مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

رسالة الشيخ ابن أبي زيد القيرواني إيرادات وأجوبة (12)

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده

وبعد فهذه أوراق في محاولة الذب عن هذا العلق النفيس «متن الرسالة» من خلال أجوبة عن إيرادات عليه تغض من قيمته الفقهية، وتزري بمكانته الاجتهادية؛ استنادا إلى تمهيد أسست على متين بنيانه إيرادات قادحة، سنوردها بعده واحدة واحدة محاولين تثويرها والإجابة عنها:

وقد أنيخت مطايا النظر في رحاب الإيراد الخامس، وبالضبط في الإبانة عن مكنون اختيارات الشيخ في رسالته، وقد مضت مدارسة خفيفة لاختيار التخيير، وانتخاب الإطلاق، واجتباء الإهمال، وفي هذا المعقد نقف عند ترجيح الشيخ بالتعيين لقول دون قول، ورواية دون أخرى:

ولعل الناظر هـهنا قد يستد له أن الاختيار نوع ترجيح أيضا؛ إذ لا يختار مختار التخيير أو الإطلاق أو الإهمال إلا بناء على مآخذ اعتنت له، ومسالك درجت بين أنظاره كما أسلفنا، وذلك أشبه إلا أن الترجيح في سياقنا أخص؛ لأنه مراجحة بين قولين فأكثر؛ مدارسة لأدلتهما، ونظرا في دلالة نصوصهما، واعتبارا بما احتف من قرائن الحال والمقال في سياقهما، حتى إذا ما استد النظر، وبان بالحجة قوة أحدهما انتزع من مجموع الأقوال انتزاعا، وضمن في الملخص محررا منقحا، ولعل اختيار الإطلاق والتقييد أو الإهمال عن هذا المسلك بمعزل، ويكون بالتوقف؛ لتساوي الأدلة أشبه، والله أعلم

فإذا ثبت ما زبرناه فإن مطلب الترجيح ينعقد في ثلاثة معاقد: معقد ترجيح قول المدونة، وقد مضى

والمعقد الثاني ترجيح الموطأ: فما سلف من تفخيم المشهور، والعناية به، وعدم الخروج عنه؛ لتحريره بغض النظر عن أصله ودليله أو قائله، ليس يلزم دائما؛ إذ الشيخ قد يرجح أحيانا غير ما اشتهر لدى المتأخرين عنه كالشيخ خليل؛ لملحظ يراه، أو لدليل قوي عنده، ومن ذلك قوله رحمه الله: «ولا بأس للمضطر أن يأكل الميتة ويشبع ويتزود فإن استغنى عنها طرحها»([1])

فقد نزع الشيخ هـهنا إلى ما في الموطإ، بخلاف ما ذهب إليه الشيخ خليل وشهره بقوله:«وللضرورة ما يسد»([2]) مرجحا قول ابن حبيب وابن الماجشون وأبيه، ويؤيده: حكاية ابن المنذر وعبد الوهاب عن مالك: «لا يأكل منها إلا ما يسد به رمقه خاصة»([3]) ونصان في النوادر لابن حبيب:

الأول: «وكذلك ذهب ـ يعني ابن حبيب ـ في الميتة، أنه لا يأكل منها المضطر  إلا ما يقيم الرمق»([4]).

والثاني كالتقييد لما في الموطإ، قال: «وقال ابن حبيب: وذلك لمن اشتد به الجوع وخاف الموت ولم يقدر على النهوض فليأكل ما يقيم به رمقه ولا يشبع، ولكن بقدر ما يقيم صلبه وينهضه.. وكذلك قال عبد العزيز وابن أبي سلمة وابنه عبد الملك([5])

وفي المذهب ثالث: يشبع ويتزود في زمن المسغبة لا في غيرها([6])

فهذا حاصل ما في المذهب، وقد رجح الشيخ ـ كما ترى ـ ما في الموطإ دون التفات إلى تقييد ابن حبيب له كما في نص النوادر؛ لوضوح قول مالك في الشبع والتزود، ففي الموطإ: « يحيى عن مالك أن أحسن ما سمع في الرجل يضطر إلى الميتة، أنه يأكل منها، حتى يشبع ويتزود منها، فإن وجد عنها غنى طرحها»([7])، ووجهه أنه «إن اضطر إلى أكلها واستباحتها بذلك؛ فإنه لا يقتصر على ما يرد رمقه منها، بل يشبع منها الشبع التام ويتزود؛ لأنها مباحة له كما يشبع من الطعام المباح في حال وجود الطعام لما كان مباحا له»([8])

وأما وجه عدم الشبع والتزود لابن حبيب وشهره خليل أن الضرورات لا يتوسع فيها، بل تقدر بقدرها، فالإباحة إنما تثبت لحفظ النفس وذلك يوجد فيما دون الشبع، وما زاد لا يتناول لحفظ فكان ممنوعا منه، وتعلق بحديث ـ أورده الباجي في المنتقى ـ روي عن أبي واقد الليثي «أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنا نكون بأرض تصيبنا فيها المخمصة فمتى تحل لنا الميتة فقال: (إذا لم تصطبحوا ولم تغتبقوا ولم تحتفوا بقلا شأنكم بها) قال عبد الملك: يعني بـ«الاصطباح» الغداة و«الاغتباق» العشاء و«الاحتفاء» جمع البقل وأكله. وذلك يدل على أنه لا يأكل الميتة ما وجد تعليلا من تبقل أو غيره يمسك نفسه ويؤمنه الموت([9]).

فمن جنح إلى التيسير، وعمم الإباحة في الشبع والتزود قياسا على سائر المباحات، قال به. ومن مال إلى الاحتياط، وخص الإباحة بسد الرمق، وأمكنه ـ على بعد ـ حمل قوله تعالى: (غير باغ ولا عاد) على الشبع والتزود، فجعله كالمستثنى من الإباحة، ثم استأنس بما روي عن أبي واقد، منع منه ـ أعني الشبع والتزود ـ قال ابن ناجي: «وهو الذي تركن إليه النفوس»([10])

قال ابن رشد: «وسبب الاختلاف هل المباح له في حال الاضطرار هو جميعها أم ما يمسك الرمق فقط؟ والظاهر أنه جميعها؛ لقوله تعالى: (فمن اضطر غير باغ ولا عاد)([11])

وحاصل الحاصل أن ما ينبغي ترجيحه  في المذهب وتشهيره غير ما نزع إليه الشيخ خليل بل منصوص الموطإ والرسالة؛ ولذلك قال ابن غازي: «قوله: «وللضرورة ما يسد» لعله «ما يشبع» فصحف»([12])، وفي الزرقاني على خليل: «وحمل «يسد» على يسد الجوع، لا الرمق فقط»([13])، وفي المواق:«وللضرورة ما يسد»: انظر هذا فإنه مذهب الشافعي وأبي حنيفة، ولم يعزه أبو عمر لأحد من أهل المذهب»([14])

 

([1]) ص 198.

([2]) مختصر الشيخ خليل:80

([3]) شرح ابن ناجي:2/351.

([4]) النوادر والزيادات:2/36

([5]) النوادر والزيادات:4/381

([6]) شرح الشيخ زروق:2/351.

([7]) كتاب الصيد باب ما جاء فيمن يضطر إلى أكل الميتة.

([8]) المنتقى في شرح الموطإ لأبي الوليد الباجي:3/138.

([9]) المنتقى في شرح الموطإ لأبي الوليد الباجي:3/138.

([10]) شرح ابن ناجي:2/351.

([11]) بداية المجتهد لابن رشد:3/29. والآية في البقرة:173.

([12]) شفاء الغليل في حل مقفل خليل لابن غازي:1/372

([13]) شرح الزرقاني على مختصر خليل:3/48.

([14]) التاج والإكليل لمختصر خليل:4/353.

Science

د. عبد الهادي السلي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق