مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةشذور

حكميات عطائية: “لاَ يُشَكِكَنَّكَ فِي الوَعدِ عَدَمُ وُقُوعِ المَوعُودِ وَإن تَعَيَّنَ زَمَنُهُ، لِئَلاَ يَكُونَ ذَلِكَ قَدْحاً فِي بَصِيرتِكَ، وَإخمَادًا لِنُورِ سَرِيرَتِكَ”.

أَرجع جُلُّ الشراح النظر إلى هذه الحكمة بمنظورين اثنين، الأول: الأعمية والثاني: البلاغة؛ إذ أن هذه الحكمة أعمُّ وأبلغ من التي قبلها أي قوله رحمه الله تعالى “لا يكن تأخر أمد العطاء مع الإلحاح في الدعاء سببا في يأسك…” وذلك من وجهين اثنين في كل نظر.

فبالنسبة لمنظور الأعمية؛

“أحدهما: أن الموعود في السابقة خصوص الإجابة، وهنا مطلق.

وثانيهما: أن الموعود في السابقة مقيد بعدم تعيين الزمان، وهنا عام، بدليل الإغياء.

أما بالنسبة لمنظور البلاغة فهي أبلغ من جهتين أيضا:

إحداهما: أن الشك مع تعيين الزمان أسرع وأقرب إلى الحصول، وصاحبه أعذر.

والثانية: أن الشك المنهي عنه هنا أدون وأضعف من اليأس، ولشدة حيرة النفس في هذه إذا تعين الزمان، أكد النهي بالنون الشديدة (لا يشككنَّك)، ونهى فيما تقدم عن اليأس، لأنه المرتب على تأخر العطاء مع الإلحاح، والوعد غير معلوم، ولذلك أعلم به، وهنا عن مطلق الشك لأنه معلوم، إذ النهي عن الشك فيه فرع الاطلاع عليه”[1].

والتشكك هو: “التردد في إيقاع الشك ونفيه لاضطراب النفس في موجبه، بحيث يقول: «الوعد صدق والزمان متعيِّن والموعود مفقود»  فيتحير في ذلك ويشك، وهذا من ضيق المعرفة، و الوقوفِ مع ظاهِرِ الوعد، دون نظرٍ إلى باطنِ الاتصاف؛ إذ لو اتسعت دائرته علم أَن ظاهر الوعد لا يقضي على باطنِ الصفة، فجزم بالوعد وراعى باطن الوصف بِتقديرِ تعلقِ الأمرِ بِشرطٍ ستره الحق عنه؛ إذ لا يجب عليه بيان ما يريدُ اشتراطَه ، بل يصح في الحكمة ستره، إبقاء لسمو الربوبِية في نظرِ العبد، واستبقاءً لأحكامِ العبودية عليه[2].

وصورة عدم تعيين الزمان ما وقع في قضية الحديبية؛ من الوعد بدخول المسجد الحرام وعدم الخوف، وقد رأى صلى الله عليه وسلم ذلك في نومه، فأخبر الصحابة فخرجوا لا يَشُكُّونَ في الفتح، فلما صدهم المشركون وصالحهم النبي صلى الله عليه، وتم عقد الصلح، قال المنافقون ما قالوا، ودخل المسلمين أمرٌ عظيم، فتداركهم الله بفضله، فتذكروا المعجزات القاطعة، والأدلة الساطعة بصدقه صلى الله عليه وسلم ، وأذعنوا وسلموا وأيقنوا أن نجح العافية في رأيه، فكان كذلك…”[3]

ولما تم عقد الصلح، قال سيدنا عمر للنبي صلى الله عليه وسلم: ألم تعدنا أنا نأتي البيت فنطوف به، فقال: هل قلت لك في هذا العام، قال: لا. قال: فإنك آتيه ومطوف به. فأجابه بأنه حيث لم يعين له زمان الموعود به فلا ينبغي له أن يتحير في الأمر، ولهذا قال سيدنا عمر: «فعملت لذلك أعمالا، أي فعملت لأجل تلك المقالة أعمالا من البر تكفرها»، ثم إنه صلى الله عليه وسلم خرج من العام القابل هو وأصحابه ودخلوا مكة، واعتمروا وأقاموا فيها ثلاثة أيام كما أخبرهم، وهو معنى قوله تعالى ﴿لقد صدق الله رسوله الرؤيا– الآية، [سورة الفتح آية 27][4].

أما صورة تعيين الزمان، مع تخلف وقوع الموعود عند حلوله فقد نهى عن الشك فيه لأنه قد يكون “مترتبا على أسباب وشروط غيبية أخفاها الله تعالى لتظهر قهرية عزته وحكمته”[5]، “وأن لله في الأمور علما استأثر به دون خلقه ، وليعلم أن هناك حكمة اقتضت التأخير أو كدم الوقوع؛ إما لتأخر شرط قد قدر مقارنته له في سابق علمه ونافذ حكمه ، فلا تتغير الحكمة الإلهية لأجل حظك وتحقيق مرادك”[6]، منها قضية سيدنا يونس عليه السلام حيث أخبر قومه بالعذاب لَما أُخبر به وفر عنهم، وكان ذلك متوقفا على عدم إسلامهم، فلما أسلموا تأخر عنهم العذاب[7].

وكذا قضية غزوة أُحُد، وَعَد الله بالنصر فيها، وأوقف ذلك على شرط ستره وهو الذِّلَّة، وعدم الاعتماد على القوة، وكون القتال لإعلاء كلمة الله تعالى لا للدنيا، فلما افترقت الكلمة، وذهبت فرقة إلى الغنيمة، هُزِمُوا، ولذا قال تعالى ﴿ولقد صدقكم الله وعده إذ تَحسونهم﴾ [سورة آل عمران آية 152]. إلى قوله: ﴿منكم من يريد الدنيا[8]

وقضية نبينا صلى الله عليه وسلم يوم بدر حين دعا حتى سقط رداؤه وقال: “اللهم عهدك ووعدك، اللهم إن تَهْلِكْ هذه العصابة لَمْ تُعْبَدْ بَعْدَ اليوم”[9]، فقال له الصديق: حسبك يا رسول الله فإن الله منجز لك ما وعدك. فنظَرُ المصطفى أوسع لعدم وقوفه مع ظاهر الوعد، ووقف الصديق مع الظاهر، فكل على صواب والنبي صلى الله عليه وسلم أوسع نظرا وأكمل علما[10].

ومنها أيضا وعدُهُ تعالى بالنصر في غزوة الأحزاب، ثم إنه اشتد الأمر بالمسلمين حتى زاغت الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر، وصرح المنافقون بقولهم ﴿ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا﴾ [سورة الأحزاب آية 12]، وظن المسلمون بالله الظنونا؛ وهي الخطرات النفسية التي خطرت لهم مما لا ينفك البشر عنه، من غير توطين النفس على ذلك، وذلك أنه تعالى شرط لِما وعد به شرطا ستره عنهم بمقتضى حكمته، وهو الابتلاء والاختبار حتى يتميز الخبيث من الطيب، كما قال ﴿هنالك ابتلي المومنون وزلزلوا زلزالا شديدا﴾ [سورة الأحزاب آية 11]، فلما حصل الشرط حصل المشروط…فهزم المشركون من غير قتال[11].

“فالموعد صادق والوعد حق، فلا يشك العبد في وعد سيده ومولاه، وليطمئن إلى وعده، ويعلم يقينا أنه واقع ليس له مانع، قال الله جل ذكره: ﴿ألا إن نصر الله قريب  وقيل في هذا المعنى:

فلا تشك فـي الـــــــموعود إن له               وقتا متى حان جاء بالفتــح والــفــرجِ

لا تخمدن لـــنـور الـسـر واعـزله              من همك أو شكك المقــــرون بالحرجِ

کم ما تضيق أمـــر العسر كان له             من الفرج مخرج والضيق منفرجِ”[12]

[1] شرح ابن زكري على الحكم العطائية، ص:124، تحقيق ودراسة: العلمي طارق. مرقون.

[2] شرح الشيخ زروق على الحكم العطائية، ص:31، تحقيق: عبد الحليم محمود، مؤسسة دار الشعب، 1985م.

[3] شرح الحكم لابن زكري، ص:124.

[4] الروض الأنف: عبد الرحمن السهيلي، تحقيق عبد الله المنشاوي، (4/ 55)، دار الحديث، ط. 1429ﻫ/2008م.

[5] إيقاظ الهمم في شرح الحكم، ص: 42.

[6] شفاء السقم وفتح خزائن الكلم في معاني الحكم، للشيخ باراس، ص:136.

[7] إيقاظ الهمم في شرح الحكم لابن عجيبة الحسني، ص: 42-43 بتصرف.

[8] شرح الحكم لابن زكري، ص:126

[9] فتح الباري شرح صحيح البخاري، كتاب: المغازي، باب: قول الله تعالى: “إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين” 7/ 336.

[10] إيقاظ الهمم، ص:43.

[11] شرح الحكم لابن زكري، ص:125.

[12] شفاء السقم، ص:137.

Science

ذ. محمد المنصوري

باحث بمركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصة بالرابطة المحمدية للعلماء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق