مركز الدراسات القرآنيةغير مصنف

الهداية إلى بلوغ النهاية في علم معاني القرآن وتفسيره وأحكامه وجمل من فنون علومه

د.الحسين عاصم

باحث مهتم بالتراث القرآني الأندلسي

 

إن علوم القرآن في الأندلس في أمس الحاجة إلى أكثر من نص محقق موثق، وفي أمس الحاجة كذلك إلى أكثر من دراسة متأنية وازنة تجلي قضايا هذه العلوم، وتبلور ظواهرها واتجاهاتها، فهي من الثراء والأهمية بمكان موضوعا ومنهجا؛ لأن “دور الأندلسيين في حفظ العلوم لم يقتصر على ترديد ما أخذوه عن المشارقة، بل تعدى ذلك إلى مرحلة النمو والتطوير، وبرهنوا أنهم يمتلكون روح المثابرة والاستنباط والجدة والابتكار، في مختلف ميادين المعرفة”.

لقد ألف شيوخ العلم في الأندلس في مختلف العلوم المرتبطة بالقرآن الكريم، يشهد على ذلك توا ليفهم الجياد في علم الرسم، وعلم الوقف والابتداء، وعلم التجويد، وعلم القراءات: متواتــرة وشاذة، وعلم الغريب، وعلم الإعراب، وعلم الناسخ و المنسوخ، وعلم التفسير،…  ولم ير النور مــن هذه التواليف إلا قل من كثر، مما يستدعي جهودا فردية وجماعية معتبرة متخصصة، تضع بين أيدي الباحثين والدارسين وطلبة العلم عموما ذخائر تـراث علمي قرآني أندلسي، جهد أربابه في انجازه ليشكل مرجعية ضابطة للأصول والقواعد المعينة علي معرفة معاني الخطاب القرآني، تلمح خبيئاته، وتلمس مقاصده الكلية العليا.

ويعتبر تفسير “الهداية إلي بلوغ النهاية “من أجل ما صنف بالأندلس في بابه، نظرا لما جمعه من علوم كثيرة، وفوائد عظيمة، ولما له من أثر حميد في تنشيط الحركة التفسيرية في الأندلس، إضافة إلي مكانة مؤلفه مكي بن أبي طالب القيسي (ت 437هـ)، الذي أجمع المترجمون له علي وسمه بالإمامة في الدين والعلم والورع، فهو “إمام وحجة في نظر المشارقة والمغاربة علي السواء”، فحاز تفسيره بهذا حظوة وصيتا طنانا في الأوساط العلمية، منذ النصف الأول من القرن الخامس الهجري إلي يومنا هذا، مما أهله أن يعد من نفائس تفاسير الأندلسيين الثمينة بالتحقيق والدراسة، والجديرة بالنشر علي نطاق واسع.

تجدر الإشارة إلي أن الدراسة شاملة لتفسير مكي، بينما التحقيق مقتصر علي تفسير سورة الأعراف والأنفال والتوبة، كما هو مبين في العرض.

وقد كان من توفيق الله إياي أن أقدرني علي دراسة وتحقيق تفسير ” الهداية “، من أول سورة “الأعراف” إلى آخر سورة “التوبة “، بعد سنوات طوَال من العمل المرهق، استنفدت كلها في النسخ والمقابلة والتقويم والتخريج والتعليق والفهرسَة والدراسَة، أتاحت لي فرصة الاستفـادة مباشرة من كتب التفسير والمعاني والقراءات، و كتب اللغة والنحو ، وكتب السير والمغازي،  وكتب العقيدة  والفقه والأصول ،وكتب الرجال، ومعاجم اللغة والمصطلحات والأماكن، مما يسر، بحول الله وقوته، تجاوز جل ما يفيض به نص “الهداية”المحقق من صعوبات جمة، تمثلت في فك رموز خطوطه، وتبيين المخروم والمطموس من حروفه و كلماته،  وضبط عباراته، وتوضيح مبهمه، وتفصيل مجمله، وكشف مصادره ، ومقاربة أصوله وملامسة مناهجه، ورصد أثره في الخالفين من العلماء مغاربة ومشارقة.

دواعي اختيار الموضوع:
هذا وقد دعاني إلي اختيار موضوع هذه الأطروحة بقسميها عوامل أذكر منها:

أولا: تدبر معاني الخطاب القرآني، والتبصر بمقاصده العليا الحاكمة، وإدراك المحاور الكبرى التي يتأسس عليها ومن خلال التفاسير النوعية المعتبرة.

ثانيا: إن التفسير الموضوعي للقران الكريم الذي أصبح اليوم ضرورة ملحة نظرا للمستجــدات المتراكمة في واقعنا المعاصر، لا يمكن أن يبلغ مداه، وتتحدد معالمه وتضبط مساراته، إلا باستيعاب وتمثل عطاءات التفسير الموضوعي المبلور في صياغات متـعددة متميزة، من جملتها تفسير “الهداية إلى بلوغ النهاية”  لمكي بن أبي طالب القيسي.

ثالثا: إعداد مرجعية تفسيرية علمية موثقة ميسرة لتكون في متناول الدارسين والباحثين والمهتمين بالشأن الحضاري عموما، باعتبارها وسيلة ضرورية لقراءة الخطاب القرآنــي قراءة عالمة واعية وظيفية مهمومة ببناء الإنسان، وتنميته وتمكينه من آلات الاستخلاف وعمارة الأرض وفق المراد الإلهي، حفاظا علي مقومات العمران البشري التي بلورها علماء الأصول في مبحث: مقاصد الشريعة.

رابعا: ارتباط نهضتها المأمولة، بحول الله وقوته، بإحياء نفائس تراثنا من سائر حقول المعرفة وقراءة مادتها قراءة تحليلية نقدية، وربطها بكسب وأداء الحضارات المتحركة المعاصرة من خلال إتقان لغاتها، والتخصص فيما تنتجه من معارف وتبدعه من عـلوم، قراءة واستيعابا ومثلا وتحليلا ونقدا وترجمة. وعلى هذا المرتكز المحوري قام ازدهار ” الحضارة الإسلامية الرائعة التي لم يصل التاريخ بعد  إلي الإحاطة بحقائقها و دقائق تأثيرها في الحياة الإنسانية العامة”.

خامسا: استجلاء مناهج تحليل الخطاب القرآني من تضاعيف متون التفاسير الموثوقة لاعتمادها في معرفة المراد الإلهي بعد ذيوع أنماط من القراءات التي أهدرت جملة مــن العلوم المشروطة في فقه الخطاب القرآني، لأنها لم تأخذ في الاعتبار التمايز الحاصل بين أصول وأهداف المناهج المستثمرة في القراءة، وبين طبيعة الخطاب الإلهي الأزلــي ذي الخصائص المتفردة والآفاق المفتوحة.

سادسا: الإسهام في تحقيق ودراسة مدونات التفسير الأندلسي، وإبراز جهود مؤلفيها في إثراء العمل التفسيري، وتطوير مناهجه، و تنمية أصوله، وإغناء  مصادره.

تصميم البحث:

وقد اقتضت طبيعة هذه الأطروحة أن يتكون محتواها من قسمين متكاملين متفاعلين، يعتبر أولهما إطارا منهجيا ضروريا لتيسير التعامل مع ثانيهما والاستفادة منه، وإدراك طبيعته من حيث:  مصادره ومناهجه واتجاهاته وأصوله وطريقة إعداده والآليات المشغلة في صياغة متنه.

وتأسيسا علي ذلك خصصت القسم الأول من الأطروحة للدراسة التي حاولت فيها، حسب طاقتي المحدودة، الكشف عن أصول نظرية مكي في التفسير التي رامت قراءة الخطاب القرآني بأكثر من منهج، على أساس أن المراد الإلهي لا يفقه بنحو واحد، مبرزا أثر هذه النظرية في تفعيل عطاء مدرسة التفسير في الأندلس ابتداء من القرن الخامس للهجرة، وهو شيء لم أسبق إليه فيما أعلم.

وقد جاءت الدراسة تبعا لما تروم تحقيقه في أربعة فصول وخاتمة وملحق:

•  الفصل الأول: مدخل إلي نظرية مكي في التفسير من خلال مصادره.
•  الفصل الثاني: نظرية مكي في التفسير.
•  الفصل الثالث: تقويم تفسير مكي.
•  الفصل الرابع: النسخ المعتمدة ومنهج التحقيق. وعقبه جاءت الخاتمة والملحق.

في الفصل الأول تحدثت عن مصادر مكي في تفسيره “الهداية” من خلال تمهيد وسبعـة مباحث،  حيث وقفت علي مصادره من كتب التفسير ، وكتب المعاني، وكتب القراءات ، والوقف والنسخ، وكتب اللغة والنحو، وكتب الحديث والسيرة، وكتب العقيدة والفقه، وأحصيت منها أزيد من مائة مصدر، ذاكرا المطبوع منها والمخطوط والمفقود، مشيرا إلي رواتها من العلماء، مبينا مكانتها وقيمتها، وذلك بإيراد ما قيل فيها وفي مؤلفيها من جرح وتعديل، مبرزا خطة مكي في التعامل معها والاستفادة من مادتها. وفي ختام الفصل انتهيت إلي أن مصادر مكي في تفسيره “الهداية” كثيرة متنوعة، ومشهورة مروية، وموثقة معتمدة. وهي في جملتها مصادر أولية ومصادر ثانوية، مصادر خاصة ومصادر عامة، مصادر مباشرة ومصادر غير مباشرة، مصادر مصرح بها، و مصادر أغفل ذكرها، مما جعل تفسير “الهداية” مستودعا أمينا لأقوال أعلام المفسرين واللغويين والنحاة والفقهاء والمتكلمين على تباين منازعهم واختلاف اتجاهاتهم.

وفي الفصل الثاني عالجت نظرية مكي في التفسير من خلال تمهيد وثلاثة مباحث. فـي المبحث الأول عرض عام موجز لأصول النظرية معزز بشواهد توضيحية. وفي المبحثين الثاني والثالث بلورة وتشخيص أكثر لأصول النظرية، اعتمادا على نمـاذج تطبيقية مكثفة مستقاة من تفسير “الهداية” ، تبين بجلاء مدى صلة وتأثير هذه الأصول في طريقة مكي في التفسير، وآلياته المشغلة في فقه دلالات الخطاب القرآني، باعتبار المنهج ” منظومة متكاملة تبدأ بالوعي والرؤية والغاية، وتنتهي ببلورة الطرق الإجرائية التي يتوسل بها في إنجاز البحث”.

خلاصات ونتائج:

وفي خاتمة الفصل انتهيت إلي رصد ما يأتي:    

1.  أهم أدوات ووسائل مكي في الإبانة عن معاني الخطاب القرآني، المشروطة في أي جهد بشري يروم استنطاق مضامين الوحي لتكون في حيازة الواقع المتحرك المتجدد دوما.

2.  محاولة مكي فقه دلالات نظم الخطاب القرآني انطلاقا من نظرية تفسيرية متوازنة متكاملة منحت من محتوى أكثر من منهج ، كما نلاحظ ذلك إجمالا في:

أ- المنهج الأثري الذي أفاده من تفسير ابن سلام (200 هـ ) ، وتفسير عبد الرزاق الصنعاني ( 211 هـ )، وتفسير أبي جعفر الطبري ( 310 هـ )، وغيرها .

ب- المنهج القرائي الذي استحصله من مصادر متعددة : بيئات وشيوخا و مصنفات  مما جمع لدى مكي تراكما معرفيا في الفن أهله للاجتهاد في صياغة مقياس قرائي لقـبول القراءة، انفرد به عن من تقدمه من الشيوخ .

ج- المنهج اللغوي الذي استخلصه من معاني الفراء (207هـ )، ومجاز أبي عبيدة (210 هـ )، ومعاني الزجاج (311 هـ )، وغيرها.

د- المنهج الكلامي السني الذي تشربه من بيئة حاضرة القيروان، موطنه الأصلي.

هـ-المنهج الفقهي المالكي الذي اقتفي فيه أثر ابن أبي زيد (386 هـ)، وأبي الحسن القابسي (403 هـ )، وإسماعيل القاضي(282 هـ )، وغيرهم.

3.  جهد مكي في إبراز العلاقة التكاملية الوظيفية بين المعارف اللغوية والمعارف الشرعية حين يفسر، كما تمت ملاحظة ذلك من خلال النماذج التطبيقية المختارة لتمثيل أنماط معالجاته المتنوعة.
أما في الفصل الثالث فقد تعرضت إلي تقويم تفسير مكي من خلال تمهيد و ثلاثة مباحث.

فتحدثت عن القيمة العلمية لتفسير مكي المتجلية في روايته بالأسانيد المتصلة، وثناء شيوخ العلم  علي مادته، وتجديده لدرس التفسير بالأندلس ابتداء من النصف الأول من القرن الخامس الهجري، حيث مثل تفسير ” الهداية ” نقلة نوعية في سيرورة علم التفسير في الأندلس من حيث مصادره، ومناهجه، واتجاهاته، ومقاصده، انطلاقا من نظرية تفسيرية متكاملة الأبعاد واضحة المعالم كانت نواة طبيعية ومنهاجا مؤسسا للمرحلة الناضجة التي كان عليها درس التفسـير في الأندلس، كما نلفي ذلك عند ابن العربي (543هـ ) ، وابن الفرس (599هـ) ، والقرطبي (671هـ)، وابن جزي(741هـ)، وأبي حيان (745هـ)، وغيرهم من المفسرين الأندلسيين الذين لم تصلنا تفاسيرهم بعد، كأبي حفص احمد بن محمد بن برد  (حيا بعد 440هـ)، وأبي داود سليمان بن أبي القاسم نجاح (476هـ)، وأبي الحكم عبد السلام بن عبد الرحمن الاشبيلي المعـروف بابن برجان(536هـ)، ومحمد بن إبراهيم بن أبي بكر الغساني المَري (536هـ)، وأبي الحسن علي بن عبد الله بن خلف البلنسي (567هـ)، وغيرهم، كما يستفاد من الملحق آخر قسم الدراسة .

وفي ثنايا هذا الفصل تحدثت عن سر الاهتمام بتفسير “الهداية” وتداوله بكثرة في الحلقات العلمية، و روايته بالأسانيد المتصلة، و أرجعت ذلك إلى ما يأتي:

1)  كثرة مصادره، فقد انتخله مؤلفه “من نحو ألف جزء أو أكثر مؤلفة في علوم القرآن مشهورة مروية”، مما جعـل “الهداية”موسوعة تفسيرية فريدة في بابها لا يستغني عنها بحكم ما خزنته من لباب مصادر أمهات بذت به غيرها من التفاسير، فانفردت بذلك بضم طائفة من النصوص ليست في بعض المصادر المطبوعة ، كما انفردت أيضا بنقول نادرة الوجود من كتب مفقودة، كتفسير نافع المقرئ (169 هـ) وتفسير مالك (179هـ)، وتفسير ابن حنبل (241هـ)، ومعانـي كل من الكسائي (189هـ)، وقطرب (206هـ)، والمبرد (285هـ) وابن كيسان (299هـ)، وكتاب القراءات لكل من أبي عبيد القاسم بن سلام (224هـ) وإسماعيل القاضي (282هـ) وثعلب(291هـ)، وغيرها من الكتب المشار إليها في فصل مصادر مكي.
2)  تنوع وغني محتواه، فلقد حشد فيه مؤلفه “علوما كثيرة وفوائد عظيمة من تفسير مأثور، أو معني مفسر، أو حكم مبين، أو ناسخ أو منسوخ، أو شرح مشكل، أو بيان غريب، أو إظهار معني خفي…”.
3) تطويع العلوم الشرعية والعلوم اللسانية لحيازة المعني القرآني، فقد انفلت مؤلفه من شرك الصنعة في بعض هذه العلوم؛ لأنها لم تكن مقصودة لذاتها، واستثمرها جميعها في فقه الخطاب، باعتبارها أداة تيسير وفهم، وليست “تجريدات ذهنية بعيدة عن الواقع”.
4)  حضور البعد التعليمي في متنه، نلمس ذلك بجلاء في انتخاب الآثار، وانتقاء الأقوال وتنظيمها وتهذيبها واختصارها وحذف أسانيدها، وبيانها بألفاظ تتميز بالدقة والوضوح والإيجاز.

وتطرقت في هذا الفصل إلى مآخذ على تفسير مكي، وأوجزتها في حذف الأسانيد، وسوق الأحاديث الضعيفة، وإيراد الأخبار الإسرائيلية وتركها من غير متابعة. وانتهيت إلى أن هذه الهنـات الملحوظة في نص ” الهداية “، والتي لم يسلم منها أي مفسر، ليست شيئا مذكورا إذا قيست بمكانة مكي عند أهل العلم، وما نهض به من علوم جمة بانية، وما لتفسيره الموسوعي من قيمة علمية و منهجية، وما له من فضل حميد في إثراء علم التفسير في الأندلس.

أما الفصل الرابع الذي يضم مبحثين فقد محضته للحديث عن النسخ الخطية الثلاث المعتمدة فــي التحقيق، وأفردت كل نسخة بكلمة تبين حالتها و قيمتها. ثم انتقلت إلي الحديث عن منهج التحقيق كما سيأتي بيانه بعد حين.

وقد انتهيت من خلال دراستي المتواضعة لتفسير “الهداية” إلي نتائج يمكن إيجازها فيما يأتـي:

أولا: إن مصادر مكي في تفسير ” الهداية” من الكثرة و التنوع و التدخل و التفاعل بمكان، يتعذر استقصاؤها و الإحاطة بها لأسباب ذكرت في التمهيد للفصل الأول، فهي واسعة سعة ثقافته، و متنوعة تنوع العلوم التي يقوم بها : قراءة ،و تفسيرا  و لغة و نحوا بلاغة و فقها و كلاما.

ثانيا: إن شخصية مكي العلمية بارزة في عملية انتقاء مصادره، وفي طريقة النقل عنها، وفي أسلوب الانتفاع بمضمونها، وفي موقفه من مادتها: شارحا و مضيفا و متعقبا ومرجحا و مستحسنا، حسب خطة تأليفية محكمة منجزة سلفا، تعتمد الجمع والاختصار والتهذيب، وحسن العرض، وجودة الصياغة، وإشراق اللفظة ووضوح العبارة، من غير إطناب ممل و إيجاز مخل، مما جنبه عظم عيوب من تقدمه من المؤلفين.

 ثالثا: إن مصادر مكي الكثيرة من جهة ، والمتنوعة من جهة أخري ، كما سبق القول، والتي تكون مكتبة عريضة وإن لم يذكر منها إلا النزر اليسير لعوامل اشرنا إليها ، لها تأثير قوي في رسم ملامح نظريته في التفسير، كما رأينا حين استعرضنا مصادره .

رابعا: إن قراءة أي نص تراثي من غير إحكام عمد مصادره على الأقل، لا يمكن أن تكون ذات غناء البتة، على أساس أن مصادر أي نص هي مسالك مؤطئة هادية لحل مشكله، وتوضيح مبهمه، وتبين إتباعه وإبداعه، وبيان منهجه، ورصد أصالته وابتكاره، وضبط مصطلحه مفتاح كشف كنوزه.

خامسِِِِا: استجلاء أصول نظرية مكي في التفسير وبلورتها، اعتمادا على نماذج تطبيقية مكثفـــة مستقاة من تفسير “الهداية”، تبين بوضوح مدى صلة و تأثير هذه الأصول في طريقة مكي وأدواته في فقه مضامين و دلالات الخطاب القرآني، لأن البحث عن منهج أي مادة مدروسة من داخلها يكــون، ومن طبيعتها يستحصل.

سادسا: صعوبة الحديث عن نظرية مكي في التفسير جامعا مانعا، لكون مادتها مضمرة ومبثوثة في تضاعيف تراثه التفسيري العام، مما يستدعي قراءة هادفة متأنية فاحصة لكل هذا التراث العريـض.

سابعا: ارتكاز نظرية مكي في التفسير على محتوى أكثر من منهج، كما لاحظنا ذلك في منهجه الأثري، ومنهجه القرائي، ومنهجه اللغوي، ومنهجه الكلامي، ومنهجه الفقهي.

ثامنا: إن مكي هو المجدد الفعلي لمدرسة التفسير في الأندلس بلا منازع، ابتدءً من القرن الخامس الهجري وما يليه. فجهوده التدريسية والعلمية المستوعبة بعناية وإيجاز في موسوعة ” الهداية”، تمثل مرحلة فارقة من مراحل نمو وتطور علم التفسير في الأندلس.

تاسعا: تأثير كتب  مكي على المشتغلين بالدراسات القرآنية مغربا ومشرقا، حتى عد مكي بحق “أحسن من مثل العلاقة المتينة بين افريقية ومصر، وبين افريقية الأندلس، لا في ميدان القراءات فحسب، وإنما في  بقية ميادين العلوم القرآنية”.

أما القسم الثاني من الأطروحة فهو يشتمل على النص المحقق من تفسير “الهداية” من أول سورة “الأعراف” إلى أخر سورة “التوبة”، منجزا وفق ما تتطلبه مناهج التحقيق، حسب الطاقة. ويمكـن إجمال الحديث عن الخطوات المتبعة في التحقيق فيما يأتي:

1.  نسخت الأصل المعتمد وفق القواعد الإملائية المعهودة لدينا اليوم، وقسمته إلي جمـل وفقرات حسب معانيه و دلالاته، تيسيرا لقراءته والاستفادة منه والتأسيس علي متضمناته.
2.  قابلت الأصل المنسوخ بالمخطوطتين المعتمدتين في التحقيق، واثبت الفروق في الهوامش.
3.  جهدت في إقامة النص، علي قدر طاقتي، و ذلك بالدلالة علي مظان تفصيل مجمله، و توضيح مبهمه و ربط  موضوعاته و قضاياه بروافدها، و التنبيه علي التصحيفات و التحريفـات و الأخطاء الحاصلة في النسخ، و الإشارة إلي بعض أوهام المؤلف، يرحمه الله. وتيسر كل ذلك، بفضل الله سبحانه وتعالي، بالرجوع إلي:

 أولا: مصادر ألفها مكي .

ثانيا: مصادر اعتمدها مكي.

ثالثا: مصادر نقلت عن مكي.

رابعا: مصادر لها صلة وثيقة بنص مكي.

4.  ضبطت الآيات المفسرة، وآلايات المستشهد بها بما يوافق قراءة نافع (169هـ)، برواية ورش (197هـ)، عن طريق الأزرق(240هـ).
5. عزوت الآيات المستشهد بها إلي سورها ورقمتها، وأتممت في الهامش ما يحتاج إلى الإتمام.     
6.  خرجت القراءات المتواترة، وعزوتها إلى أصحابها في المواطن التي لم يسندها المؤلف.
7.  خرجت القراءات الشاذة، ونسبت كل قراءة إلي قارئها، وذلك بالرجوع إلي كتب القراءات، والتفاسير، والمعاني والإعراب.
8.  خرجت ما استطعت تخريجه من الأحاديث النبوية، و أشرت إلى درجة بعضها صحة و ضعفا.
9.  وثقت الآثار، و أقوال المفسرين، والأقوال اللغوية و الصرفية و النحوية، ونسبت غير المنسوب منها ما استطعت إلى ذلك سبيلا.
10. شرحت بعض الألفاظ والمصطلحات التي تحتاج إلى شرح.
11. ضبطت الأشعار والمشتبه من الأعلام، والمشكل من الألفاظ التي تحمل أكثر من معنى.
12. علقت على بعض المسائل تعليقا موجزا .
13. خرجت الشواهد الشعرية من المصادر المعنية بالشواهد.
14.     ترجمت لمن يحتاج إلى الترجمة من الأعلام، وتركت تراجم المشهورين، إلا في مواطن قليلة اقتضى السياق التعريف بها.
15. عرفت بالأماكن تعريفا موجزا .
16. أكثرت من المصادر، بغية الإحاطة بالمعلومة الموثقة،ورتبتها حسب وفيات مؤلفيها، الأقدم فالأقدم .
17. أثبت أرقام الأصل على هوامش الصفحات.
18  ذيلت النص المحقق بفهارس فنية ضرورية تعين على الاستفادة منه بيسر، فصنعت فهرسا للآيات المفسرة، وفهرسا للآيات الواردة في المتن، وفهرسا للقراءات المتواترة، وفهرسا للقـراءات الشاذة، وفهرسا للأحاديث النبوية، وفهرسا للمسائل العقدية، وفهرسا للمسائل الفقهية، وفهرسا للمسائل التي افردها مكي بأبواب خاصة، وفهرسا للشواهد الشعرية، وفهرسا لأقوال العرب، وفهرسا للأساليب و النماذج النحوية، وفهرسا للفوائد، وفهرسا لردود مكي العلمية، وفهرسا لإجماعات العلماء، وفهرسا للكتب الواردة في المتن، وفهرسا للمصطلحات العلمية، وفهرسا للأمم والقبائل والطوائف، وفهرسا للاماكن، وفهرسا للأيام والوقائع، وفهرسا للأعلام  المترجمــين، وفهرسا للأعلام، وفهرسا للمصادر والمراجع المعتمدة في الدراسة والتحقيق، وأخيرا فهرسا للمحتويات .

وأود قبل الختم ، أن ألمع إلي  بعض المشاريع العلمية التي خرجت بها من هذه الأطروحة بقسميها ، والتي تحتاج إلى رعاية وتشجيع من قبل الجامعة المغربية ، ومن المؤسسات العلمية داخل الوطن وخارجه، التي جعلت خدمة البحث العلمي من أولى أولوياتها، و يتعلق الأمر بما يأتي:

أ‌-  إعداد معجم مفهرس للمطبوع والمخطوط من آثار الأندلسيين في علو القرآن .
ب‌   تحقيق ودراسة ما يفيد ويجدي من التراث الأندلسيين في علوم القرآن.
ت‌- إنجاز معجم شامل للمفسرين في الأندلس، منذ الفتح إلى نهاية الوجود العربي الإسلامي هناك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق