مركز الدراسات القرآنيةدراسات عامة

الوحدة البنائية في القرآن المجيد

ضرورة الإيمان بالوحدة البنائيَّة

ولولا هذه “الوحدة البنائية” لما استوعب القرآن “خبر ما بعدنا” حيث استوعب مستقبل البشرية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ببيان السنن والقوانين التي تقود هذا المستقبل وتصوغه وتبنيه، فهو لا يحقق ذلك عليها بطريق التكهّن والنبوءات والرؤى والمنامات كما زعمت أمم سابقة. ولا بطريق قياس المستقبل على الحاضر وقياسهما بعد ذلك على الماضي كما يتخيل الماضويّون، بل بالكشف عن السنن والقوانين الحاكمة على البشريّة وحركتها، والتاريخ وحركته، والغاية التي يتجه الخلق ـ كله ـ إليها وفقا لتلك السنن والقوانين الصارمة. فهي قراءة علمية دقيقة للمستقبل لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، ولا يتطرق إليها الشك، فالله لا يهدي القوم الظالمين، ولا يهدي بهم. والظلم لا يختص بالطغاة بحيث يقضي المنطق أن يختص أولئك الطغاة بالعذاب، بل هو شامل عام في الحياة الدنيا، ونتائجه لا تستثني أحدا ﴿وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمُهْلِكِهِم مَّوْعِدًا﴾ [سورة الكهف، الآية: 58] ولا تختص بمن مارسوا الظلم الفعليَّ من الطغاة، بل تشمل أعوانهم ومؤيديهم، والمستسلمين لطغيانهم ﴿وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً﴾ [سورة الانفال، الآية: 25]. ولا يختص الظلم بعدم العدل في الحكم، بل يتجاوز ذلك بحيث يكون دَرَكَات – أعلاه الشرك ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [سورة لقمان، الآية: 13]. ولذلك أمر الله الجميع بالتزوّد بالتقوى والتحصن بها، فذلك يمكن أن يوقف الظلم ويردعه. يضاف إلى ذلك أن القرآن يحمل القيم العليا الحاكمة والقواعد الدستورية والقانونية التي تقدم للبشرية مصدراً واحداً موحّداً يشتمل على “حكم ما بينكم” بحيث يقضي على جذور وأسباب قيام النزاعات والاختلافات ليصبح “العدل” قاعدة، والانحراف عنه شذوذاً. ولا ينتظر إلى أن تقع المظالم والانحرافات ليتقدم لمعاقبة أولئك الظالمين طمعاً في ردع سواهم ـ كما تفعل الأمم المعاصرة ـ فليست العبرة بذلك، بل بتزكية وتطهير الإنسان والأسرة والمجتمع والبيئة ونظم الحياة كلها، بحيث يتضافر الجميع على محاصرة الشر ومصادره والتخلص منها.

وذلك -كله- يجري بقول “فصل ليس بهزل” وما ينبغي أن يتطرق ذلك إليه. فهو ليس “حمّال أوجه” بحيث يستطيع كل المتنازعين أن يضموه إلى صفوفهم فيفسره المدعي ومحاموه على هواهم ليحققوا بذلك مصالحهم، ويفسره المدَّعى عليه ومحاموه كما يريدون، وتحمله النيابة على أن يستجيب لدعواها، ويفسره القضاة بما يرون، ثم تتسلسل جهات التفسير والتأويل من استئناف ونقض وإبرام وفي كل ذلك تبدّد الجهود والأموال والأعمار، ويضيع العدل أو جزء منه في تلك المتاهات، وتدمّر الطاقات لعدم وجود “القول الفصل” ولذلك كان هذا القرآن مثابة المتقين، ومرجع الأبرار، ومنبع الهداية ومصدر النور، لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة ولا تتشعب به الآراء ولا تنقضي عجائبه؛ وهو العدل كله والحق كله والهدى الكامل والنور الشامل والمنهج الواضح.

ضرورة الوحدة للتدبُّر

إنه قرآن أراد قائله ومنزَّله تبارك وتعالى له أن يُقرأ ويُتدبَّر، ويتفكر فيه، ويعقله العالمون، ويرتّله المرتلون، ويتلوه التالون، ويتبعه المهتدون؛ فأودع الله تبارك وتعالى فيه كل ما يجعله جاذباً لأصناف الخلق كافَّة، مستدعياً لهم لقراءته، قادراً على صنع الدوافع والدواعي والإرادات لترتيله وتلاوته.
و”وحدته” تمثّل الركن الأساس في هذا -كله-، ولذلك فإنه مهما اتخذنا من الأساليب في الرجوع إليه فلن نستطيع أن نهتم بجانب من جوانبه، ونهمل الجوانب الأخرى. فإذا قلت: أنا قاض أو فقيه تهمني آيات الأحكام ـ وحدها ـ فاجمعوا لي كل ما بدئ بأمر أو نهي من الآيات لأتدبَّره وأستخرج القوانين والأحكام منه، فإنك لن تلبث إلا يسيراً لتدرك أن ذلك ـ وحده ـ لن يلبي حاجتك ولن تكشف لك آيات الأحكام عن دقائقها وقد فصلت الغصن عن الشجرة، فمعاني الآيات لن تسفر لك عن وجهها حتى تقرأها في سياقها وموقعها وبيئتها، تقلب طرفك وعقلك ولبك وفؤادك، وتصيخ السمع إلى نبضات الحياة في قلبك في ذلك ـ كله ـ ولن تبلغ الغاية، ولن تدرك المراد حتى تلاحظ سائر العلاقات بين الآية وبين القرآن كله ـ يقودك توفيق الله تعالى ويصاحبك اسمه في الرحلة التي حين تتذوقها فلن تستطيع التوقف عن مداومتها، لأن القرآن بناء محكم واحد، ونظم متفرد واحد، تسري فيه  ـ كله ـ روح واحدة تحوله إلى كائن حيّ يخاطبك كفاحا، ويشتبك معك في جدل شامل يجيب به عن تساؤلاتك، ويسقط عنك إصر شبهاتك، ويعيد تصميم تصوراتك وبناء قواعد ومنطلقات أفكارك، وتصحيح معتقداتك حتى يضعك على الصراط المستقيم لتستقيم على الطريقة، وتبلغ شاطئ الحقيقة. ولذلك قال الإمام الشافعي رحمه الله وهو ينبه إلى خطأ من تصوّر أن آيات الأحكام هي ما صدّر بأمر ونهي- قال: “ألا وإن في الأنفال أحكاما كثيرة”[4].

متى وكيف برزت بذور القول “بالوحدة البنائيّة”؟

ولذلك فإنه من الصعب أن نجد مفهوم “الوحدة البنائيَّة” في الإطار الذي نقدمه دائراً على ألسنة المتقدمين؛ فـ”جيل التلقي” من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم شغل بالتلقي والتطبيق، وهيمن ذلك على مجمل نشاط ذلك الجيل. كما أن إيمانهم بتحدَّي القرآن المجيد، وظهور استحالة الإتيان بمثله، أو بعشر سور مفتريات من مثل سوره، أو بسورة من مثله ـ كان من المسلَّمات البديهيَّة، فلم تبرز الحاجة في ذلك الجيل إلى النظر العقليّ والفلسفيّ الذي لم يكن قد ولد ـ بعد ـ في الساحة الفكريَّة الإسلاميَّة في قضية “التحدي” وحقيقته وعلام ينعكس، ولم يظهر البحث الفلسفيّ والبلاغيّ في الأوجه التي لم تعط للبشر فرصة الاستجابة لذلك التحدي، أو أوجدت فيهم العجز عن الاستجابة، فتلك أمور قد تأخر ظهورها والبحث فيها إلى القرن الثالث الهجري وما تلاه.

أما “جيل الرواية” الذي تسلّم الراية من “جيل التلقي” فقد استغرقه البحث عن الروايات وتتبُّعها وجمعها، فذلك هو التحدي الأكبر الذي واجه ذلك الجيل، وهو تحدّ لم يكن أقل خطورة من تحدي جمع الأمة ـ كلها ـ على مصحف واحد إمام. ذلك لأن القرآن المجيد كان مدوّناً محفوظاً في الصدور والسطور وسائر الوسائل المتاحة التي سخرها منزّل القرآن الذي تكفّل بحفظه من بين يديه ومن خلفه ومن فوقه ومن تحته. كما تكفل بإقرائه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإقراره في صدره فلا يُنسى ولا يضيع ولا يُخترق. كما تكفّل بجمعه وقرآنه. وليس كذلك المرويات والسنن والآثار التي لم يدون منها في العهد النبوي إلا القليل النادر، وكان تدويناً فرديّاً لم يخضع لمثل القواعد المنهجية التي خضع تدوين القرآن وجمعه لها، ذلك لأن المفروض فيها أن تدور حول القرآن دوران العلة والمعلول، والبيان والمبيَّن، فيحفظ ما اتَّصل بالقرآن منها، ويهيمن القرآن عليها، فلا تستقل عنه، ولا تنفصل عن مداره. ومع ذلك فقد استغرقت العمليَّات المشار إليها ذلك الجيل “جيل الرواية” بحيث انصرفت جهوده إلى جمع الروايات وتدوينها وتمحيصها وتصنيفها وجعلها ميّسرة لجيل الفقه وجيل النقد والميز والتحليل بعد ذلك.

أما “جيل الفقه” فقد انشغل بإنتاج الفقه، وتقعيد أصوله للاستجابة لمستجدات الحياة المتسارعة، وإعطاء الأحكام المناسبة للنوازل والوقائع لئلا تبقى واقعة من الوقائع دون حكم فقهي مكتسب ومستفاد من الأدلة الشرعية التفصيلية.

كما أن ـ هناك ـ من انشغل فيما عرف ـ آنذاك ـ بـ”الفقه الأكبر” الشامل لأصول الدين (علم الكلام) و(أصول الفقه) إضافة إلى (الفقه) ذاته، لأن الفكر الفلسفي والمستجدات بدأت تفرض نفسها وتستدعي البحث والدراسة والتحديد، وجلّ تلك البحوث كانت تستدعي النظر في الدليل الجزئيّ التفصيليّ، لا في القرآن ـ كلّه ـ باعتباره مصدراً منشئاً بكليّته ودليلاً كليّاً. ولم يكن خافياً أن أهم طرائق ووسائل النظر فيه هي تلك التي ترد الجزئيَّ إلى الكليّ، وتنظر في الكليّ نظراً مفاهيميّاً وتحليليّاً لتحقيق الاستفادة القصوى منه. ثم تربط ذلك ببيان السنة وتطبيقاتها، وبالكون وسننه انطلاقاً من منهاجية “الجمع بين القراءتين”[5]، لكنّ الوعي بهذا لم يأخذ حظه من التفعيل في تلك المرحلة، ثم تنبه العقل المسلم ـ بعد ذلك ـ إلى أنّ تفعيل هذه الرؤية أساس لا يستغنى عنه في فهم القرآن وحسن تفسيره، ودقة تأويله. ويتناول “الجمع بين القراءتين” الجمع بين القرآن والسنَّة الثابتة من ناحية، ثم بينهما وبين الكون من ناحية أخرى. وأن هذه الوحدة البنائية خطوة منهجية ضروريَّة وحلقة من سلسلة من المحدّدات والقواعد المنهاجيَّة ـ التي لو أهملت أو أهمل بعضها فليس من الممكن أن نتلو القرآن حق تلاوته، أو نرتله ترتيله المنشود.

وعن “النظر الفقهي” المحدَّد شاع وانتشر النظر الجزئيُّ في آيات الكتاب الكريم. و”النظر الجزئيُّ” لا يمكن أن يؤدي إلى إدراك المناسبات والروابط وشبكات العلاقات بين الكلمات في إطار الآية، ولا بين الآيات في إطار السورة، ولا بين السور في إطار القرآن كلّه. كما لا يساعد ذلك النوع من النظر على الكشف عن العلاقات بين السور في المحيط القرآنيّ ـ كلّه ـ وبالتالي فقد غاب التفكير في “الوحدة البنائيَّة” أو لم تسلط عليها أضواء كافية يمكن أن تلفت الأنظار إليها بمثل القوة التي تلتفت بها إلى الدليل الجزئيّ المباشر. ويمكن أن يضاف إلى ما تقدم من دوافع “النظر الجزئيّ” عجلة المفتي ورغبته في الإفتاء فيما يعرض عليه من أسئلة دون تأخير تجعله يسرع إلى الدليل الجزئيّ، أي: الآية التي يراها كافية في تمكينه من الإجابة على السؤال. فإذا فعل فإنه قد لا يلتفت إلى ما لا علاقة مباشرة له بموضوع السؤال. لذلك فإنه حين جاء لبحث “الدلالات” فإنه لم يضع شيئاً يشير إلى ضرورة النظر في سائر آيات الكتاب الكريم، بل حصر ذلك في أحوال “النص المفرد” فبحثُ الخاص والعام، والمطلق والمقيد، واللفظ الموضوع لمعنى واحد أو متعدد، والأمر والنهي، وصيغ العموم وصيغ الخصوص، ومقتضى اللّفظ والمفهوم، والمشترك والمؤول، والنص والظاهر والمفسَّر، والدال بالعبارة والدال بالإشارة، والدال باقتضاء النص، وكذلك المفاهيم ـ مفاهيم الموافقة والمخالفة، والشرط والغاية[6]، وكل هذه مباحث تتعلق بالألفاظ المنفردة، أو دلالاتها وسائر العوارض الذاتية المتعلقة بها، وهي لا تنبه إلى ضرورة قراءة القرآن كله.

وحدة السورة

يقول ابن العربي: «ارتباط آي القرآن بعضها ببعض حتى تكون كالكلمة الواحدة، متّسقة المعاني، منتظمة المباني… علم عظيم لم يتعرض له إلا عالم واحد عمل فيه سورة البقرة، ثم فتح الله عز وجل لنا فيه، فلمّا لم نجد له حملة، ورأينا الخلق بأوصاف البَطَلة، ختمنا عليه وجعلناه بيننا وبين الله ورددناه إليه»[7].

ويقول الإمام الرازي: «… من تأمل في لطائف نظم السور وبديع ترتيبها علم أن القرآن كما أنّه معجز بحسب فصاحة ألفاظه وشرف معانيه، فهو -أيضاً- معجز بسبب ترتيبه ونظم آياته…»[8]، ويقول الإمام -أيضاً-: «… أكثر لطائف القرآن مودعة في الترتيبات والروابط…».

ومع ذلك فإن العقول تتفاوت في مواقفها واستنتاجاتها، وبعض الناس أشد إحساسا بهذه الأمور الدقيقة من البعض الآخر، وأسرع في التفطُّن لها، والكشف عنها. كما أن الإنسان مخلوق تؤثر في حركته “الدواعي والصوارف” فحملات الطعن على القرآن والاعتراض عليه التي واجهه بعض أهل الشرك بها كانت من الدوافع للبحث الدقيق في دفاعات القرآن، عن نفسه، والكشف عن سائر مطاعن أهل الشرك فيه ودحضها وتفنيدها لإثبات سلامة النظم القرآني وتنزّهه عن الاختلاف والتناقض والخلل. ليثمر البحث في سلامة النظم، ودقة التناسب، ووحدة الموضوعات، واتجاهات الأفكار نحو “الوحدة البنائية” بحيث يقول ابن العربي في القرن الخامس: «… ارتباط آي القرآن بعضها ببعض حتى تكون كالكلمة الواحدة متسقة المعاني، منتظمة المباني علم عظيم…» كما ذكرنا آنفاً.

في الوقت نفسه نجد نماذج أخرى من العلماء تكونت لديهم الصوراف عن النظر في “وحدة القرآن” بل وحدة السورة الواحدة فنفوها عقلاً ووقوعاً… فالعز بن عبد السلام يتطرق لذلك ويتبنّى موقف النافين فيقول: “المناسبة علم حسن، لكن يشترط في حسن ارتباط الكلام أن يقع في أمر متحد مرتبط أوله بآخره، فإن وقع على أسباب مختلفة لم يقع فيه ارتباط، ومن ربط ذلك فهو متكلّف بما لا يقدر عليه إلا بربط ركيك، يصان عن مثله حسن الحديث، فضلاً عن أحسنه. فإن القرآن قد نزل في نيّف وعشرين سنة في أحكام مختلفة، شرعت لأسباب مختلفة، وما كان كذلك لا يتأتى ربط بعضه ببعض”[9].

ويأتي الدكتور محمد عبد الله دراز بعد العز بقرون كالمعتذر عنه ليبين: أن هناك ما قد يسوغ ما ذهب إليه نحو العز من نفي “الوحدة البنائيَّة”، فيعرض رحمه الله الأسباب التي اجتمعت على القرآن بحيث كان يمكن أن تجعل نظم السورة القرآنية مفكّكاً أو غير مترابط بشكل يسمح بالقول “بوحدة السورة”، فضلاً عن القول “بالوحدة البنائيَّة” على مستوى القرآن، فذكر ثلاثة أسباب هي:
1. أن القرآن بما امتاز به أسلوبه من اجتناب سبل الإطالة، والتزام جانب الإيجاز صار أسرع الكلام تنقلاً بين شؤون القول؛ فهو ينتقل من وصف إلى قصص إلى تشريع إلى جدل إلى ضروب شتى من فنون الكلام، وهذا أمر يجعل الحفاظ على تناسب المعاني وتلازمها أمراً عسيراً.

  1. أن القرآن لم يكن ينزل بهذه المعاني جملة واحدة، بل كان ينزل بها آحاداً متفرقة على حسب الوقائع والدواعي المتجددة المتنوعة، وهذا الانفصال الزماني بينها، والاختلاف الذاتيُّ بين دواعيها كان بطبيعته مستتبعاً لانفصال الحديث عنها على ضروب من الاستقلال لا يدع منزعاً للترابط والوحدة.
  2. هو تلك الطريقة التي اتبعت في ضم نجوم القرآن بعضها إلى بعض، وفي تأليف وحدات السورة من تلك النجوم.

ومع ذكره رحمه الله لهذه الأسباب الثلاثة المنافية للوحدة، أو المانعة من القول بها فإنه قد عقّب عليه بقوله: «… لو عمدنا إلى سورة من تلك السور التي تتناول أكثر من معنى واحد -وما أكثرها- وتتبعناها مرحلة مرحلة، وتدبرناها كيف بدئت وكيف ختمت، كيف تقابلت أوضاعها وتعادلت، وكيف تلاقت أركانها وتعانقت… لو تدبرنا ذلك لوجدنا ائتلافاً وتناسباً بين المعاني والمباني، ولبدت لنا السورة وكأنها نزلت في نجم واحد»[10]. فأنت تراه مع ملاحظته لما يصلح اعتراضاً مستدلاً عليه من النافين إلا أن النتيجة التي بلغها كانت مغايرة. ثم بيّن لنا التناسب والترابط والائتلاف في أطول سور القرآن وأكثرها نجوماً، وأغناها تنوعاً في الموضوعات ـ وهي سورة البقرة.

ثم يعزز ما قرّره في ذلك الفصل القيم من كتابه بما نقله عن الأئمة أبي بكر النيسابوري، وفخر الدين الرازي، وأبي بكر بن العربي، وأبي إسحاق الشاطبي، وبرهان الدين البقاعي بقوله: «إن السورة وإن تعدّدت قضاياها في كلام واحد يتعلّق آخره بأوله وأوله بآخره، ويترامى بجملته إلى غرض واحد، كما تتعلق الجمل بعضها ببعض في القضية الواحدة. وإنما لا غنى لمتفهم نظم السورة عن استيفاء النظر في جميعها، كما لا غنى عن ذلك في أجزاء القضية» – يريد القضيّة المنطقية، وهي عبارة عن جملة واحدة.

ولنعد للتدليل على ما بدأناه من التوكيد على أن “الوحدة البنائية” ليست مزيّة تتحلى بها كل سورة لوحدها وبحسبها فقط، بل هي قضية قائمة بالقرآن كله؛ فالقرآن -كله- كالكلمة الواحدة، والجملة الواحدة. في كل سوره وأجزائه، يتسع حتى يصبح كوناً يعادل الكون ـ كله ـ بل يستوعبه ويضمّه تحت جناحيه، ويَدِق حتى تراه كأنّه كلمة واحدة لكنَّها عين جارية لا تتوقف ولا تغيض ولا تغور ولا تنضب في المعاني التي تشتمل عليها، والصور الرائعة المثيرة التي ترسمها في ذهن السامع، والآثار الهامة التي تتركها في نفسه.

لقد كان السلف الذين نزل فيهم القرآن الكريم عربَ الألسن، يعرفون حق المعرفة الطاقات اللُّغويّة للسانهم، ويعرفون حدودها معرفة سحرة فرعون لحدود سحرهم وطاقاتهم فيه، والمدى الذي يمكن أن يبلغوه، ولذلك كان السحرة أول المؤمنين؛ لأنَّهم أدركوا أن ما تحداهم موسى عليه السلام به يتجاوز كل مستويات السحر التي عرفوها، وبالتالي فليس هو بسحر وما ينبغي أن يكون سحراً. وكذلك الحال بالنسبة للقرآن الكريم وبلاغته وفصاحته وسلامة نظمه.

لقد كان أبناء الجيل الأول – جيل التلقي كثيراً ما يرجعون إلى شعر العرب ونثرهم في الجاهلية وفي صدر الإسلام فيستأنسون به في فهم بعض الكلمات والأساليب القرآنية، ولكنهم كانوا يدركون في الوقت نفسه الفروق الشاسعة بين لسان القرآن واللسان العربي، وهناك العديد من الشواهد البيانية التي أثرت عن أمير المؤمنين عمر وأمير المؤمنين علي وابن عباس رضي الله عنهم وغيرهم حفلت بها كتب كثيرة، منها (الكتاب) لسيبويه (ت180هـ)، و(الخصائص) لابن جنّي (ت392هـ)، و(دلائل الإعجاز)، و(أسرار البلاغة) للجرجاني (ت471هـ) ونحوها، وكلها تدلّ على مدى إدراكهم للبون الشاسع بين أرقى ما في اللسان العربي من مستويات البلاغة والفصاحة والنظم وبين لسان القرآن.

الصفحة السابقة 1 2 3 4 5الصفحة التالية
Science

الدكتور طه جابر العلواني

• رئيس المجلس الفقهي بالولايات المتحدة الأمريكية سابقا
• رئيس جامعة قرطبة الإسلامية بوشنطن سابقا

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق