مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات عامة

البَيانُ في سُورةِ الفَلقِ : (بَيانُ الجَهْرِ)

…ومنْ ذلكَ آياتُ سُورةِ (الفَلَقِ). وهيَ سورةٌ غلبَ عَليها أصواتٌ قويّةٌ ذاتُ جَهرٍ وشِدّةٍ واسْتِعْلاءٍ.خاصّة في أوَاخر الفَوَاصلِ الّتي تَنتَهي في الآيَات الخَمسِ بِحرُوف القَلقَلَة:(القَاف والبَاء والدّال) في (الفَلَق-خَلَق-وَقَب-العُقَد-حَسَد) والقَلقلَةُ منْ أقْوَى الصِّفاتِ في الحُرُوف، حَيثُ يُسمَع مَعهَا صوتٌ يَرفعُ الكُتلَة الصَّوتيّة ويَزيدُ منْ حجْمِها، فتبْدُو أَكثَر ظهُوراً منْ غَيرهَا.ويَسنُد هذهِ الشّدَّة والبُروزَ، حروفٌ ذاتُ اسْتِعلاءٍ وتَفخيمٍ كالخَاء والغَينِ.

وأنتَ تجدُ هَذا الجَهرَ وهذهِ الشِّدّة في السُّورةِ على عَكسِ مَا كانَ في سُورَة (النَّاس) منْ همسٍ ورخَاوَة؛ فهنَاك نَاسَبتْ تلكَ الأصواتُ صُورَة الشّرّ فيهَا، إذْ كانَ الشرُّ فيهَا خَفيّاً في بَاطنٍ يُوسوسُ في الصَّدرِ منْ دَاخلٍ مُستَتِراً خَانِساً. أمَّا الشّرُّ في هَذهِ السُّورَة فهوَ شرٌّ يَصدُرُ منْ بَارزٍ جَليٍّ، يُؤثّرُ علَى البَدَن منْ خَارجٍ. وهوَ  صادِرٌ عنْ شُرورٍ ثَلاثةٍ ظاهرَةٍ مَحسُوسَة : شَرِّ اللّيْل الـمُظلِمِ، وشَرِّ السَّاحرِ النَّافِثِ، وشَرِّ الحَاسدِ.

وأنتَ إذَا أنعَمتَ فيهَا نَظراً، أدْرَكتَ أنَّها كُلَّها، عَلى اخْتِلافِها، يَجمَعُها مَعنىً رَابطٌ، هوَ تلكَ الظُّلمَة  الّتي تَغشَى الإنسَانَ، وتُغمسُهُ فيهَا، فتُعطّل قُواهُ عنْ كَمَال الحَركَة وحُسْنِ التَّفكِير؛ فَاللَّيلُ ظُلمَةٌ، والسِّحْرُ ظُلمةٌ، والحَسَد ظُلمَةٌ. ولذَلكَ جاءَ التّعوُّذُ في هَذهِ السّورَة بصفَةٍ تُقابِلُ كُلّ تلكَ الظُّلُماتِ: (اللهُ رَبُّ الفَلَق)، في قولهِ تعَالى [قُلَ اَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ] وَأشهَرُ مَا ذُكرَ في مَعنَى (الْفَلَق)، أَنَّه هُوَ(الصُّبْحُ).ومنهُ قَولهُ تعَالى[فَالِقُ الِاصْبَاحِ]. وَالصُّبحُ يَأتي بالنُّور  وَالضِّيَاء. فيَكونُ (رَبُّ الفَلَق) هُوَ (رَبُّ النُّور).وتَنظرُ فَإذا بِـبَـيَانٍ خَفيٍّ لَطيفٍ يَنجَلي لكَ في ذَلكَ التَّقَابلِ البَديعِ بينَ الظُّلمَات والنُّور.فاللهُ تعَالى بقُدرَتهِ، يَشقُّ ظَلامَ اللّيلِ ليَخرُجَ منهُ نُورُ الصَّبَاح الَّذي يُبدِّدُ ظُلمَة اللَّيْل.

وهَكذَا فالّذِي أَخرَجَ منْ وحْشَةِ اللَّيْل وظُلمَتِه، أُنْسَ الإصبَاح وشَرْقَتَهُ، قادرٌ علَى أَنْ يَدفعَ عنِ العَائذِ بهِ، مَا يَخافُهُ منْ ظلمَة تِلكَ الشُّرورِ الثّلاثَة وأَذاهَا.فإذَا أنتَ ذهَبتَ تَستَقْصِي هَذهِ الدَّلالَة التَّقابُليّة في إِطلاقِهَا سبقَ إلَى ذهْنِكَ قولهُ تعَالى [اللَّهُ وَلِيُّ الذِينَ ءَامَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَـٰتِ إِلَى النُّورِ]، في سُنَّةٍ كُلّيّةٍ كَونيّةٍ منْ سُنَن اللهِ في خلقِهِ.

بعدَ هَذا الَّذي رَأينَا منَ البَيانِ في السُّورَتينِ، نَخلُص إلَى أنَّ هذَا التَّقَابلَ البَديعَ بينَ غَلبَةِ الهَمسِ في سورَة (النَّاسِ) وغَلبَة(الجَهرِ) في سُورَة(الفَلقِ)، لَأمْرٌ جَديرٌ بِفَضلٍ منَ النَّظَر. وأنتَ إذَا تَدبّرْتَ بِأَخِرَةٍ السُّورتيْنِ مَعاً، انكشَفَ لكَ وجهٌ بَيانيٌّ علَى أحكَمِ مَا يكونُ البَيَانُ؛ ذلكَ أنَّ الشّرَّ الجَليَّ الظّاهرَ في سورَة (الفَلقِ)، أهوَنُ خَطراً و أضعَفُ أثراً منَ الشّرّ الخَفيّ الباطنِ في سورَةِ (النَّاسِ).

فأنتَ تَرى أنَّ الشّيطانَ بوَسوَسَتهِ في صدُورِ الخَلقِ، وهوَ شرٌّ واحِدٌ، قَابَلتْهُ منْ صفَاتِ اللهِ في التَّعَوُّذِ ثَلاثٌ: الرَّبُّ والـمَلِكُ والإِلَهُ  فقَالَ تعالى: [قُلَ اَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلـهِ النَّاسِ]. بَينَمَا تَرى إزَاءَ ذَلك في سُورَة (الفَلَق)، أنَّ الشُّرُور الـمَذكُورَةَ فيهَا ثلاثَةٌ:(الغَاسقُ والنَّفّاثَات والحَاسدُ). فهيَ علَى تعدُّدهَا، واخْتلَاف ضُرُوبهَا وتَبَايُن آثَارهَا، لمْ تُقابِلْها في التَّعوُّذِ منْ صفَاتِ اللهِ إلّا صفَةٌ واحدَةٌ: الرَّبُّ. فقالَ تعالَى: [قُلَ اَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ].

وهَهُنَا أيضاً لَـمْسةٌ بَيانيّة لطيفَةٌ، يَنبَغي لَفتُ النَّظَر إليهَا؛ ذَلك أنَّ الشُّرُور الـمَذكورَةَ في ظَاهِرِهَا أرْبَعَةٌ، بقَولهِ تعَالى في الأوَّل:[مِن شَرِّ مَا خَلَقَ].لكنَّ هذَا شرٌّ عامٌّ مُجْمَل، تجدُ ذلكَ في عُمُوم دَلالَة الاسْمِ الموصُولِ (مَا). أي الاستِعَاذَة منْ كُلّ شرٍّ في أيّ مَخلوقٍ قامَ بهِ الشَّرّ، كائِناً مَا كانَ هذَا الـمَخلُوقُ. والثَّلاثَة داخلَةٌ فيهِ، رغمَ فَصْلهَا بالعَطفِ. وإنَّمَا أفرَدَهَا لتَفرُّدِهَا وبُلوغِها الغَايَة في بَابهَا، وشِدَّةِ أثَر الشَّرّ فيهَا. وهَذا منْ بَديعِ العَطفِ . فإذَا تمَثَّلتَ كلَّ ذلكَ، أدْرَكتَ أنَّ الشّرَّ الخَفيَّ الخَنَّاس معَ انْفِرَادهِ، هُوَ أبْلغُ أذىً منَ الشَّرّ الجَليّ معَ تَعدُّدِهِ. ولا عَجبَ فالشَّيطَانُ عَدُوٌّ مُضلٌّ مُبينٌ، لأنَّ وَسوَستَهُ تَستَهْدِفُ إفْسَادَ العَقيدَةِ منْ دَاخلٍ، بَينَمَا الشُّرُورُ الأخْرَى، تَتوَخَّى إفسَادَ البَدَنِ منْ خَارجٍ. و إِفْسَادُ العَقيدَةِ أشَدُّ خطراً وأبلغُ ضَرَراً مِنْ إِفسَادِ البَدنِ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق