مركز الدراسات القرآنيةدراسات عامة

الوحدة البنائية في القرآن المجيد

التفسير و(الوحدة البنائيَّة)

فإذا انتقلنا إلى (التفسير) وما يمكن للوحدة البنائيَّة أن تحدثه فيه، فسنجد أنّها سوف تدخل عليه تغييرات جوهريَّة. فالتفسير يعد أول المعارف الإسلامية حيث بدأ بعض الصحابة يمارسونه في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد سن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لهم في ذلك حين كان يفسر لهم القرآن بالقرآن ذاته، أو يقوم بتنفيذ وتطبيق ما يوحى إليه ليبين لهم.

وقد كان ينبغي أن يتخذ ما قدمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منهاجاً لا يحيد المفسرون عنه، بل يبنون عليه، وإذا كان لابد من إضافة شيء فليكن من القرآن ذاته، أو ينبغي أن يربط بالقرآن الكريم ربطاً محكماً.

فسائر القضايا اللُّغوية كان ينبغي أن يكون الحَكَم فيها القرآن ذاته ولغته وأساليبه فلا يفسر القرآن بدواوين الجاهليّة، ولا بتراث بني إسرائيل، ولا بلغة البدو، بل تكون لغته هي المهيمنة على اللّغة العربيّة، وتكون اللّغة العربيّة تابعة للغته. يبني لسان القرآن قواعدها كلها انطلاقاً من لغته. ومن الطريف أن نذكر نموذجاً يوضح ما حدث. لقد وضعوا أحكام النحو والتصريف والاشتقاق وغيرها وفقاً للغة العرب، بل إن معاني الكلمات والعبارات قد حددت وفقاً لمراد العرب بها، فهذه الكلمة يحدد معناها العرف القرشي، وتلك يحدد معناها لسان بن تميم وتلك لهجة هذيل… إلخ. ولو أن لغة القرآن الكريم كانت مثل لغات هذه القبائل مبنى ومعنى، فأين هو الإعجاز؟ ولِم انبهروا به؟ وكيف أدركوا تفوقه وعجزوا عن الاستجابة لتحدّيه المتكرّر؟ إن الاتفاق في المباني، واستيعاب المعاني وتجاوزها، والسموَّ بها إلى تلك الآفاق التي جعلت من مفردات القرآن مفاهيم تتجاوز كل ما تعارفوا عليه في لغاتهم ذات المعاني المحدودة محدوديَّة آفاق فكر العربيّ ـ آنذاك ـ والبسيطة بساطة حياته وبيئته هي التي جعلتهم يجدون في آيات القرآن أموراً لم يألفوها، ومعاني لم تخطر لهم قبل نزول القرآن على بال، ولذلك قالوا في البداية: إنَّه شعر، ثم قالوا: إنّه سحر ثم قالوا: إنَّه شيء يفوق طاقاتنا، ويستغرب أن يأتي على لسان واحد منَّا فهو إما كلام كهان أو سحرة، أو تنزلت به الشياطين… أو أنَّها من تعليم بشر من غيرنا… أو… أو.

والله تبارك وتعالى قال: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ [سورة إبراهيم، الآية: 5]، فلو كان القرآن نازلاً بلغات العرب ـ كما هي حقيقتها ـ مبنى ومعنى لما احتاجوا إلى بيان النبي صلى الله عليه وسلَّم.

إن العرب قد رأت في الكتاب الكريم مثل ما رأته في رسول الله صلى الله عليه وسلَّم؛ فهو منهم يعرفون نسبه وحياته وأسرته وسائر التفاصيل المتعلقة بذلك، ولكن انفصاله عنهم فيما يستحيل عليهم أن ينالوه بكسبهم البشريّ، وهو النبوة والرسالة وتلقي الوحي عن الله تعالى سبَّب لهم الصدمة، ودفعهم إلى كل تلك التساؤلات والحيرة حتى أدرك من آمن منهم إمكان ذلك، فآمنوا بأنه بشر رسول. وهكذا صار القرآن بالنسب عربيّ اللُّغة ولكنّه وحي إلهيّ وكلماته تجمع بين سمات اللغة ومضامين الوحي، بل إنّ الوحي قد أعاد إنتاجها ـ إن صح التعبير ـ فالكلمة المستعملة فيه لم تعد كلمة قريش أو تميم أو هوازن أو هذيل، بل هي كلمة الله تعالى. ولذلك فإنَّنا نستطيع أن نجد أمثلة كثيرة جداً لمفردات استعملها القرآن، وطور معانيها، وفتح الكلمة على آفاق من المعاني ما كانت معروفة أو مستعملة لدى العرب. وهذا لا يعني إحداث قطيعة بين لسان القرآن واللسان العربيّ فالنصّ على عربيّة القرآن لا يحتمل التأويل، إن المراد أن يعرف تفوّق لسان القرآن على اللسان العربيّ المألوف كما لا يعني ذلك أن نهمل سائر المعاني اللُّغوية التي كانت متداولة أو معروفة وقت النزول، بل علينا أن ندرك كيف كانت تلك المعاني بسيطة ساذجة معبرة عن مستوى فكر العربيّ في تلك المرحلة فجاء القرآن ليشحنها بمعان لم تكن معهودة من قبل، ولا تندرج تلك المعاني تحت الفكر الإنسانيّ وقدراته.

فكل الكلمات الشرعيَّة مثل (الإيمان والصلاة والزكاة والصيام والحج، والكفر والشرك والنفاق، وما إليها) كانت لها معان بسيطة في الاستعمال العربي الجاهليّ فقام القرآن بتنقيتها وشحنها بالمعاني التي أراد لها أن تحملها وتشتمل عليها، فتطويع تلك الكلمات لكل تلك المعاني بعض أوجه إعجاز القرآن الكريم.

خاتمة

وبعد: فإنّ “الوحدة البنائيَّة” ما تزال في حاجة إلى جهود يقوم بها متخصصون في مختلف فروع المعارف الإسلاميَّة واللّغويّة لتستوي على سوقها، وتبرز فضائلها ومزاياها. وتأخذ موقعها الهام بين “المحدّدات المنهاجيّة” التي تتألف منها “منهجيّة القرآن المعرفيَّة” سائلين العليّ القدير أن يوفق ويعين على استكمال هذه البداية. ويرزقنا السداد، إنّه ولي ذلك والقادر عليه.

الهوامش

_______________________________________
1. يرجى أن لا يفهم من هذا أننا ندعي إعجازاً في الألفاظ المفردة، بل نريد أن نؤكد أن تلاحم الكلمات في الآيات وتناسبها، وتلاحم الآيات مع نظيراتها، ثم السور مع أمثالها شبيه بتوافق الأحرف داخل الكلمة الواحدة، ولا فرق من حيث التناسب والتوافق والانسجام.
2. جزء من حديث عليّ رضي الله عنه الذي قمنا بتخريجه في بداية الحلقة الثانية “الجمع بين القراءتين” في هذه السلسلة فارجع إليه.

  1. أشرنا إلى أن هذه الجملة قد شاع تناقلها عن الإمام علي رضي الله عنه وفي نقلها عنه نظر، وراجع هامش (رقم: 5، ص: 21) من حلقة “الجمع بين القراءتين” سلسلة “دراسات قرآنية”.
    4. راجع هذا ونحوه في هامش (رقم:1، ص: 23) من حلقة “الجمع بين القراءتين” سلسلة “دراسات قرآنيَّة”.
  2. راجع الحلقة الثانية من هذه السلسلة “الجمع بين القراءتين”.
  3. كل هذه مصطلحات لمباحث أصوليّة، قد ترد في مباحث “علوم القرآن” في المطولات منها.
    7. عن: أسرار ترتيب القرآن، ص: 39 – 40. وراجع: إعجاز النظم القرآني، التناسب البياني، أحمد أبو زيد، ص: 6، منشورات كلية الآداب في الرباط، 1992. والإتقان، السيوطي، 2 / 108.
    8. للإمام الرازي كتاب “نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز” تبنّى فيه “نظرية النظم” ومع ذلك فإنه سار فيه على نهجه في كتبه الأخرى التي ألف أن يستعين فيها بالمنطق والطرق الفلسفية والتفريع على أصول المسائل والاستطراد الكثير. فلم يلتفت بقدر كاف إلى ما يتعلق بجمال النص وروعة النظم، وإعجاز أساليب التعبير، وهو جوهر قضية النظم. وكذلك فعل في تفسيره حيث رأيناه يتجه الوجهة ذاتها.
    9. لإتقان، السيوطي، 2 / 108، ولابن عاشور تحفظ قريب من هذا راجعه في المقدمة الثانية، 1 / 27.
  4. راجع: النبأ العظيم، عبد الله دراز، فصل: القرآن في سورة منه – الكثرة والوحدة، ص: 142 – 163. وقد قدم رحمه الله في هذا الفصل منهجاً للكشف عن وحدة السورة قدم به لدراسته للوحدة البنائية في السورة التي اختارها نموذجا تطبيقيا كشف به عن الوحدة في سورة البقرة. وراجع مقارنا: التناسب البياني في القرآن، د. أحمد أبو زيد، ص: 49 – 51، لتجد قراءة د. أبو زيد لجهود، د. دراز وتلخيصه لمنهجه التطبيقي كما برز في سورة البقرة.
  5. راجع مقدمة: دلائل الإعجاز، عبد القاهر الجرجاني. وقد أكد على أن “النظم” ليس سوى تعليق الكلم ببعضها، ثم شرح ذلك بإسهاب ودلّل عليه. فنظرية النظم عنده قائمة على النحو، منبثقة عنه.
  6. خطوات التفسير البياني، مصدر سابق، ص: 206.
  7. انظر مناقشته لشبهات من جعلوا الفصاحة للألفاظ: دلائل الإعجاز، مصدر سابق، ص: 299 وما بعدها. وقارن بتحليله الدقيق لدور المفردات في ص: 33 وفي ص: 341.
  8. المرجع نفسه، ص: 21 وما بعدها.
  9. المرجع نفسه، ص: 39 – 44.
  10. المرجع نفسه، ص: 25. والمراد “بالصرفة” أنّ الله تعالى صرف العرب عن معارضة القرآن الكريم ولازم هذا القول: أنّ المعارضة ممكنة لولا هذا الصرف الإلهيُّ عنها.
    17. المرجع نفسه، ص: 333.
  11. المرجع نفسه، ص: 38.
  12. المرجع نفسه، ص: 43.
  13. نفسه، ص: 43.
  14. انظر التفسير ورجاله: محمد الطاهر بن عاشور، ص: 49. وكون الجاحظ من المعتزلة لا يقلل من أهميةَّ جهوده وريادتها في هذا المجال. حتى وإن استهدف بذلك الانتصار لمذهبه الكلاميّ. وكون عبد القاهر من الأشاعرة وأنّه أراد بذلك الانتصار لمذهبهم لا يقلّل من أهميَّة إبداعه في هذا المجال. وكل منهما قد شيد جانباً من جوانب النظرية أو أخذ بواحدة من عضَّادتي الباب.
    22. راجع: مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، ابن هشام الأنصاري، وحاشيته للشيخ الأمير، 1 / 185. وقد مرّ كيف علمهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذا المنهج في القراءة، فتأمل!!! هذا وقد مرت إشارتنا إلى تحفظ العز بن عبد السلام، وابن عاشور.
  15. تطلق “الأسئلة النهائيّة” على مجموعة من التساؤلات الإنسانية التي تجيب العقيدة عليها، وهي من أنا من أين جئت، وإلى أين أنا ذاهب وماذا بعد؟! وهي أسئلة ناجمة عن قلق تدفع فطرة الإنسان إليه ليبحث ويأخذ طريقه إلى معرفة خالقه سبحانه، وهي ذاتها التي كان الفلاسفة الأوائل يطلقون عليها “العقدة الكبرى”.
  16. عبارة شاعت في كتب الأصول، خاصّة في مباحث الاستدلال “لحجيَّة القياس” وردّدها بعض الكلاميّين كذلك. وعلماء الفرق.

.

.

.

الصفحة السابقة 1 2 3 4 5
Science

الدكتور طه جابر العلواني

• رئيس المجلس الفقهي بالولايات المتحدة الأمريكية سابقا
• رئيس جامعة قرطبة الإسلامية بوشنطن سابقا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق