مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات عامة

بلاغة السكوت في حديث عقد النكاح (الحلقة الثانية)

لقد بنيت على السكوت أمور شرعية تخص حياة المسلم كعقد النكاح في الفقه الإسلامي، ومنه حديث نكاح «البكر والثيب» أو «الثيب واليتيمة» برواياته المختلفة التي يقف عليها الناظر في كتب تخريج الأحاديث، ومنها:

– «وَإِذْنُهَا السُّكُوتُ»(1).

– «إِذْنُهَا إِذَا هِيَ سَكَتَتْ»(2).

– «أَنْ تَسْكُتَ»(3).

– «سُكُوتُهَا رِضَاهَا»(4).

– «فَإِنْ سَكَتَتْ فَهُوَ رِضَاهَا»(5).

– «وَإِذْنُهَا الصُّمُوتُ»(6).

– «وإذنُها صُماتُها»(7).

– «وَصَمْتُهَا إِقْرَارُهَا»(8).

– «رِضَاهَا صَمْتُهَا»(9).

– «فَإِنْ سَكَتَتْ فَقَدْ أَذِنَتْ»(10).

وقد وردت هذه الأحاديث في أبواب متفرقة منها: باب في النكاح، وباب لا ينكح الأب وغيره البكر والثيب إلا برضاها، وباب استئذان الثيب في النكاح بالنطق والبكر بالسكوت، وباب ما جاء في استئمار البكر والثيب، وباب ما جاء في إكراه اليتيمة على التزويج، وباب في الاستئمار، وباب استئمار الثيب في نفسها، وغيرها.

ونمثل لبعض هذه الروايات ليتم استحضارها أثناء التحليل؛ ففي حديث نكاح البكر في «صحيح مسلم»: «عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا، وَالْبِكْرُ تُسْتَأْمَرُ، وَإِذْنُهَا سُكُوتُهَا»»(11)، وهذا في الفرق بين نكاح البكر والثيب أو الأيم حسب بعض الروايات، ونص نكاح اليتيمة كما في «مسند أحمد»: «عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تُسْتَأْمَرُ الْيَتِيمَةُ فِي نَفْسِهَا، فَإِنْ سَكَتَتْ فَهُوَ إِذْنُهَا، وَإِنْ أَبَتْ فَلَا جَوَازَ عَلَيْهَا»»(12)، وفي صفة نكاح الثيب واليتيمة، ما نصه في «صحيح ابن حبان»: «عن ابن عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَيْسَ لِوَلِيٍّ مَعَ الثَّيِّبِ أَمْرٌ، وَالْيَتِيمَةُ تُسْتَأْمَرُ، وَصَمْتُهَا إِقْرَارُهَا»»(13).

وللتفصيل في بلاغة السكوت في عقد النكاح نقف عند ثمانية عناصر مترابطة، وهي كالآتي:

الأولى: «الثّيِّبُ»، كصَيِّب، من النِّسَاء: المرأَةُ الَّتِي تزوّجت وفَارَقَت زَوْجَهَا(14).

أما «الأيم»، فذهب علماء الحجاز وكافة الفقهاء إلى أن المراد بها هاهنا: الثيب التى فارقها زوجها، واستدلوا بأنه أكثر استعمالاً فيمن فارق زوجه بموت أو طلاق، وبرواية الأثبات أيضاً فيه الثيب مفسرًا، وبمقابلته بقوله: «والبكر تستأمر فى نفسها». فدل أن الأول من عدا البكر وهى الثيب، وأنه لو كان المراد بالأيّم كل من لا زوج له من الأبكار وغيرهن، وأن جميعهن أحق بأنفسهن، لم يكن لتفصيل الأيّم من البكر معنىً(15)، وصرح الزبيدي أيضا في شرحه للقاموس أن المقصود بالأيم في قَول النبيّ صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وسلَّم: «الأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِها»؛ الثَّيِّب لَا غَيْر.

و«البِكْرُ»، بِالْكَسْرِ: العَذْرَاءُ، وَهِي الَّتِي لم تُفْتَضَّ(16). وقال النووي: «وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْبِكْرِ إِذْنُهَا صُمَاتُهَا فَظَاهِرُهُ الْعُمُومُ فِي كُلِّ بِكْرٍ»(17).

وأما رواية «اليتيمة» فتردّ إلى معنى «البكر» جمعًا بين الروايات(18)، قال المناوي: «واليتيمة يعني البكر كما يفسره خبر الأيم»(19)، وقال العظيم آبادي في تفسير قوله صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وسلَّم: «تُسْتَأْمَرُ الْيَتِيمَةُ»: «وَالْمُرَادُ هُنَا الْبِكْرُ الْبَالِغَةُ سَمَّاهَا بَاعْتِبَارِ مَا كانت كقوله تعالى (وآتوا اليتامى أموالهم) وَفَائِدَةُ التَّسْمِيَةِ مُرَاعَاةُ حَقِّهَا وَالشَّفَقَةُ عَلَيْهَا فِي تَحَرِّي الْكِفَايَةِ وَالصَّلَاحِ فَإِنَّ الْيَتِيمَ مَظِنَّةُ الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ»(20)، وذكر الخطابي أن العرب ربما ادعت الشيء بالاسم الأول الذي إنما سمي به لمعنى متقدم ثم ينقطع ذلك المعنى ولا يزول الاسم من ذلك أنهم يسمون الرجل المستجمع السن غلاماً وحد الغلومة ما بين أيام الصبى إلى أوقات الشباب(21). وقيل: المرأةُ لا يزوُل عنها اسْمُ اليُتْم ما لم تَتَزوّج فإذا تَزَوّجَتْ ذَهَبَ عنها(22).

وَقد قَابَلَهَا بِالثَّيِّبِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ حُكْمَهُمَا مُخْتَلِفٌ(23).

الثانية: ورد التعبير عن عدم النطق في هذه الأحاديث بالسكوت تارة وبالصمت تارة أخرى، والمغزى منهما واحد؛ إذ هما خلاف النطق المشترط في الثيب، قال البغوي في «شرح السنة»: «وَاتَّفَقُوا على أَن الْبكر إِذا استُؤذنت فِي النِّكَاح، يُكتفى بسكوتها، وَيشْتَرط صريحُ نطق الثّيّب، وَقيل: السُّكُوت من الْبكر إِذن فِي حق الْأَب وَالْجد، فَأَما فِي حق غَيرهمَا من الْأَوْلِيَاء فَيشْتَرط النُّطْق، وَالْأَكْثَرُونَ على أَنَّهُ إِذن فِي حق جَمِيع الْأَوْلِيَاء»(24).

كما ورد التعبير عن القبول والموافقة بألفاظ مختلفة: كالرضا والإذن والإقرار.

الثالثة: قال ابن حجر: «عِلَّة الِاكْتِفَاءِ بِسُكُوتِ البِكْرِ هُوَ الحَيَاءُ»(25)، وذلك لقول عائشة رضي الله عنها: «فَقُلْتُ لَهُ فَإِنَّهَا تَسْتَحْيِي»، وقد كانت أمنا عائشة رضي الله عنها أعلم ببنات المسلمين وطباعهم المبنية على شدة الحياء، وذلك: أنها قد تستحي أن تفصح بالإذن، وأن تظهر الرغبة في النكاح، فيستدل بسكوتها على سلامتها من آفة تمنع الجماع، أو سبب لا يصلح معه النكاح(26).

قال النووي: «وَأَمَّا الثَّيِّبُ فَلَا بُدَّ فِيهَا مِنَ النُّطْقِ بِلَا خلاف سواء كان الولي أبا أو غيره لِأَنَّهُ زَالَ كَمَالُ حَيَائِهَا بِمُمَارَسَةِ الرِّجَالِ»(27)، وفي المقابل «يشْتَرط صريحُ نطق الثّيّب»؛ لأن الثيب ليست كالبكر في شدة الحياء فيلزمها النطق بالكلام.

والبكر اليتيمة أشد حياء من غيرها لأنها إن أفصحت فَلِغَيْر أبيها، وإن سكتت فُهِم عنها وعُلِم مرادها، فكان تخصيص البكر على وجه العموم بهذا الحكم ينِم عن جانب من اللطف عظيم، ألا ترى أن سكوتها عن النطق يحفظ لها حياءها وهو في الوقت نفسه يفصح عن إقرارها ورضاها؛ فيكون بذلك أبلغ من الكلام الذي تنتفي معه خصلة الحياء، ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم واعيا بأمور أمته مراعيا لكل الفئات، يختار لكل فئة ما يناسبها من الأحكام، وما يوائمها من دقيق الاعتبارات؛ والحياء من أخلاق المرأة الكريمة منذ الأزل قال تعالى: (فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا) [القصص:25]، كما أنه صفة عظيمة في الإسلام, وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الحَيَاءُ لاَ يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ»(28)، وقال أيضا: «إن لكل دين خلقًا، وخلق الإسلام الحياء»(29)؛ فهذا الدين مبني على الحياء, ومن لا حياء عنده فلا دين له، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا لَمْ تَسْتَحْيِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ»(30)، وفي صفته قيل: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ العَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا»»(31).

وهذا منه صلى الله عليه وسلم مراعاة لتمام صيانتها، ولإبقاء حالة الاستحياء، والانقباض عليها، بأن ينظر لها في ذلك المحل ما هو أصون لها، وأليق بها، فإنها لو تكلمت تصريحًا لظن أن ذلك رغبة منها في الرجال. وهذا غير لائق بالبكر، بل هو مُنقِصٌ لها، ومُزَهِّدٌ فيها، بخلاف الثَّيب(32).

ألا ترى أن الإسلام حفظ للبكر حياءها وحفظ لها حقها في اختيار شريك حياتها في الآن نفسه …

الرابعة: جعلوا السكوت دليل الرضا والقبول، قال ابن الأثير: «وقد يعلم إذنها بسكوتها، لأن السكوت من أمارات الرضى»(33)، وفي «جمهرة الأمثال»: «السكوت أخو الرضا»(34)، لكن هذا السكوت ليس سكوتا مطلقا كما سنرى.

الخامسة: إن الاستدلال على رضا البكر بالسكوت الإيجابي لا يعفي من اعتبار بعض القرائن التي تسهم في توجيه الدلالة، وتبين عن الغرض؛ قال الصنعاني: «وَالْأَوْلَى أَنْ يُرْجَعَ إلَى الْقَرَائِنِ فَإِنَّهَا لَا تَخْفَى»(35)؛ وقد تنبه العلماء إلى هذه القرائن فسجلوها ومن ذلك ما ذكره ابن حجر قال: «وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إِذَا لَمْ تَتَكَلَّمْ بَلْ ظَهَرَتْ مِنْهَا قَرِينَةُ السُّخْطِ أَوِ الرِّضَا بِالتَّبَسُّمِ مَثَلًا أَوِ الْبُكَاءِ فَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ إِنْ نَفَرَتْ أَوْ بَكَتْ أَوْ قَامَتْ أَوْ ظَهَرَ مِنْهَا مَا يَدُلُّ عَلَى الْكَرَاهَةِ لَمْ تُزَوَّج وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ لَا أَثَرَ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي الْمَنْعِ إِلَّا إِنْ قَرَنَتْ مَعَ الْبُكَاءِ الصِّيَاحَ وَنَحْوَهُ وَفَرَّقَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ الدَّمْعِ فَإِنْ كَانَ حَارًّا دَلَّ عَلَى الْمَنْعِ وَإِنْ كَانَ بَارِدًا دَلَّ عَلَى الرِّضَا»(36).

وفرقوا أيضا بين ضحك الإقرار وضحك الاستهزاء والإنكار، قال بدر الدين العيني: «والضحك رضَا دلَالَة، فَإِنَّهُ عَلامَة السرُور والفرح بِمَا سَمِعت. وَقيل: إِذا ضحِكت كالمستهزئة لم يكن رضًا بِخِلَاف مَا إِذا بَكت فَإِنَّهُ دَلِيل السخط والكراهية(37).

والتبسم والبكاء مع انقباض أسارير الوجه تعبيرات وجهية تدخل في دلالة الحال المنبئة عن المقال، ويتوجب بناء على ذلك معرفة دلالات هذه التعبيرات التي تدخل في باب الإشارات الوجهية ودلالاتها التي تواضع عليها العرب في تراثهم لأن بدون ذلك يبقى فهم الرِّسالة وتَبَيُّنُهَا ناقصا لم يكتمل.

ومما يدل على أن العرب تعتني بمثل هذه القرائن ما روي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ العَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا» حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، وَابْنُ مَهْدِيٍّ، قَالاَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ مِثْلَهُ، وَإِذَا كَرِهَ شَيْئًا عُرِفَ فِي وَجْهِهِ»(38)؛ فمعرفة الكراهة في الوجه هو من هذا الباب.

وهذا يعني أيضا أن السكوت عن النطق لا يعني السكوت عن الإبانة مطلقا، وإنما هو سكوت عن وسيلة من وسائل البيان وهي الكلام، أما الإبانة بوسائل أخرى لها اعتبار مهم في الدلالة فمما ينبغي أن ينظر إليه، ومما ينبغي أن يأخذ بعين الاعتبار أيضا في إصدار الأحكام.

السادسة: قال ابن حجر: «قَالَ بن الْمُنْذر يُسْتَحَبُّ إِعْلَامُ الْبِكْرِ أَنَّ سُكُوتَهَا إِذْنٌ لَكِنْ لَوْ قَالَتْ بَعْدَ الْعَقْدِ مَا عَلِمْتُ أَنَّ صَمْتِي إِذْنٌ لَمْ يَبْطُل الْعَقْدُ بِذَلِكَ عِنْدَ الْجُمْهُور وأبطله بعض الْمَالِكِيَّة وَقَالَ بن شَعْبَانَ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهَا ذَلِكَ ثَلَاثًا إِنْ رَضِيتِ فَاسْكُتِي وَإِنْ كَرِهْتِ فَانْطِقِي وَقَالَ بَعْضُهُمْ يُطَالُ الْمَقَامُ عِنْدَهَا لِئَلَّا تَخْجَلَ فَيَمْنَعَهَا ذَلِكَ مِنَ الْمُسَارَعَةِ»(39)، وَقَدْ اسْتَحَبَّ مَالِكٌ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ المَاجِشُون أَنْ تَعْلَمَ الْبِكْرُ أَنَّ إذْنَهَا صُمَاتُهَا لِئَلَّا تَجْهَلَ ذَلِكَ فَتَصْمُتُ فِي الْكَرَاهِيَةِ(40)، وليكون ذلك زيادة في تعريفها، وتنبيهًا لها على ما يخاف أن تجهله. وذكر القرطبي أنه «قد كان بعض من لقيناه من الفقهاء يقول لها بعد عرض الزوج والمهر عليها: إن كنتِ راضية فاصمتي، وإن كنت كارهة فتكلَّمي. وهو تنبيه حسن»(41).

فالمقصود بهذا الإعلام هو: المواضعة على دلالة هذا السكوت حتى يكون بليغا في هذا المقام بعينه، فإذا علمت البكر أن إذنها في سكوتها؛ إذ هو دليل الإقرار والرضا كان سكوتها بعد سؤالها لإمضاء عقد النكاح مُبِينًا عما لم تنطق به العبارة.

وقول ابن حجر: «لَوْ قَالَتْ بَعْدَ الْعَقْدِ مَا عَلِمْتُ أَنَّ صَمْتِي إِذْنٌ»: معناه أنها تجهل دلالة هذا السكوت؛ وهذا الجهل يؤثر على العملية التواصلية التي يُفترض أنها تقوم على المواضعة الدلالية بين الأفراد.

السابعة: ولزيادة التبيين استحسن بعض العلماء ربط دلالة السكوت بقرينة زمنية قال: «والأحسن أن يجعل لموافقتها بالسكوت أجلا، تعلم به أنها بعد انتهاء مدته يعتبر سكوتها إذنا منها وموافقة»(42).

الثامنة: وَضْعُ السكوت في حال الرضا مقابل النطق في حال الكراهة مطلوب، «قال ابن حبيب: وقد ساوى الشارع بين البكر والثيب في مشاورتهما في نفسهما ولم يفرق بينهما إلا في الجواب بالرضى، فإنه جعل جواب البكر بالرضى في صماتها لاستحيائها، وجعل جوابها بالكراهة لذلك في الكلام، فإنه لا حياء عليها في كراهيتها كما يكون الحياء في رضاها، ولم يلزم الشارع الثيب بالصمات حَتَّى تتكلم بالرضى؛ لمفارقتها في الحياء حال البكر؛ لما تقدم من نكاحها»(43).

وعلة ذلك ما تقدم من أن العرب تجعل السكوت علامة للرضا، وهذا يستوجب أن تكون حالة الكراهة على خلاف ذلك، فكان النطق علامة على تلك الحالة لأنه خلاف السكوت؛ ذلك أن اختلاف الحالتين يستوجب اختلاف العلامتين أيضا.

والعلة الثانية -والله أعلم- أن المعترض الرافض والكاره قد لا يسكت عن الكلام ليعبر عن رفضه وكراهته بوسيلة أخرى، وجعل بعضهم معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «وإذنها سُكُوتُها»: «أى ودليل رضاها بالزواج هو عدم معارضتها»(44)، وروي عَنْ مَالِكٍ أَنَّ إنْكَارَهَا بِالْقَوْلِ دُونَ الصَّمْتِ وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْقَاسِمِ أَنَّهَا إنْ نَفَرَتْ أَوْ بَكَتْ أَوْ قَامَتْ أَوْ ظَهَرَ مِنْهَا مَا يَدُلُّ عَلَى كَرَاهِيَةِ النِّكَاحِ فَلَا تُنْكَحُ مَعَ ذَلِكَ(45).

لأن كلام المعترض في ذلك المقام خير من سكوته؛ فهو يحتاج إلى الدفاع عن موقفه وإقامة الحجج الناجعة، بحيث لا يكون السكوت قادرا على الإبانة عن ذلك، ومتى كان الكلام في موضعه خير من السكوت صار الكلام مبينا أكثر، وفي المقابل لا يحتاج التعبير عن الرضا في الغالب إلى تبرير هذا الموقف لأن مجرد الإبانة عن ذلك بإشارة دالة تواضع المجتمع على دلالتها الإيجابية يكتفى بها؛ من هنا كان السكوت أخو الرضا فهو قرينه في الغالب، وأقرب ما يكون إليه، ولأن «المقصود من السكوت هنا هو ما لم تظهر معه أمارات الكراهية وعدم الرضا لأنَّ الأصل المقصود هو طلب رضاها وموافقتها»(46).

وبالنظر إلى هذه العناصر أقول: إن سكوت البكر عن صريح النطق بموافقتها على عقد النكاح بعد إعلامها بأن إذنها في سكوتها وذلك من قبيل المواضعة وهي قرينة دلالية، لعلة الحياء وهي قرينة مقامية، مع انتفاء قرائن الحال الدالة على نقيض ذلك، ومع ربط دلالة هذا السكوت بقرينة زمنية، كل ذلك تتحقق من خلاله «بلاغة السكوت»…

وفيما يلي أنموذج تمثيلي لما تطرقت إليه في بيان بلاغة السكوت في عقد النكاح:

الهوامش:

1- سنن الدارقطني 4/347، [رقم: 3576].

2- صحيح مسلم 7/2544، [رقم: 1421]، مسند أحمد 42/25324، [رقم: 1889].

3- صحيح البخاري 5/1974، [رقم: 4843]، صحيح مسلم 2/1036، [رقم: 1419].

4- مسند أحمد 12/33، [رقم: 7131].

5- صحيح ابن حبان 9/392، [رقم: 4079]، المستدرك على الصحيحين 2/180، [رقم: 2702].

6- سنن ابن ماجه 3/71، [رقم: 1871]، سنن الترمذي 3/407، [رقم: 1107]، سنن الدارمي 3/1398، [رقم: 2232]، سنن الدارقطني 4/345، [رقم: 3574].

7- صحيح مسلم 2/1037، [رقم: 1421]، سنن أبي داود 3/438، [رقم: 2098]، مسند أحمد 2/442، [رقم: 1889]، الموطأ 1/569، [رقم: 1469]، صحيح ابن حبان 9/396، [رقم: 4084]، سنن الترمذي 3/408، [رقم: 1108]، سنن الدارمي 3/1398، [رقم: 2234]، سنن النسائي 6/84، [رقم: 3260]، سنن الدارقطني 4/346، [رقم: 3575].

8- صحيح مسلم 2/1037، [رقم: 1421]، مستخرج أبي عوانة 3/77، [رقم: 4256].

9- صحيح ابن حبان 9/394، [رقم: 4082].

10- مسند أحمد 32/277، [رقم: 1889].

11- صحيح مسلم 2/1037، [رقم: 1421].

12- مسند أحمد 12/496، [رقم: 7527].

13- صحيح ابن حبان 9/399، [رقم: 4089].

14- تاج العروس 2/114.

15- إكمال المعلم بفوائد مسلم 4/565.

16- تاج العروس 10/239.

17- شرح النووي على مسلم 9/204.

18- ذخيرة العقبى في شرح المجتبى 27/207.

19- فيض القدير 5/379.

20- عون المعبود 6/82.

21- معالم السنن 3/202.

22- النهاية في غريب الحديث والأثر 5/689.

23- فتح الباري 9/193.

24- شرح السنة 9/32.

25- فتح الباري 9/193.

26- جامع الأصول في أحاديث الرسول 11/464.

27- شرح النووي على مسلم 9/204.

28- صحيح البخاري 8/29، [رقم: 6117].

29- الموطأ 3/452، [رقم: 949].

30- صحيح البخاري 4/177، [رقم: 3483].

31- صحيح البخاري 4/190، [رقم: 3562].

32- المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم 4/117- 118.

33- جامع الأصول في أحاديث الرسول 11/460.

34- جمهرة الأمثال 1/521.

35- سبل السلام 2/174.

36- فتح الباري 9/193.

37- عمدة القاري شرح صحيح البخاري 20/129.

38- صحيح البخاري 4/190، [رقم: 3562].

39-  فتح الباري 9/193.

40- المنتقى شرح الموطإ 3/267.

41- المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم 4/117- 118.

42- تيسير العلام شرح عمدة الأحكام ص: 579.

43- التوضيح لشرح الجامع الصحيح 24/422.

44- فقه الإسلام «شرح بلوغ المرام من جمع أدلة الأحكام» 6/230.

 45- المنتقى شرح الموطإ 3/267.

46- فقه الإسلام «شرح بلوغ المرام من جمع أدلة الأحكام» 6/227.

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق