مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةشذور

حكميات عطائية: ” من علامات الاعتماد على العمل نقصان الرجاء عند وجود الزلل”

تعتبر الحكمة منشود العقلاء والفضلاء، يبحثون عنها أنَّا كانت، فإذا ظفروا بها كان لهم بها السعد والاحتفاء، وبدلالتها الاستفادة والاهتداء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: “الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها”[1].

والحكمة عطاء من الله تعالى لعباده، قال تعالى: {لقد مَنّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}، [آل عمران: 164]، جاء مصطلح الحكمة هنا بمعنى السنة، ولا شك أن السنة النبوية كلها حكم.

حتى إن الحكمة يكون بها الحسد والاغتباط، فقد بوب البخاري في كتاب العلم بابا أسماه: باب الاغتباط في العلم والحكمة.

وجاء في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا حسد إلا في اثنتين، رجل آتاه الله مالا، فسلطه على هلكته في الحق، وآخر آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها»[2].

ومن أولئك سيدي ابن عطاء الله السكندري في حكمه المباركات.

قال رحمة الله عليه: من علامات الاعتماد على العمل نقصان الرجاء عند وجود الزلل.

وهي حكمة[3] ابتدأ بها حكمه؛ فيها تحسيس بعقيدة التوكل المبثوثة في فاتحة القرآن الكريم، لأن النفس البشرية تأنس بالأسباب وتنسى المسبب، فهذه الحكمة الأولى كالفاتحة، ولذلك ورد: لو جازت الصلاة بغير الفاتحة لجازت بالحكم العطائية، ولا مبالغة فيما ورد، لأن (لو) افتراضية وامتناعية في الإعراب، ومعنى كونها امتناعية أنها تدخل على الجملتين فتفيد نفيهما معا، شرطها وجوابها.

ثم إن هناك إشارات عند البناني -كما أشار إلى ذلك مصطفى البحياوي- في أن هذه الحكم مشتقة من بحر فاتحة القرآن؛ فمحاور الحكم الكبرى ترجع إلى ثلاثة مواضيع: الأول موضوع الوجود الحق، والثاني موضوع المعرفة، والثالث في موضوع النفس البشرية.

فالنفس البشرية محور التزكية.

والوجود الحق محور الشهود.

والمعرفة محور الوصول، وعبرها تصل النفس البشرية إلى مقام شهود أحدية الله تعالى.

في هذه الحكمة علامة كافية، ودلالة وافية، وما تلك، إلا أحد علامات الاعتماد على العمل، إذ له علامات ودلالات يطول تعدادها، ومن جملتها: الإدلال وازدراء من لم يعمل بمثله… إلى غير ذلك، فقد روى السلمي في طبقاته أن الإعجاب بالعمل يتولد من نسيان رؤية المنة فيما يجري الله لك من الطاعات[4].

والفرق بين من يعتمد على الله دون علمه وعمله: أنه لو بات قائما وغيره نائما إلى الصباح لم ير لنفسه مزية، فالعارفون والسادة المقربون قصروا نظرهم، وعكفوا بهممهم على امتثال أمر سيدهم، دون حظ عاجل، أو جزاء آجل، فهم مع الله تعالى ذاتا وصفات وأفعالا، وفي جميع حركاتهم كائنة ما كانت.

فإن كان ما يصدر منهم من قبيل الموافقات استغرقهم جماله وحسن أفعاله، ومع ذلك تصحبهم هيبة سطوات جلاله؛ لأنه حيث ظهر وصف الجمال فالجلال باطن، وحيث ظهر سلطان الجلال فالجمال باطن؛ لذلك لا ينفك خوف العارف عن رجائه.

وإن أقامهم في تجلي جماله أسكرهم شراب جماله، وأذهلهم لذيذ وصاله، وأدهشهم كماله… فهم بين رَوح مشاهدة الجمال وتهذيب الجلال.

وأما عامة الخلق فواقفون في مضيق الحجاب عندما يتوهمون صدوره عنهم أو كونه منهم؛ … فإذا نظروا إلى ما يبرز منهم في صورة طاعة عدوه أرجى بضاعتهم، وعمدة نُفاعتهم، وغابوا عن معونة الله لهم، وسابق هدايته لهم، وعظيم منته عليهم، وأجلُّها: إيجادهم بعد أن لم يكونوا، وتوالي إمداده، وإرسال أنبيائه وإنزال كتبه، وبسط أرضه ورفع سماواته، وتسخير موجوداته، {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} [النحل:18].

ومن جملتها: طاعتهم المنسوبة إليهم مجازا، وإن وقعت منهم زلت وحصلت منهم هفوة سلبتهم ما كان عندهم من الرجاء؛ لشهودهم صدورها عنهم، واستنادهم إلى حولهم وقوتهم؛ فرؤيتهم حولهم وقوتهم في إيجاد شيءٍ أيِّ شيء أشد من معصيتهم، والحزن المطلوب للعباد لا لكونهم لهم فيها حقيقة إيجاد واختراع، ولكن لكونها برزت على أيديهم؛ فهي من نوازل البلاء، وسطوات القضاء.

فإذا فهمت ذلك تبين لك حالات العامة ومقامات الخاصة، وما يعطيهم الحال من الفناء عن أفعالهم وأوصافهم وذواتهم، وحالات العامة وما تعطى من الحجاب، وما يقاسون من رؤية أنفسهم من النَّصَبِ والعذاب، فالعذاب: فرع عن ضرب الحجاب، قال الله تعالى: {كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون} [المطففين: 15]

فكن على كرم الـرحمن معتمــدا           لا تستند لا إلــى عــــلم ولا عمــل

ففضل ربــــك لا تمنعه معصية            ولا يضاف إلى الأغراض والعلل.

الهوامش

[1] سنن الترمذي، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة، رقم: 2687، ت: بشار.

[2] صحيح البخاري -واللفظ له-، كتاب: الأحكام، باب: أجر من قضى بالحكمة، رقم: 7141.

[3] بتصرف من “شفاء السقم وفتح خزائن الكلم في معاني الحكم” لأبي محمد علي باراس (ت:1094هـ) ط1/ 2016م، دار السنابل ودار الحاوي، ص:115-119.

[4] طبقات الصوفية، السلمي، مكتبة الخانجي – القاهرة، ط2، ص:177

Science

ذ. محمد المنصوري

باحث بمركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصة بالرابطة المحمدية للعلماء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق