مركز الدراسات القرآنيةدراسات عامة

الوحدة البنائية في القرآن المجيد

الوحدة البنائية ونظرية النظم عند الجرجاني

عبد القاهر الجرجاني يعدّ المتربع على القمة في الدراسات البلاغيَّة من غير منازع. ومنذ بدأنا دراساتنا النقليّة في مدارس المساجد واسما عبد القاهر الجرجاني والبلاغة يستدعي كل منهما الآخر، كما يستدعي المنطق اسم أرسطو، واسم أرسطو المنطق، وكما يستدعي اسم الإمام الشافعي أصول الفقه، واسم الأصول اسم الشافعي.

ودراسات الجرجاني دراسات عالم متكلّم أشعري فيلسوف نحويّ، وبتلك العقليّة اكتشف أن “علم النحو” قد انحرف المشتغلون به حين قصروا دوره على أواخر الكَلِم، وجعلوا موضوعه ذلك وحده. في حين أن عبد القاهر كان يرى أن مهمة “علم النحو” الأولى أن يؤدي بمن يمهر فيه إلى المعرفة الصحيحة بتركيب الجمل، وبناء أساليب الكلام، وترابط المعاني. وأن فائدته الأساس تبرز في تمكين الكاتب من الإتيان بالتعبير المحكم المتماسك من غير ضعف أو تفكّك، وأن العناية بأواخر الكلم وضبطها بالإعراب والبناء بأنواعهما هي وسيلة من الوسائل الهامة لتحقيق ذلك[11].

لكن الأصل هو أن يكون النحو وسيلة للكشف عن إعجاز النظم القرآني، ذلك أن عبد القاهر قد قام باستقراء لكل ما كان معروفاً في عصره من وجوه أو دلائل ـ كما سماها ـ تصلح أن تكون موضع “الإعجاز” في القرآن، فذكر كل وجه يحتمل أن يكون له دور في الإعجاز، وناقشه وعقّب عليه ليمارس عملية “سبر وتقسيم” في تلك الدلائل، “فبدأ يتساءل عن الكلمات المفردة في القرآن – هل يكمن فيها سر الإعجاز؟”[12] ثم حذف ذلك بعد أن قرّر أن الكلمات ملك مشاع للناس كافّة، لا يعجز أحد عن أن يأتي بمثلها، فمن المحال أن تكون هذه الكلمات المفردات موضع السرّ لهذا الإعجاز[13].

ثم انتقل إلى تركيب الحركات والسكنات في الجمل القرآنية، ونفى أن يكون لذلك أثر كبير في هذا الإعجاز[14]. وقد سخر الجرجاني سخرية مرّة ممن قال ذلك. وإذ قال فيمن جعل المفردات مجال الإعجاز: «فلو كان هناك شيء أبعد من المحال لكانت هذه الكلمات بمعانيها موضع السر لهذا الإعجاز…». وقد كانت سخريته أكبر وأمرّ فيمن رأى أن سرّ الإعجاز يكمن في الحركات والسكنات، فقد قال فيمن جعل سرّ الإعجاز في الحركات والسكنات في الجمل القرآنية: «إن مسيلمة وغيره قد تعاطوا ذلك في بعض ما عارضوا به القرآن فما انتهوا إلى شيء…»[15].

ثم تناول المقاطع والفواصل في الآيات، فبيّن أن الفواصل في الآي كالقوافي في الشعر، وقد قدر العرب على روائع القصيد دون أن يستطيعوا الإتيان بسورة من مثل القرآن. فإذا لم تكن الفواصل والمقاطع سرّ الإعجاز فلن تكون أيضاً الاستعارة والمجاز؛ لأن الاستعارة لا تشمل جميع الآيات، والقرآن معجز جميعه. ثم بلغ غايته حين بلغ مرحلة القول بـ”النظم” وكاد يحصر سرّ الإعجاز فيه، قال: «وكما يفتح لك الطريق إلى المطلوب لتسلكه، وتوضع لك القاعدة لتبني عليها… وجدت المعوّل على أن هاهنا نظماً وترتيباً، وتأليفاً وتركيباً، وصياغة وتصوّراً، ونسجاً وتحبيراً…»[16].

والرجل لا يترك الأمر عائماً، بل يبيّن لنا مراده بـ”النظم” بشكل دقيق: “ثبت الآن أن لا شك ولا مزيّة في أن ليس النظم شيئاً غير توخي معاني النحو وأحكامه فيما بين معاني الكلم. ثبت من ذلك أن طالب دليل الإعجاز من نظم القرآن إذا هو لم يطلبه في معاني النحو وأحكامه ووجوهه وفروقه، ولم يعلم أنها معدنه ومعانه، وموضعه ومكانه، وأنه لا مستنبط له سواها، وأن لا وجه لطلبه فيما عداها – غارّ نفسه بالكاذب من الطمع، ومسلم لها إلى الخدع، وأنه إن أبى أن يكون فيها كان قد أبى أن يكون القرآن معجزاً بنظمه، ولزمه أن يثبت شيئاً آخر يكون معجزاً به، وأن يلحق بأصحاب “الصّرفة”، فيدفع الإعجاز من أصله…”[17].

لقد حمل الجرجاني ـ بشدة ـ على أولئك الذين اهتموا بالألفاظ ونسبوا الإعجاز إليها في مواضع كثيرة من كتابه. فـ”الألفاظ عنده خدم المعاني، وتابعة لها، ولاحقة بها. وأن العلم بمواقع المعاني في النفس علم بمواقع الألفاظ الدالة عليها في النطق”[18].

فالألفاظ لا تتفاضل ـ من حيث هي ألفاظ مجردة، ولا من حيث هي كلمات مفردة ـ؛ لأن التفاضل من حيّز المعاني، دون الألفاظ. وأنها ليست لك حيث تسمع بأذنك، بل حيث تنظر بقلبك، وتستعين بفكرك، وتعمل رويّتك، وتراجع عقلك، وتستجد في الجملة فهمك…”[19].

ويزيد في بيان مراده بـ”النظم” فيقول: «لما كانت المعاني إنما تتبيّن بالألفاظ وكان لا سبيل للمرتِّب لها، الجامع شملَها إلى أن يعلمك ما صنع في ترتيبها بفكره إلا بترتيب الألفاظ في نطقه – تجوّزوا فكنّوا عن ترتيب المعاني بترتيب الألفاظ، ثم بالألفاظ بحذف الترتيب، ثم أتبعوا ذلك من الوصف والنعت ما أبان الغرض، وكشف عن المراد، كقولهم: (لفظ متمكّن) يريدون: أنه بموافقة معناه لمعنى ما يليه [صار] كالشيء الحاصل في مكان صالح يطمئن إليه. و(لفظ قلق ناب) يريدون: أن معناه غير موافق لما يليه [فصار] كالحاصل في مكان لا يصلح له، فهو لا يستطيع الطمأنينة فيه، إلى سائر ما يجيء صفة في صفة اللفظ وساق هناك أمثلة ونماذج كثيرة، وتحليلاً وافياً لدقائق بلاغية رائعة»[20].

مسيرة النظم والوحدة البنائية

لقد كان المفهوم العام لدلالة “النظم القرآني” على الإعجاز في الأجيال الأولى التي منّ الله تعالى عليها بأن تكون في جيل التلقي، ثم جيل الرواية معنى قائماً في العقول والقلوب والنفوس لم يتداول بحيث يتم إنضاجه، ووضعه في إطار المصطلحات والمفاهيم الفنيّة ـ شأنه شأن سائر الأمور المعرفيّة الكبرى ـ حتى جاء الجاحظ ليقع على مفهوم “النظم” ويكتب رسالة في “النظم القرآني” لم تصل إلينا، ولكن ضمّن بعض كتبه الأخرى المتداولة شذرات منها، وبعض الإشارات إليها، وتتابعت بعد ذلك الجهود لتبدو ناضجة سويّة على عهد عبد القاهر في كتابيه التأسيسيين: الدلائل والأسرار. وإذا كان عبد القاهر لم ينص على مفهوم “الوحدة البنائيَّة” فإن جهوده في بناء “نظرية النظم” قد شقت الطريق إليها، وأعطى كثيراً من الدلائل الدالة عليها، وقدم المعالم الموصلة إليها، ولحكمة الرجل وبُعد نظره أطلق على كتابه المفصِّل لنظرية النظم اسم (دلائل الإعجاز) ـ فهي في نظره “دلائل” على أوجه الإعجاز ـ كما أكّد الشيخ محمد الفاضل بن عاشور[21].

فإذا تابعنا المسيرة نجد أن أبا علي الفارسي (ت377هـ) من بعد الجرجاني يعبر عن ذلك المعنى ـ الوحدة البنائيّة ـ بشكل صريح صراحة ابن العربي في قوله آنف الذكر. ففي (مغني اللبيب) لابن هشام (761هـ) في مباحث (لا) أورد قول الشاعر:

أبى جوده لا البخلَ واستعجلت به   …   نعم من فتى لا يمنع الجود قائله

شاهداً، وذكر أقوال العلماء في تفسير البيت، وأقوالهم في كلمة (لا) فيه، فنقل فيما نقل قول أبي علي الفارسي في كتابه (الحجّة في القراءات) نقلاً عن أبي الحسن الأخفش قوله: فسّرته العرب (أي: البيت): أبى جوده البخل، وجعلوا “لا” حشواً. نقله عن الأخفش. ثم قال الشارح: وكما اختلف في “لا” في هذا البيت: أنافية أم زائدة، كذلك اختلف فيها في مواضع من التنزيل، أحدها قوله تعالى: ﴿لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ [سورة القيامة، الآية: 1] فقيل: هي نافية، واختلف في منفيِّها على قولين: أحدهما أنه شيء تقدم – وهو ما حكى عنهم كثيرا من إنكار البعث، فقيل لهم: ليس الأمر كذلك، ثم استؤنف القسم؛ قالوا: وإنما صح ذلك لأن القرآن -كله- كالسورة الواحدة، ولهذا يذكر الشيء في سورة وجوابه في سورة أخرى، نحو: ﴿وَقَالُواْ يَأَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ﴾ [سورة الحجر، الآية: 6] وجوابه: ﴿مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ﴾ [سورة القلم، الآية: 2]. وبعد أن فرغ من ذلك عاد لتوكيد ما نقله عن أبي علي الفارسي من أن القرآن كالسورة الواحدة[22].

والذي يهمنا من هذا النقل المطوّل نسبياً أن “وحدة القرآن البنائية” وأنه ـ كله ـ كالسورة الواحدة كانت أمرا معروفاً ومتداولاً في القرن الخامس الهجري، وأنها كانت بحيث يستفاد بها في التفسير والتأويل، وتوجيه بعض النصوص. وأن الحديث عنها لا ينحصر في دائرة بيان فضائل القرآن فحسب. بل هي مدخل منهاجي في التفسير والتأويل، وتوجيه النصوص التي تثار حولها إشكالات لغويَّة ونحويَّة. علماً بأن هذا المنهج القائم على النظر إلى القرآن في وحدته هو ما علَّمنا إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم من كل ما أثير من أسئلة واستشكالات في عهده، والتي عرفت بعد ذلك بـ”تفسير القرآن بالقرآن”.

وعلوم القرآن ـ مثل غيرها من علومنا ومعارفنا الإسلامية ـ أصابها التّوقف بعد تلك المرحلة. فلم تأخذ مدياتها واستمراريتها التي كان من الممكن أن تمنحها الامتداد والتوسع، واستيعاب العصور اللاحقة كما استوعبت ما سبقها. و”الوحدة البنائية” للقرآن المجيد لو أتيح لها من يبلورها في تلك المرحلة، وما يمكن أن تنعكس عليه من أمور لفتحت من العلم الإسلامي أبواباً كثيرة، وعادت عليه وعلى علوم القرآن ـ خاصّة ـ بفوائد منهاجية جليلة، ولحسمت كثيراً من الغبش الذي دار حول التنزيل، وأصلحت كثيراً من الخلل. فما يستقيم مع القول بالوحدة البنائية التسليم بأيَّ نوع من أنواع (النسخ) المدّعاة لمناقضته للوحدة البنائية. ولا يقبل القول بوجود أو جواز وقوع تعارض عقليّ أو واقعي بين نصوص الوحي بحيث تستدعي استخدام أسلحة الترجيح. ولما كانت علوم التفسير واتجاهاته أخذت الأشكال التي ورثناها على ما فيها. ولما أصاب العقل المسلم الكسل عن التّدبّر والتّعقّل والتّفكّر والترتيل والتلاوة ـ حق التلاوة، ولَمَا سقط في دركات الهجر للقرآن ليشابه أولئك الذين حُمّلوا التوراة فلم يحملوها حقّ حملها، ولأدرك أنه قد حملّ القرآن، وأنه مسؤول عن حسن حمله، والتمسّك به. وقدّر الله وما شاء فعل، والعلم أرزاق للأجيال مقدّرة كالأقوات ينزّلها الله تعالى للبشر بقدر. وإذا لم يلتفت إلى فعل من أنزل القرآن عليه، ويتشبث به بحيث يسود سائر المناهج فما بالك في العصور التالية؟!

الصفحة السابقة 1 2 3 4 5الصفحة التالية
Science

الدكتور طه جابر العلواني

• رئيس المجلس الفقهي بالولايات المتحدة الأمريكية سابقا
• رئيس جامعة قرطبة الإسلامية بوشنطن سابقا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق