: “فإن كثرت أجوره وأظهره [338] صلى الله وسلم وسلم في الجماعات سمي سنة،         وإن قلت ولم يظهره سمي نافلة، وإن توسطت بين القسمين سمي فضيلة. انتهى. وينتقل إلى الوجوب بنذر وشبهه كما ينتقل إلى التحريم لعلة اقترنت به كصلاة النافلة لمن عليه فرض ضاق وقته أو خرج.

وخاصية الحرام ويقال له المحظور والممنوع الذم على الفعل إلا أن يعفو الله تعالى كما سبق في الفرض حرفا بحرف، والخروج عن العهدة بالترك فإن قصد بالترك الامتثال أثيب.

وخاصية المكروه أن لا يذم فاعله، فإن تركه تقربا أثيب.

وخاصية المباح أن لا يتعلق به ذم ولا ثواب، فلو فعل منه رجل ما ترك آخر لم يكن لأحد منهم شيء ولا عليه، وينتقل إلى التحريم والوجوب والندب والكراهة بحسب العوارض والنيات. وأهل الله ليس عندهم مباح لأن كل شيء إنما يفعلونه لله، فهم فيه بين وجوب وندب. قال الشيخ زروق في شرح الوغليسية: وترك المباح تدينا اعتداء على الله إلا لعلة كالخوف من آفة واستشعار الفائدة في تركه، وإنما ترك الأكابر الشهوات ليلا تعتادها النفس فتشتغل بالتشوف إليها عن مراقبة المولى وتعلق القلب به، وقد وعظ رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة يوما فاجتمع جماعة منهم، وقال بعضهم لا نأكل اللحم أبدا، وقال غيره لا نفطر أبدا، وقال غيره لا ننام أبدا، وقال بعضهم لا نأتي النساء أبدا، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فغضب ثم قال: (أما أنا فأصوم وأفطر وأقوم وأنام وآتي النساء، وهذه سنتي، فمن رغب عنها فليس من أمتي)، وأنزل الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل [الله] لكم ولا تعتدوا) الآية[المائدة: 87].

قال الشارح: وكون المباح أحد أقسام الحكم الشرعي هو الذي عند الأكثر، وقيل ليس هو منها، وإنما هي الأربعة دونه، وسبب الخلاف في تفسير المباح: فمن فسره بنفي الحرج لا يكون عنده من الشرع، لأنه كان منفيا قبل الشرع، ومن فسره بالإعلام بنفي الحرج فإنما يعلم من الشرع، فهو عنده من الشرع، قاله ابن أبي يحيى في شرح الرسالة. انتهى.

واعلم أنه لابد لكل حكم من هذه الأحكام من حكمة، قال في التوضيح: وذلك لأنا استقرينا عادة الله تعالى فوجدناه جالبا للمصالح دارئا للمفاسد أي تفضلا لا وجوبا، ولهذا قال ابن عباس: إذا سمعت نداء الله فهو إما يدعوك لخير أو يصرفك عن شيء. قال: ويقرب لك ذلك مثال في الخارج؛ إذا رأينا ملكا عادته [أن] يكرم العلماء ويهين الجهال، ثم أكرم شخصا، غلب على ظننا أنه عالم. والله تعالى إذا شرع حكما علمنا أنه شرعه لحكمة، ثم إن ظهرت لنا فنقول هو معقول المعنى، وإن لم تظهر فنقول هو تعبد، وهذا قول أكثر الأصوليين، وقال بعض الفقهاء إن التعبدات هي الأحكام التي لا علة لها بحال، وهو ظاهر كلام ابن راشد في كتاب الصيام، انظر ابن عرفة في بيوع الآجال. وإلى جلب المصالح ودرء المفاسد ترجع أقسام الحكم الخمسة التي أشار إليها ابن راشد في أول شرحه لابن الحاجب. القسم الأول شرع لكسر النفس الأمارة كالعبادات. الثاني شرع لبقاء الجنس كالإذن في الطعام والشراب واللباس والمساكن التي تؤوي من السباع  وأسباب الفساد وكإيجاب الزكاة والنفقات لسد الخلات. الثالث ما شرع لضرورة الجنس بعد بقائه كالإجارات والبياعات والقراض والمساقات والوكالة والجعالة، فإن الإنسان مفتقر إلى ما ليس عنده من الأعيان ومفتقر إلى الاستخدام  والامتهان. الرابع ما شرع للسياسة والزجر كتحريم القتل والزنا  والسكر والسرقة والقذف؛ صونا للنفوس والأنساب والعقول والأموال والأعراض عن المفسدات وأروش الجنايات لجبر المتلفات. الخامس شرع تنبيها على الكمال والنقص وعلى مكارم الأخلاق […]، [كالحض] على المواساة والهبات والصدقات، وكالحض على حفظ الوديعة واللقطة، فإن ذلك كله من مكارم الأخلاق. قال الشارح رحمه الله في أول اختصاره للحطاب شارح مختصر الشيخ خليل: وقد نظمت زبدة ما تقدم في كلام ابن راشد في أبيات تقريبا للحفظ فقلت:

أربعةٌ أقسام حكم الشرع          خطاب تكليف خطاب وضع

     ثم مركب وتكليف يرى                في الابتدا وبعده وضع جرى

 مثال ما ركب والذي يليه                طهارة بيع فحقق يا نبيه

   تكليفه لواجب ندب قسم                   كره وتحريم مباح قد علم 

 ذو الوضع قل بخمسة قد قسما             لسبب شرط ومانع سما  

ثمة تقدير وحجة تقام                  يستند الحكم بها على الدوام

ومثلوا الشرط بحول والسبب        بالوقت مانعا بحيض لم يُرب

ومثلوا التقدير قل والضرر         وحول ربح المال كن ذا بصر

وحجة الحكم كإقرار يمين                   بينة فحققنه يا أمين

والحِكم التي بها قد شرعت           أحكام شرعنا لخمس جمعت

فكسر نفس وبقاء الجنس           ضرورة أيضا لذلك الجنس

بعد بقائه سياسة كمال              وضده كرم أخلاق تقال 

 مدارها  درء المفاسد ورد           جلب المصالح على ما قد عهد 

معقول معنى الذي قد علمت                حكمته غير عبادة تلت      

مراجعا لفهمها ما قد مضى            يظهر معناها كفجر قد أضا”.

شرح العلامة الشيخ أبي عبد الله محمد بن قاسم جسوس على توحيد ابن عاشر، ص: 332 وما يليها، مطبوع حجري رقم: 576، خزانة القرويين بفاس.

د. إدريس غازي

• خريج دار الحديث الحسنية ـ الرباط.
• دكتوراه في الدراسات الإسلامية، جامعة سيدي محمد بن عبد الله ـ فاس، في موضوع: "أصل ما جرى به العمل ونماذجه من فقه الأموال عند علماء المغرب".
• دبلوم الدراسات العليا من دار الحديث الحسنية، الرباط، في موضوع: "المنهجية الأصولية والاستدلال الحجاجي في المذهب المالكي".
من أعماله:
ـ الشاطبي بين الوعي بضيق البرهان واستشراف آفاق الحجاج.
ـ في الحاجة إلى تجديد المعرفة الأصولية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق