مركز الدراسات القرآنيةشذور

تأملات في آيات الخلق الأول: ارتباط خلق الإنسان بالعلم، والعلم بخلق الإنسان

قال الله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ . وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ . قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ . قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ ۖ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ [البقرة: 30-33].
﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ ﴾؛ أي نائبا لي ووكيلا عني يتصرف وفق إرادتي، وكلمة خليفة في الأرض تعني نائبا أو ممثلا لله. والمفروض أن الخليفة يتصرف وفق ما يأمره به ويريده من استخلفه، لكن الأمور لا تسير هكذا على أرض الواقع إذ عم الفساد والشر ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ﴾ [الروم: 421]. فالشائع أن الله أخرج آدام وحواء من الجنة عقابا لخطيئتهما لما أكلا من الشجرة.
لكن بالانتقال إلى الآية التالية وتأملنا سؤال الملائكة: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾ سنجد أن هذا السؤال يثيره كل واحد منا جهرا أو سرا في نفسه: “لما ذا خلقت هذا الإنسان وأمددته بالقدرة على القيام بالأعمال السيئة والأفعال الشنيعة والإفساد في الأرض؟ كما قالت الملائكة بالضبط ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾. لماذا خلقت هذا الكائن العدواني وأنت قادر أن تخلقه مهيأ فقط لعمارة الأرض بالأعمال الصالحة؛ كما خلقت الملائكة التي تسبح بحمدك وتقدس لك؟
إن الملائكة سألت أحد أكثر الأسئلة أهمية في تاريخ الأديان كلها، لماذا خلق الله الإنسان الذي هو مخلوق مخطئ وعاص؟ هذا المخلوق الذي يتمرد على أوامر الله، وينحرف عن صراطه المستقيم وهديه القويم، بينما يمكن جعله من جنس الملائكة. فكأن الملائكة قالوا: لماذا لم تجعلهم مثلنا وتسكنهم في الجنة معنا يسبحون بحمدك ويقدسونك ليكونوا خاضعين تماما لإرادتك؟ لماذا تضعهم في الأرض حيث سيشعرون بالبعد عنك؛ وحيث سيغويهم الشيطان ويشعرون بالاستقلال والحرية لفعل ما يحلو له، ويعيثوا في الأرض فسادا أكثر من أي مخلوق آخر.
فالمتأمل في سؤال الملائكة يجده يتضمن السر الكامن في خلق الإنسان، فكأن هذا السؤال اعتصر حياة الإنسان، وأخرج السؤال المناسب الذي يجعله يتذلل للحصول على إجابة: لماذا خلق الله إنسانا متمردا مخطئا بينما يمكن خلقه ملائكة لا يعصونه ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون؟
ثم انظروا إلى الإجابة: ﴿قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾، كأنه قال بوضوح: إني أعرف جيدا ما أفعل. فهذا الجواب غير منتظر، فالقارئ ينتظر أن يجاب عن السؤال المحير لكل البشرية منذ بدايتها لا أن يقال بكل سهولة: “إني أعلم ما لا تعلمون”.
وإذا انتقلنا للآية الموالية: سيبدأ الإنسان يكتشف أن القرآن لم يتهرب من الإجابة على السؤال، بل إن قوله: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ هو بداية الجواب، وهنا يتطلع الإنسان إلى معرفة ما يعلمه الله ولا يعلمه، فالإنسان في عمره كلها يسعى لا كتشاف مجاهله التي يعلمها الله ولا يعلمها هو.
لا حظوا في قوله: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ ارتباط تسمية آدم للأشياء بالإجابة على السؤال الفلسفي السالف؛ لذا فالمطلوب قراءة هذه الآيات بتمعن؛ لأنها تحتوي على الكثير من المعاني: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾، وهنا ندرك أن آدم ليس فقط مخلوقا يمكنه تسمية الأشياء، بل إنه أيضا مخلوق يتعلم؛ لأن الله علمه الأسماء هنا، ومن هنا يتضح أن أول ما سيؤكد عليه القرآن هنا هو قدرة الإنسان المعرفية، فهو مخلوق معرفي يتعلم.
وما ذا يتعلم؟ وما أعظم المعارف التي يحظى بها؟
من سؤال الملائكة نعرف أنها نعمة اللغة؛ لأنه بفضل اللغة يمكن للإنسان تعلم أشياء خارج نطاق خبراته الشخصية، وإنما من خلال خبرات أشخاص آخرين تفصله عنهم آلاف الأميال أو عاشوا قبل ألاف السنين؛ ومن ثم تصبح معارفنا تراكمية، كل جيل يتعلم من الجيل الذي سبقه؛ فيسهم الجميع في معرفتنا التراكمية. فالقرآن يؤكد على ذلك مرارا وتكرارا، حيث يقول: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ . خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ . اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ﴾ [العلق: 1-3] لماذا هو الأكرم ؟ ما النعمة العظيمة التي أكرم بها على عباده؟ هي نعمة العلم والمعرفة ﴿الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ . عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ [العلق: 4-5].
القرآن يحفز المسلمين بشدة على استخدام قدراتهم المعرفية، فنجده يُقسم بالعلم والمعرفة ﴿ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ﴾ [القلم: 1]، ويأمرهم باستخدامها بشكل صحيح؛ لأن المعرفة تقوم بدور أساس في تسخير الكون وعمارته وتدبير أموره وفق إرادة الله ومشيئته.
فالملائكة أثارت التساؤل البديهي بشأن خلق هذا الإنسان؛ إلا أن الله تعالى أظهر لهم أن هذا المخلوق البشري كائن متعلم، لديه الكثير من الهبات المعرفية ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ التي تفتقدها الملائكة، قائلا لهم: وإذا كنتم صادقين في اعتراضكم على خلق هذا الإنسان، فأنبئوني بأسماء هذه الأشياء؟ ﴿فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾. فما ذا كان رد الملائكة في الآية الآتية: ﴿قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾؛ أي إن هذا الاختبار يفوق قدراتهم المعرفية، فهو يتطلب معرفة وحكمة تتخطى حدود إدراكهم، وهم يؤكدون على ذلك بقولهم: ﴿لَا عِلْمَ لَنَا﴾ هذا الامتحان يتطلب علما ومعرفة لا يمتلكونها ﴿ إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴾، فالكائن البشري وهبته هذه القدرة الهائلة. فأمر الله آدم أبا البشر أن يخبرهم بأسماء هذه الأشياء. فأخبرهم بذلك آدم.
﴿قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ ۖ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ﴾.
إن القرآن يعود في هذه الآية للإجابة على سؤال الملائكة. يقول الله لهم: نعم لديكم بعض التخوفات والمحاذير على خلق هذا الكائن البشري؛ لأنه في نظركم يفسد ويسفك الدماء. نعم يمكنه فعل بعض الأشياء السيئة، ولكن أنظروا إلى هذه القدرة المعرفية الهائلة عنده، وهذا شيء لم تلتفتوا إليه ولم تضعوه في الاعتبار.
إن القرآن في هذه الآيات يتناول أكثر القصص الوجودية في التاريخ البشري، ويطوعها ويستخدمها لإيصال رسالته. قال تعالى: ﴿أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ﴾، وبتعبير آخر: ألم أقل لكم إني أعلم ما لا تعلمون؟ ثم يقول: ﴿وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ﴾. وهنا يتساءل المرء ما الذي أظهروه وما الذي أخفوه؟ وما الذي يبديه سؤالهم هذا وما الذي يخفيه؟ لنعود إلى السؤال وننظر مرة أخرى، إنه يظهر الجانب السيئ والشرير للجنس البشري، وهذا أمر واضح. لكن ما الذي يخفيه سؤالهم؟ فبعد التفكير سيظهر أن الجنس البشري نعم يمكنه ارتكاب الأخطاء والشرور والتسبب في البؤس، ولكنه يمكنه فعل العكس تماما، فكما يمكنه فعل الشرور يمكنه كذلك فعل الأمور الجيدة والأعمال الفاضلة؛ يمكنه أن يكذب ويظلم كما يمكنه قول الصدق والتزام الحق والعدل، يمكنه أن يكون قبيحا جدا أو أن يكون طيبا جدا، فالملائكة من خلال سؤالهم يظهر أنهم رأوا نصف حقيقة الجنس البشري وجهلوا نصفها الآخر.
فالذي يتأمل هذه الآيات يدرك أنه لا ينبغي أن يكون مستاء من حياة الشر التي يعيشها، فحياتنا مليئة بأمثلة من الناس الطيبين، لكن نحن نركز على الناس الخبثاء، فنرى جانبا واحدا من الحقيقة الإنسانية، والحمد لله الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم.

Science

د. مصطفى اليربوعي

باحث بمركز الدراسات القرآنية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق