مركز الدراسات القرآنيةدراسات عامة

الوحدة البنائية في القرآن المجيد

آثار (الوحدة البنائية)

للوحدة البنائية باعتبارها محدّدا منهاجيّاً من محدّدات (منهجيَّة القرآن) آثار على جانب كبير من الأهمية على سائر العلوم والمعارف النقلية، وحين يجرى توظيفها بشكل منهجي دقيق فإنها سوف تقدم للمنشغلين بهذه العلوم والمعارف وسيلة من أكثر الوسائل فاعليَّة في مراجعة ونقد التراث الإسلامي كله وفي مقدمتها ما يعرف (بعلوم المقاصد) وهي التوحيد، أو الكلام، والتفسير، وأصول الفقه، وعلوم الحديث، والفقه.

وفي هذه الفقرة من البحث سنحاول تقديم أمثلة ونماذج وجيزة تمثل إشارات لتلك المراجعات، القائمة على إدراك (الوحدة البنائيَّة) لعلها تكون معالم تعين الباحثين على مواصلة تلك المراجعات لتنقية التراث وتصحيح المسار.

التوحيد و(الوحدة البنائية)

علم التوحيد الذي صار يعرف بـ(علم الكلام) كانت مهمته الأولى أن يهتم ببيان حقائق الإيمان ـ كما جاء القرآن المجيد بها ـ وأركانه ودقائقه وكيف يجمع بين الإيمان والعمل، وتعليم المؤمن كيف يصون هذا الإيمان، ويجعله راسخا يقينياً على الدوام ويقيم على أساس منه متين تصوره بسائر مقومات الإيمان وخصائصه، ويؤسس على قواعد الإيمان (رؤيته الكلية) و(فرقانه): ﴿يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ [سورة الأنفال، الآية: 29]؛ فالإيمان هو القاعدة والمنطلق الذي يفرق به بين الخير والشر والحق والباطل في كل شأن.

كما يفترض بهذا العلم أن يحرس أركان العقيدة القرآنيَّة من أن يتسرب إليها ما ليس منها من تراث الأوائل أو ما إليه فتتحول إلى إطار مفتوح يدخله اليقينيّ، وما ليس بيقينيّ فتخفت أنوارها، ويضعف تأثيرها، وتفقد فاعليتَّها. ذلك لأنَّ للعقيدة الفاعلة المؤثّرة خصائص عديدة، في مقدمتها أن تكون أركانها قطعيَّة لا يتطرق الظن أو الاحتمال إلى شيء منها، وأن تكون محدودة جداً وواضحة جداً. وفي متناول الجميع مهما اختلفت مستوياتهم وقدراتهم على الاستيعاب. وفي الوقت نفسه لابد لها أن تكون عامة شاملة قادرة على الإجابة على جميع الأسئلة أو ما يطلق عليها (الأسئلة النهائيّة)[23] أو ما أطلق عليه الفلاسفة الأوائل (العقدة الكبرى)؛ ذلك لأن الإجابات الشافية عن هذه الأسئلة ـ هي التي تحرر وجدان الإنسان وعقله ونفسه من سائر أنواع الحيرة والضغوط التي تعيق حركته، وتقيِّد إرادته، وتشل فاعليَّته وتجعله تائها في غابات متشابكة من الأفكار والرؤى، والمعضلات والتفسيرات.

كما أنَّ من شأن العقيدة الفاعلة أن تقدم حلولاً، لا أن تفرز مشكلات. ولقد كان هذا شأن القرآن حين قدم للبشريَّة الإيمان ودعاها إلى التوحيد. لقد استعمل القرآن المجيد لتأييد دعواه تلك مجموعة من الأدلة التي يفهمها الناس على اختلاف مستوياتهم في الفهم والإدراك والثقافة والخبرة والتجربة وهي أدلة تستفز سائر قوى الوعي والإدراك في الإنسان وفي مقدمتها (دليل الخلق) ثم (دليل العناية) ثم (دليل الإبداع) و(دليل التمانع) وما إلى ذلك من أدلة تزخر آيات الكتاب الكريم بها. وكان القرآن يقدم دعاواه، ويقدم الأدلة على صدقها، ويتحدى المخاطبين أن يجدوا ثغرة ينفذون منها إلى أي من هذه الأدلة بمعاول هدم، أو معارضة، أو ممانعة. فإذا فرغ من ذلك، وجرد معارضيه من أسلحتهم. ذكر شبهاتهم وحرَّرها بأقوى ما عرضت به من أساليب، ثم كر عليها لتفنيدها بأساليب لا تبقى لها أثراً يذكر؛ بل إن طريقة عرضها، ثم تفنيدها تصب على الدوام في صالح القرآن المجيد، لأن المعارض ينبهر بطريقة القرآن بالإحاطة بكل ما صدر عنه، أو حاك في نفسه، أو زوَّره في خاطره، ويأتي جواب القرآن بأساليبه المتنوعة ليجد المعارض نفسه في حالة اندهاش تام، بحيث لا يملك إلا الانقطاع أو الاستسلام أو الانسحاب بهدوء مذموماً مخذولاً. فإذا حاول بعد ذلك أن يداري هزيمته بشكل أو بآخر فإنه لن يجد إلا الشغب الصريح الذي يتحول إلى سلاح ضده لا عليه.

وقد استعرضنا التوحيد حقيقته وتجلياته المختلفة باختصار في كتابنا الوجيز (التوحيد) باعتباره أعلى القيم القرآنيَّة العليا الحاكمة وأساسها. وقد طبع عدة مرات. فلا نطيل في هذه التفاصيل فلما انتهى جيل التلقي، وبدأت نِحَل ومِلَل تظهر بأسماء لم يألفها القوم بعدُ ظنّوها نحلاً جديدة، تطرح شبهات محدثة، وما هي بمحدثة ولكن هذا ما ظنّوه. ولو تدبَّر الناس القرآن الكريم لوجدوه قد ناقش ذلك ـ كله ـ وفنَّده، وقال في سائر تلك النحل بما فيها (النحل المعاصرة) كلمته، وحسم أمرها.

ولكن القوم ظنوا أنها لحداثتها تحتاج إلى أساليب وفنون أخرى لمناقشتها وتفنيدها وحماية العقائد الإسلامية من أضرارها وأخطارها. فتطور (علم التوحيد القرآنيّ) إلى (علم الكلام) وصار يعنى بالمنطق اليوناني ووسائله لبناء التصورات والتصديقات، وطرائقه في إقامة البراهين ويعنى بالفلسفة اليونانية كذلك بمدارسها المختلفة ليواجه بها تلك الشبهات فآلَ (علم التوحيد) إلى (علم كلام) مهمته إيراد الشبهات المختلفة ومناقشتها بأساليب الفلسفة وطرائق المنطق باعتبار أن الخصم لا يؤمن بالقرآن فلا يمكن إقامة الحجة على الخصم بما لا يؤمن به، ولا يلتزم بمقولاته. ولم يلتفت جل علماء الكلام إلى أن الفلسفة اليونانية وغيرها من الفلسفات لم تحسم أية قضية من القضايا المثارة. وبقيت تلك المسائل في دائرة الثنائيَّات المتصارعة حتى يومنا هذا.

كما أن فريقاً منهم ظنوا أن الجدل في (قضايا الغيب وعالم الأمر) التي تشكل جوهر القضايا الكلامية قد لا يختلف كثيراً عن الجدل في القضايا الفقهية فلم يجدوا حرجاً في استعمال الأساليب ذاتها في تلك القضايا الخطيرة التي حسمها القرآن كلها وبلغ بها الغاية، وأوصل المهتدين بها إلى الثلج وبرد اليقين. ولعل هؤلاء ومن إليهم ـ هم الذين عناهم الإمام الشافعي يرحمه الله بقوله: «لا تتجادلوا في الكلام؛ فإنّكم إن تجادلتم في الكلام كفّر بعضكم بعضاً، فإن كنتم لا بد فاعلين فتجادلوا في الفقه فإن قصارى ما تبلغونه أن يخطئ بعضكم بعضاً».

لكن الكثيرين قد استمرؤوا ذلك الجدل، فإذا بكل تلك اليقينَّيات القرآنية تصبح مادة جديدة للجدل، دون استثناء، وتحولت موضوعات الفلسفة اليونانية والمقولات الإنسانيّة المندثرة إلى هذا العلم الجديد، وفي مقدمتها ما يتعلق بالذات الإلّهية، والصفات العليّة، وحقائق النبوات والجبر والقدر، ومصادر الفعل الإنسانيّ، بل وحقيقة الفعل الإنساني، وما إذا كان فاعله الحقيقي الله، والإنسان مجرد مظهر وشكل يقع الفعل منه ظاهراً، في حين أنه لا فعل له في الحقيقة والواقع أو أنّه هو المنشئ لفعله؟

كما اختلفوا في الأسباب والعلل أهي أسباب على سبيل الحقيقة أم هي مجرد أشكال ظاهرة لا تأثير لها والمؤثّر الحقيقي يختفي وراءها، وقعوا في الخلط بين المشيئة الإلّهية والمشيئة الإنسانيّة، وبين الإرادة الإلهّية والإرادة الإنسانية. وهكذا فكك علم الكلام الأمّة التي بناها القرآن المجيد ليجعل منها فرقاً وشيعاً وأحزاباً، واستعملت الأحاديث الموضوعة والضعيفة مثل حديث (افتراق الأمة) للتأصيل لتلك الأحوال الشاذة، فروت الفرق ـ كلها ـ حديث افتراق الأمة وتداولته حتى منحته شهرة لا يستحقها، لأن كل فرقة وجدت فيه ضالتها لتستدل به على أنها الفرقة الناجية والأمة كلها هالكة، والحديث ضعيف لا يمكن العثور له على سند صحيح، ولكن المنشغلين بهذه الأمور أقاموا على ذلك الحديث (الذي لا يصمد له متن ولا سند أمام معاول النقد العلمي الدقيق ووفق قواعد المحدثين أنفسهم) أقاموا علماً قائماً بذاته سموه (علم الملل والنحل) مازالت الكليَّات والجامعات المعنيَّة بالعلوم والمعارف النقليّة تقيم له الأقسام، وتمنح دارسيه الذين يتلقونه بالقبول كمن سبقهم شهادات الماجستير والدكتوراه والأستاذيّة وألقاب الحجة -حجة الإسلام، وآية الله… وكل قضايا (الكلام والملل والنحل) يقتطع المتناحرون فيها آيات من كتاب الله تعالى عن سياقاتها، ويبترونها من نظمها ووحدتها ونسقها ليجعلوا منها موضع شاهد فقط لما يذهبون إليه، ولا يعدم كل فريق وسيلة لحملها على ما يريد، وتفسيرها بما يجعلها شاهداً ملائماً لمذهبه، مؤيِّداً لوجهة نظره، وما أنزل القرآن العظيم ليتخذ شواهد لمقولات القائلين، ولذلك شاعت تلك المقولة الخطيرة ورددها المرددون وهي: (أن القرآن حمال أوجه) ونسبوا ذلك إلى الإمام علي كرم الله وجهه ورضي عنه وما كان لمثله أن يقول ذلك، وعنه روي حديث (القرآن باعتباره المخرج من الفتن) كما أخرجه الترمذي وغيره. كما أشيعت مقولة أخرى، هي: (أن النصوص متناهية والوقائع غير متناهية)[24] ليسوغوا لأنفسهم وضع مرجعيات أخرى إلى جانب القرآن المجيد. ففي مجال الكلام أعطوا للمنطق سلطة غير عادية حتى سماه الغزالي (معيار العلم) و(القسطاس المستقيم)، وصرح بأنَّ من لا يتقنه لا يعتد بعلومه. والكتابان مطبوعان متداولان.

كل ذلك وكثير غيره -مما يحتاج تتبعه وبيانه إلى دراسات مفردة مستقلة- قد حدث، لأن هذا النوع من المعرفة ما كان ينبغي أن يؤخذ من غير القرآن في وحدته، لا في تعضيته وتقطيعه.

فإذا أردنا التخلص من بعض هذا التراث المصاب، وتنقية ما يبقى منه، وتطهيره مما علق به، وتخليص العقل المسلم والوجدان المسلم من تلك الآثار الخطيرة فلا نجاة لنا إلا بعرضه كاملاً على القرآن في وحدته البنائيّة، ومراجعته ونقده والتصديق عليه في نور القرآن المجيد وهدايته. وإعادة بناء التوحيد والإيمان على القرآن، وتأسيس العقيدة على هديه. ويومئذ يفرح المؤمنون بالخروج من حالات التمزق والاحتراب إلى حالة الألفة التي كان القرآن قد أوصلهم إليها ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُم إِذْ كُنتُم أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا…﴾ [سورة ال عمران / الآية: 103]. لقد تفرقت الأمة من بعدما جاءتها البيّنات، وسقطت في أمراض الأمم السابقة. وما كان لذلك أن يحدث وبأيمانها نوران: ذكر وسنّة.

هذا الذي أجملناه هناك يمكن لأساتذة وطلبة (علوم العقيدة) وأقسامها أن يفصلوه في بحوث ودراسات تكشف عن تلك الإصابات الخطيرة التي تجعل الباحث يعجب كيف استطاعت هذه الأمة أن تعيش كل هذا الزمن الطويل رغم إصابتها بكل تلك الأمراض الخطيرة؟! إنه لا يغني عن الأمة شيئاً أن ينشغل أساتذة وطلاب هذه الأقسام بتحقيق المخطوطات، وتوكيد وبعث وإحياء تلك المقولات وهم يعلمون أنها لو كانت أو كان فيها خير لنهضت بالأمة من قبل، ولما كان حال الأمَّة هذا الذي هي عليه اليوم. إن هذه الأقسام مطالبة أكثر من غيرها بعمليات المراجعة لذلك التراث كله وعرضه على هداية القرآن الكريم الموحد للتصديق عليه بالقرآن والهيمنة عليه به، وإنقاذ الأمة وتطهير عقولها وقلوبها من إصاباته.

الصفحة السابقة 1 2 3 4 5الصفحة التالية
Science

الدكتور طه جابر العلواني

• رئيس المجلس الفقهي بالولايات المتحدة الأمريكية سابقا
• رئيس جامعة قرطبة الإسلامية بوشنطن سابقا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق