مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةمفاهيم

الشعرُ العَرَبيُّ ومَكارمُ الأخلاق من خلال: كتاب المَعاني الكبير في أبيات المَعاني، لأبي محمد عبد الله بن مُسلم بن قُتيبةَ الدّينوريّ (حلقة2)

ومما تضمَّنَه الشعرُ العربيُّ القَديمُ من مَكارم الأخلاقِ ودُررِ النَّصائحِ ما يَلي:

1- أنّ المرءَ ما عاش -وإن جَهِدَ في طَلبٍ ولم يألُ- غيرُ مُدرِكٍ أواخرَ الأمورِ وغيرُ بالغٍ كُنهَها.

2- وأنّ الأمورَ إذا أقبلَتْ على المَرءِ الْتَبَسَت وأشْكَلَت وعَمِيَ فيها الرأيُ فلم يَصِحَّ منها وهي مُقبِلةٌ ما يَصِحُّ إذا مَضَتْ وقَرَّت مَقَرَّها، فتتَشابَهُ أوائلُ الأمورِ وتَمتنعُ أعلامُ العَواقبِ التي تَصدُرُ عَنها الأورادُ فَلا يُحاطُ بها.

3- وأنَّ مَن لم يَنْصَلِحْ من الناسِ يُقَوَّمْ؛ ولكنَّه استبْقاءَه مَأمَلٌ في انصلاحِه، فَإذا وجبَ عليه عقابٌ عَفَوتَ عنه، واسْتبْقاءُ فُلانٍ في مَعنى العفو عن زَلَلِه واسْتِبْقاءِ مودَّته

4- ومن حُسن الخُلُقِ عَدمُ اليأسِ ومَنُّ النّفسِ بالأمَلِ؛ وهو أن يقولَ لَها: تَعيشينَ تُصيبينَ خَيراً، ولو صَدَقَها فَقالَ: تَهلِكينَ تَموتين لأزْرَى بأَمَلِه

5- ومن المواعظِ أنّ المالَ والأَهْلينَ ليسَوا إِلا وَدائِعَ، ولا بُدَّ يوماً أَن تُرَدَّ الوَدائِعُ، ويَبْقى البرُّ والخَيرُ ومَحاسنُ الأمورِ.

6- ومن نَصائح الشعرِ: لا تَنقطِعْ عن خَليلِكَ لِشَيء غابَ لم تَرَه ولا لِواشٍ يَدِبُّ بالنَّميمة، وبهذا المعنى فُسِّر قولُه صَلى اللّه عليه وسلم: «لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ دَيْبُوبٌ ولا قَلاَّعٌ» وهو كَقوله: «لا يَدْخُلُ الجنَّةَ قَتَّاتٌ»

***

قالَ امرؤُ القَيس:

وما المرءُ ما دامَتْ حُشاشَةُ نَفْسِه /// بمُدرِكِ أطرافِ الخُطوبِ ولا آلي

يقولُ: المرءُ ما عاش -وإن جَهِدَ في طَلبٍ ولم يألُ- غيرُ مُدرِكٍ أواخرَ الأمورِ وغيرُ بالغٍ كُنهَها. وقالَ ذو الرمة:

تَشابَهُ أعناقُ الأمور وتَلْتَوي /// مَشاريطُ ما الأورادُ عنه صَوادرُ

أعناقُ الأمور أوائلُها، والمشاريطُ الأعلامُ، يريدُ أنّ الأمورَ إذا أقبلَتْ الْتَبَسَت وأشْكَلَت وعَمِيَ فيها الرأيُ فلم يَصِحَّ منها وهي مُقبِلةٌ ما يَصِحُّ إذا مَضَتْ وقَرَّت مَقَرَّها، كأنه قالَ: تَشابَهُ أوائلُ الأمورِ وتَمتنعُ أعلامُ العَواقبِ التي تَصدُرُ عَنها الأورادُ فَلا يُحاطُ بها.

وقالَ امرؤُ القَيس:

فإِنَّكَ لَم يَفخَرْ عَلَيكَ كَفاخِرٍ  ///   ضَعيفٍ وَلَم يَغلِبْكَ مِثلُ مُغَلِّبِ

يقولُ: الضَّعيفُ لا تُجارِهِ فَهو يتجرّأُ عليكَ. وقال النابغة:

فإِنَّكَ لَم يَفخَرْ عَلَيكَ كَفاخِرٍ  ///   ضَعيفٍ وَلَم يَغلِبْكَ مِثلُ مُغَلِّبِ

يقولُ: مَن لم تُصلِحْه تقومه من الناسِ فلستَ بمُستَبْقيه ولا بِراغبٍ فيه، يقال اسْتَبْقَيْتُ فلاناً إذا وجبَ عليه عقابٌ فَعَفَوتَ عنه. وإذا أَعطيتَ شيئاً وحَبَسْتَ بعضَه قلتَ: استبقيتُ بعضَه، واسْتَبْقَيْتُ فلاناً في مَعنى العفو عن زَلَلِه واسْتِبْقاءِ مودَّته، لا تلمُّه على شعث أَي لا تَحتملُه على ما فيه من زَللٍ ودَرْءٍ فتَلُمُّه وتُصْلحه وتَجْمَعُ ما تَشَعَّثَ مِن أَمره. واللَّمُّ الجمعُ لما تفَرقَ من أخلاقه وفَسَدَ، يقولُ: إنكَ لا تجدُ مهذباً لا عيبَ فيه. وقال الأعشى:

فلَسْنا لباغي المُهمَلاتِ بقِرْفَةٍ /// إذا ما طَها بالليل مُنتَشِراتُها

[قالَ قبله:

أَبا مِسمَعٍ إِنّي امرُؤٌ مِن قَبيلَةٍ  ///  بَنى لِيَ مَجداً مَوتُها وَحَياتُها]

وطَهَتِ الإِبلُ تَطْهى طَهْواً وطُهُوّاً وطَهْياً انْتَشَرَتْ وذَهَبَتْ في الأَرض وتَفرقَ

المهمَلات الإبلُ بلا راعٍ، والقِرفةُ الظِّنّة، أي لا يُطمعُ فينا لأنّا لَسنا نُهمِلُ أمرَنا، وهذا مَثَلٌ، طَها انْتَشَر. وقال جهنام يرد عليه:

إنّا لحابِسونَ صدرَ أمورنا /// إذا عَجِلَتْ دونَ الصَّلاحِ هَناتُها

أي نكفُّ أوائلَ أمورنا أي نَتأنّى ونَنتظرُ، ولا نَعْجَلُ فَنُقَدِّمَ إذا -عُجلت الهَناتُ- مِنَ الشّرِّ دونَ الصَّلاحِ وهو الصُّلحُ.

وقال الأعشى:

إن مَحَلًّا وإنَّ مُرْتَحَلاً /// وإنّ في السّفرِ ما مَضى مَهلاً

أراد إن لنا مَحلاً يُريد الآخرةَ، ومُرتَحَلاً عنه يُريد الدُّنيا، وإنّ في السَّفر تَقدُّماً، مَنْ يُقدِّمُ شَيئاً مِن العَملِ أصابَه، كَما تَقولُ: أخَذَ لذلكَ الأمرِ مُهْلَتَه – أي تَقَدَّمَ فيه. وقالَ الشّمّاخُ:

كُلُّ خليلٍ غَيرِ هاضمِ نفسِه /// لِوَصلِ خليلٍ صارمٌ أو مُعارزُ

هاضم كاسِر، يقولُ: كلُّ خليل لا يَقهرُ نَفسَه عَلى وَصلِ خَليلهِ فهو على حالِ صارِمِ خَليلِه، والمعارِزُ المجانبُ، المُعارِزُ المنقبضُ، وقيل المعاتبُ، وقيل هو المعاند، وكلٌّ قَريبٌ مِن بَعضٍ.

 وقال لبيد:

واكْذبِ النَّفْسَ إذا حَدَّثْتَها /// إنّ صِدْقَ النَّفسِ يُزْري بِالأمَلْ

هو أن يقولَ لنَفْسِه: تَعيشينَ تُصيبينَ خَيراً، ولو صَدَقَها فَقالَ: تَهلِكينَ تَموتين لأزْرَى بأَمَلِه:

غَيرَ أنْ لا تَكْذِبَنْها في التُّقَى /// واخْزُها بالبرِّ لله الأجَلّْ

اخْزُها سُسْها لله الأعْظَم، خَزَوْتُ الإنسانَ وغَيرَه أَخْزُوه أيْ سُسْته: وقالَ ذو الإصْبَع:

لاهِ ابنُ عَمِّكَ لا أَفْضَلْتَ في حَسَبٍ /// عَنّي ولا أنْتَ دَيّاني فَتَخْزوني

أرادَ: لله ابنُ عَمِّك، وعَنّي بمَعْنى عَلَيّ، أي لَمْ تَفْضُلْ في الحَسَب عَلَيّ، والدَّيّانُ الذي يَلي أمْرَه، يَقولُ لَستَ والِيَ أمْري فتَسُوسَني.

وقال لبيد:

وما البرُّ إلا مُضْمَراتٌ مِن التُّقَى /// وما المالُ إلا مُعْمَراتٌ وَدائعُ

مُعْمَراتٌ مِن العُمْريّ، يقالُ: هذِه الدّارُ لكَ عُمْري. يَقولُ: وما المالُ والأَهْلُون إِلا وَدائِعُ ولا بُدَّ يوماً أَن تُرَدَّ الوَدائِعُ، أَيْ ما البِرُّ إِلّا ما تُضْمرُه وتخفيه في صَدرك ويُقالُ لكَ في هذه الدار عُمْري حَتّى تموتَ، وعُمْرِيُّ الشَّجرِ قَديمُه نُسِبَ إِلى العُمُر.

وقال القطامي:

ومَعْصِيةُ الشَّفيقِ عَلَيكَ ممّا /// يَزيدُك مَرّةً منه اسْتماعا

يقولُ: إذا عَصَيتَه مَرّةً فتَبَيّنَ لكَ خَطؤُك في مَعصيَتِه اسْتَمَعْتَ منه الثّانيةَ. وقال:

أخوكَ الذي لا تَمْلِكُ الحِسَّ نَفْسُهُ /// وتَرْفَضُّ عندَ المحفظاتِ الكَتائفُ

الحِسُّ الرِّقَّةُ. تقولُ: إني لأحسُّ عَليكَ أي أرِقُّ عليكَ، ومعنى هذا البيت معنى المثل السائر الحَفائِظُ تُحَلِّلُ الأَحْقادَ يَقولُ: إِذا رأَيتُ قريبي يُضامُ وأَنا عليه واجدٌ أَخرجتُ ما في قلبي من السَّخِيمة له ولم أَدَعْ نُصْرَتَه ومَعونَتَه، والكَتائفُ الأحقادُ واحدُها كَتيفَةٌ، يَقولُ: تَذهبُ الأحقادُ يَومَ تَرى أخاكَ في الشّرِّ فتَنْصُرُه.

وقالَ ابنُ أحْمَرَ:

هذا الثناءُ وأجْدِرْ أن أُصاحِبَه /// وقَد يُدَوِّمُ ريقَ الطّامِعِ الأمَل

أي يُيَبِّسُ ريقَه في فَمِه. وقال المرار:

فَلا تَنقَطِعْ مِن وامِقٍ ذي مَوَدَّةٍ /// بِغَيبٍ وَلا واشٍ يَدِبُّ وَيَقدَحُ

يقول: لا تَنقطِعْ عن خَليلِكَ لِشَيء غابَ لم تَرَه ولا لِواشٍ يَدِبُّ بالنَّميمة. رَجُلٌ دَبُوبٌ ودَيْبُوبٌ نَمَّامٌ كأَنه يَدِبُّ بالنَّمائِم بينَ القَوْمِ، وقيلَ دَيْبوبٌ يَجْمَعُ بينَ النّاس فَيْعُولٌ من الدَّبِيبِ لأَنَّه يَدِبُّ بَيْنَهُم ويَسْتَخْفِي، وبهذا المعنى فُسِّر قولُه صَلى اللّه عليه وسلم لا يَدْخُلُ الجَنَّة دَيْبُوبٌ ولا قَلاَّعٌ وهو كقوله صلى اللّه عليه وسلم لا يدخُل الجنَّةَ قَتَّاتٌ، ويَقالُ إِنَّ عَقارِبَه تَدِبُّ إِذا كانَ يَسْعى بالنَّمائِم.

فَإِنَّ أمينَ الغَيبِ يَحصرُ صَدرَه /// مِراراً وَيَستَحْيي الحَبيبُ فَيصْفَحُ

يقولُ: ربما ضاقَ صدرُه بما يبلُغُه إلا أنه يَستَحْيي الحَبيبُ فيَصفَحُ عنه.

فَلا تَصرِمَنَّ الدَّهرَ مَن قَدْ حَبَوتهُ /// بِوُدِّكَ وَاعلَمْ أَهلَهُ حينَ تمنَحُ

يقول: اعلمْ مَن هو أهلٌ لوُدِّك، أي لا تَضَعْ وُدَّك إلا مَوْضِعَه فإذا وَدِدْتَ فَلا تَصْرِمْ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق