مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةشذور

درر قرآنية (7): خصال عشر في أعمال الباطن في تلاوة الكتاب: -2- التَّعْظِيمُ لِلْمُتَكَلِّمِ

إذا كان العلم هو خشية الله،  فإن توسُّم الخشية على رسوخ الاتسام إنما يتحقق  بتعظيم الباري عز شأنه، وانتحاء سمت وقاره.  وقد وقر في الصدر الأول أن  من توقير الله عز وجل توقير كلامه، وأن استعظام كلامه ـ حسا ومعنى ـ إنما يتحصل باستحضار جلاله في صفاته وخلقه وأمره، مع معرفة بحقارة النفس وذلتها يوجب انكسارها وخشوعها في محراب التعبد ، وهو مقام تنحسر الألفظ – على تطاول مدها- عن تمثل وسوم إحسانه، والارتقاء إلى سدرة يفاعه. وقد جاءت الدرة الثانية للإمام الحجة أبي حامد ، لتبلغ بهذا المعنى المدى البليغ، في صوغ مقرب ذلول ، جعل ذريعته حسي التمثيل، والفعل المثيل، ومسلك التأمل الحفيل،  فدونكها – أيها القارئ الكريم – كلمة لا تقصر في وجازة مسطورها إلا بمقدار ما تترك لك أن  تجعله عين عنايتك من لحون دلالتها، كلما تلوت كتاب ربك، من معاناة المجاهدة في التحقق بمشهد التعظيم للمتكلم بهذا الكتاب العظيم:

الثَّانِي: التَّعْظِيمُ لِلْمُتَكَلِّمِ:

  فَالْقَارِئُ عِنْدَ الْبِدَايَةِ بِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ يَنْبَغِي أن يحضرَ فِي قَلْبِهِ عَظَمةَ الْمُتَكَلِّمِ، وَيَعْلَمَ أَنَّ مَا يَقْرَؤُهُ لَيْسَ مِنْ كلام البشر،  وأن في تلاوة كلام الله تعالى غايةَ الخطر،  فإنه تعالى قال: {لا يمَسُّه إلا المطهرون}[ الواقعة:79].  وكما أن ظاهرَ جلد المصحف وورقه محروس عن ظاهر بشرة اللامس،  إلا إذا كان متطهراً،  فباطن معناه أيضاً ، بحكم عزه وجلاله،  محجوب عن باطن القلب،  إلا إذا كان متطهراً عن كل رجس،  ومستنيراً بنور التعظيم والتوقير. وكما لا يصلح لمسّ جلد المصحف كل يد،  فلا يصلح لتلاوة حروفه كلُّ لسان،  ولا لنيل معانيه كلُّ قلب. ولمثل هذا التعظيم كان عكرمة بن أبي جهل إذا نشر المصحف غُشي عليه، ويقول: (هو كلام ربي ! هو كلام ربي !)[1]. فتعظيم الكلام بتعظيم المتكلم، وَلَنْ تَحْضُرَهُ عَظَمَةُ الْمُتَكَلِّمِ مَا لَمْ يَتَفَكَّرْ فِي صِفَاتِهِ وَجَلَالِهِ وَأَفْعَالِهِ؛ فَإِذَا خطرَ بِبَالِهِ العرش والكرسي والسموات وَالْأَرَضون وَمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَشْجَارِ،  وَعَلِمَ أَنَّ الْخَالِقَ لِجَمِيعِهَا،  وَالْقَادِرَ عَلَيْهَا، وَالرَّازِقَ لَهَا وَاحِدٌ،  وَأَنَّ الْكُلَّ فِي قَبْضَةِ قُدْرَتِهِ، مُرَدّدون بَيْنَ فَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَبَيْنَ نِقْمَتِهِ وَسَطْوَتِهِ، إِنْ أَنْعَمَ فَبِفَضْلِهِ، وَإِنْ عَاقَبَ فَبِعَدْلِهِ،  وأنه الذي يقول: (هؤلاء في الجنة ولا أبالي،  وهؤلاء في النار ولا أبالي)[2]. وهذا غاية العظمة والتعالي؛ فَبِالتَّفَكُّرِ فِي أمثال هذا يحضر تعظيم المتكلم، ثم تعظيم الكلام” .

المصدر: إحياء علوم الدين  2 : 294 ـ 295 . ط. دار المنهاج للنشر والتوزيع ( 1، 1432 ـ 2011م) ـ جدة


[1]  ـأخرجه عبد الله بن أحمد بن حنبل في كتاب السنة رقم 110، والطبراني في الكبير: 17/371 رقم 1018، والخطيب في تاريخ بغداد: 12 / 25

[2]  ـ  مسند أحمد 29/ 206 رقم: 17660، وابن حبان في صحيحه ( الإحسان) 2/250 رقم 338، والحاكم: 1/31

د.توفيق العبقري

  • مشرف على البحث العلمي بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق