مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصةدراسات عامة

الدعوة إلى تزكية النفوس وتطهيرها من أفات القلوب.. (2)

دعوة السنة النبوية إلى تزكية النفوس وتطهيرها من الآفات المهلكة

      لقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم لصحابته الكرام المضامين المعرفية والتأصيلية للسنة النبوية التي كانت في حقيقتها تأويلا للقرآن من مختلف جوانبها وتمظهراتها الشرعية، ويشمل هذا البيان الجانب الظاهري والباطني في مجموعة من أقواله وأفعاله وتقريراته وأحواله.. وفيما يتعلق بالجانب الباطني فإن وظيفة البيان تعالج موضوع التربية الباطنية، ذلك أنَّ الرسول صلّى الله عليه وسلّم كان يهتم اهتماماً بالغاً بهذا الجانب الروحي الذي يشكل أحد الأركان والركائز الأساسية التي ينبني عليها صرح الدعوة الإسلامية السمحة.

  والناظر في السيرة النبوية ليجد أن الممارسات العلمية التي قام بها خاتم الأنبياء والرسل المصطفى صلى الله عليه وسلم كانت على ضربين: ممارسات علم الظاهر، وممارسات علم الباطن، وكانت هذه الممارسات في مجملها بمثابة التأويل التشريعي لدستور الأمة الإسلامية، وبمثابة دروس تربوية استلهمها الصحابة رضوان الله عليهم وساروا على دربها ونالوا أعلى الدرجات.

    ويعتبر الرسول صلّى الله عليه وسلّم هو المربي والمزكي الأول باعتباره المرجع الوحيد للصحابة رضوان الله عليهم في أمور دينهم ودنياهم، فبعته الله تبارك وتعالى لتربية وتزكية هذه الأمة، وتطهيرها من دسائس النفس وآفاتها، وتحليتها بكل الخصال الطاهرة، ومن تم فقد كان صلى الله عليه وسلم رؤوفاً رحيماً صدوقاً صبوراً حليماً كريماً زاهداً محسناً إلى غير ذلك من الصفات القلبية الباطنية التي كانت الصورة التأويلية لروح القرآن ومقاصده ولروح السنة ومقاصدها، وقد تحققت تمار هذه المقاصد العظيمة والتوجيهات الحكيمة بأبهى صورها في صحابته، فصاروا هداة مهتدين ومؤثرين في نظرائهم بعدما تشربوا القيم الأخلاقية النابعة من الحضرة النبوية الطاهرة. وتخلصت عقولهم من أسْر الذات، وبراثن الأنا الأعلى، وحب الدنيا وحب الرئاسة، فأحبو لإخوانهم ما أحبو لأنفسهم، وأصبحوا كالجسد الواحد تجردوا من الحقد والحسد والبغض والرياء والتكبر، تجسد فيهم قوله صلّى الله عليه وسلّم: (ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى عضوا تداعى له سائر الأعضاء بالسهر و الحمى)[1]، لذلك حرض النّبي صلى الله عليه وسلّم كل الحرص على توجيه قلوبهم وتشخيص العلاج الباطني لهم وتقويم سيرهم إلى الله تعالى تطبيقاً لأحكام الشريعة الإسلامية وآدابها الفاضلة.

     فوظيفة التزكية من مهامه صلّى الله عليه وسلّم، وقد جعل الله تبارك وتعالى الهداية على يده فمنحه قوة روحية وهمة عالية وباطناً نافذاً وقدرة ظاهرة ونوراً صافياً ومعرفة نورانية، يدرك بها ما يخالج الأنفس من تلوناتها وآفاتها المُهلكة، فيصرف عنهم صلّى الله عليه وسلّم هذه الأمراض القلبية مصداقا لقوله تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) [سورة الجمعة، الآية:10].

     ومن أدلة شدة حرص النّبي صلى الله عليه وسلّم على أهمية التزكية أنه كان يسأل الله عز وجل هذه التزكية لنفسه فيقول: (..اللهمَّ آتِ نَفسي تَقْوَاها، وزَكِّها أنت خيرُ مَن زكَّاها، أنت وَلِيُّها ومولاها، اللهمَّ إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلبٍ لا يخشَع، ومن نفْسٍ لا تشبع، ومن دعوة لا تستجاب)[2]. ومن ذلك حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما: (قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي: يا حُصَينُ كَمْ إِلَهًا تَعْبُدُ الْيَوْمَ؟ قال: سبعة: سِتَّة في الأرض، وواحداً في السماء، قال: فأيهم تعدُّ لرهبتك ورغبتك؟ قال: الذي في السماء، قال: يا حصينُ، أمَا إنك لو أسلمتَ عَلَّمْتُك كلمتين تنفَعَانِك، قال: فلما أسلم حُصين، جاء فقال: يا رسولَ الله، علِّمْني الكلمتين اللتين وعدتني، قال: قل: اللهمَّ ألهِمني رُشدي، وأعِذْني من شرِّ نفسي)[3].

   ومنها ما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: (قلت يا رسول الله إني أسمع منك حديثاً كثيراً أنساه؟ قال: أبسط رداءك فبسطه. قال فغرف بيده ثم قال: ضمه فضممته، فما نسيت شيئاً بعده)[4]، وعن ابن عباس رضي الله عنه: وعن أنس بن مالك قال: (خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم فما قال لي أف قط ولا قال لي شيء صنعته لما صنعت كذا وكذا) [5]، وفي رواية أخرى عن أسماء بنت أبي بكر فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، ودخل المسجد أتاه أبو بكر بأبيه يعوده، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هلا تركت الشيخ في بيته حتى أكون أنا آتيه فيه قال أبو بكر: هو أحق أن يمشي إليك من أن تمشي إليه، قال: فأجلسه بين يديه، ثم مسح صدره، ثم قال له أسلم فأسلم) [6]. وعن أبي برزة قال: (قلت يا نبي الله علمني شيئا أنتفع به، قال: اعزل الأذى عن طريق المسلمين)[7]. وعن عثمان بن أبي العاص، قال: (قلت: يا رسول الله اجعلني إمام قومي، فقال: أنت إمامهم، واقتد بأضعفهم، واتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً) [8]. وعن أبي ذر قال، قلت: (يا رسول الله ألا تستعملني قال، فضرب بيده على منكبي، ثم قال: يا أبا ذر إنك ضعيف، وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها)[9]،

   وقد جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (ألا وإنَّ في الجسد مضغةً إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، إلا وهي القلب..) [10]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى  قلوبكم وأشار بأصابعه إلى صدره) [11] وينطبق معنى هذا الحديث مع قوله تعالى: (يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلاّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [سورة الشعراء، الآية: 88-89].

    وعليه فإنّ من سمات القلب الصالح أن تنعكس هذه الصلاحية على الجوارح، والتي هي أفعال القلب وتصرفاته، وكلما كان القلب طاهراً إلاّ وكانت الأخلاق سليمة، لا يكدرها هوى، ولا يشوبها تعلق، وفي هذا الصدد يقول شيخ الإسلام ابن تيمية وهو يتحدث عن خصائص ومميزات القلب الصالح بقوله: (فإذا كان القلب صالحا بما فيه من الإيمان علما وعملا، قول باطن وظاهر وعمل باطن وظاهر، والظاهر تابع للباطن، لازم له متى صلح الباطن صلح الظاهر، وإذا فسد فسد، ولهذا قال من قال من الصحابة عن المصلي لو خشع هذا لخشعت جوارحه)[12].

     ويقول سلطان العلماء العز بن عبد السلام في هذا المضمار: (والطاعات كلها مشروعة لإصلاح القلوب والأجساد ولنفع العباد في الآجل والمعاد، إما بالتسبب أو بالمباشرة وصلاح الأجساد موقوف على صلاح القلوب وفساد الأجساد موقوف على فساد القلوب، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: ألا وإن في الجسد مضغة…)[13].

ولا يخفى كذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بيّن لصحابته الكرام أنّ القلب هو محل نظر الله تعالى، فإذا فسد بالصفات المذمومة من كبر وحسد وعجب ورياء.. تنعكس هذه الصفاة سلباً على مختلف الجوارح، فتنتج عنها تصرفات لا أخلاقية، ولذلك حرص الرسول صلى الله عليه وسلم كل الحرص على إيقاظ همم صحابته الأجلاء، وذلك بحثهم على مجاهدة النفس، وتخليصها من أسر هواها، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم قال: (أفضل الجهاد أن يجاهد الرجل نفسه وهواه)[14]، يقول العلامة الإمام النووي في شرح هذا الحديث، أي يكفيهما عن الشهوات ويمنعهما عن الاسترسال في اللذات ويلزمها فعل الأوامر وتجنب المناهي، فإنه الجهاد الأكبر والهوى أكبر الأعداء، [15]، وقد جاء في حديث آخر عن زيد بن أرقم قال: لا أقول لكم إلا كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع ومن نفس لا تشبع ومن دعوة لا يستجاب لها) [16].

    ولقد استلهم الصحابة رضوان الله عليهم هذا الدرس الحكيم فشمروا عن سواعد جدّهم وكبحوا جماح نفوسهم، بالحكمة والموعظة والسير على المنهج التربوي الحكيم المبني على قيم الوسطية والاعتدال دون غلو وتطرف في أداء التكاليف الشرعية.

علماً أن تربية المجتمع الإسلامي على المبادئ الأخلاقية والقيم الروحية هي من الأهداف الأساسية التي بعث الأنبياء والرُّسل من أجلها ومهمة الرسل في ذلك مهمة مشتركة.

 

المراجع:

———————

  1. صحيح البخاري، تحقيق: د. مصطفى ديب البغا، الناشر: (دار ابن كثير، دار اليمامة) – دمشق، الطبعة: الخامسة، 1414هـ – 1993م. كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم، ج: 8، ص: 10 ، رقم الحديث: 6011. صحيح مسلم، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، الناشر: مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه، القاهرة، عام النشر: 1374 هـ- 1955م، كتاب البر والصلة والآداب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم، ج: 4، ص: 99، رقم الحديث: 2586.
  2. صحيح مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب التعوذ من شر ما عمل، ومن شر ما لم يعمل، ج: 4، ص: 2088 رقم الحديث: 2722. السنن الكبرى، النسائي، حققه وخرج أحاديثه: حسن عبد المنعم شلبي، أشرف عليه: شعيب الأرناؤوط، قدم له: عبد الله بن عبد المحسن التركي، الناشر: مؤسسة الرسالة – بيروت، الطبعة: الأولى، 1421 هـ – 2001م.
  3. : الجامع الكبير (سنن الترمذي)، حققه وخرج أحاديثه وعلق عليه: بشار عواد معروف، الناشر: دار الغرب الإسلامي – بيروت، الطبعة: الأولى، 1996م. أبواب الدعوات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم باب ج: 5، ص: 486. رقم الحديث: 3483. المعجم الأوسط، للطبراني، تحقيق: أبو معاذ طارق بن عوض الله بن محمد – أبو الفضل عبد المحسن بن إبراهيم الحسيني، الناشر: دار الحرمين – القاهرة، عام النشر: 1415 هـ – 1995 م. ج: 2، ص: 280. رقم الحديث: 1985.
  4.  صحيح البخاري، كتاب العلم باب حفظ العلم، ج: 1، ص: 56، رقم الحديث: 119. صحيح مسلم، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، الناشر: مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه، القاهرة، عام النشر: 1374 هـ – 1955م. كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب جواز لعن الشيطان في أثناء الصلاة، والتعوذ  منه، وجواز العمل القليل في الصلاة، ج: 1، ص: 385 رقم الحديث: 542.
  5. مسند الإمام أحمد بن حنبل، تحقيق: شعيب الأرنؤوط – عادل مرشد، وآخرون، إشراف: د عبد الله بن عبد المحسن التركي، الناشر: مؤسسة الرسالة، الطبعة: الأولى، 1421 هـ – 2001م. مسند المكثرين من الصحابة، مسند أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه، ج: 21، ص: 66. رقم الحديث: 13373، صحيح ابن حبان، النوع السابع والأربعون ذكر خبر ثان يدل على صحة ما أومأنا إليه.ج: 7، ص: 729 رقم الحديث: 7316.
  6. مسند الإمام أحمد بن حنبل، مسند النساء، حديث أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، ج: 4، ص: 518. رقم الحديث: 26955. صحيح ابن حبان، النوع الثامن  ذكر أبي قحافة عثمان بن عامر رضي الله عنه، ج: 4، ص: 347 ، رقم الحديث: 3542.
  7. صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل إزالة الأذى عن الطريق، ج: 4، ص: 2021 رقم الحديث: 2618.
  8. مسند أحمد بن حنبل، مسند المدنيين حديث عثمان بن أبي العاص الثقفي، ج: 26، ص: 200 رقم الحديث: 16270. السنن الكبرى، للنسائي، كتاب قيام الليل وتطوع النهار اتخاذ المؤذن الذي لا يأخذ على أذانه أجرا، ج: 2، ص: 250 رقم الحديث: 1648.
  9. صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب كراهة الإمارة بغير ضرورة، ج: 3، ص: 475 رقم الحديث: 1825.
  10. صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه، ج: 1، ص: 20، رقم الحديث: 52. صحيح مسلم، – كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات، ج: 3، ص: 219. رقم الحديث: 1599.
  11. صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والأدب، باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره، ج: 8، ص: 11، رقم الحديث: 2564.
  12. كتاب الإيمان، لشيخ الإسلام ابن تيمية الحراني الحنبلي الدمشقي، الناشر: المكتب الإسلامي، عمان، الأردن، الطبعة: الخامسة، 1416هـ/1996م. ص: 150.
  13. قواعد الأحكام في مصالح الأنام، للإمام الجليل العز بن عبد السلام، راجعه وعلق عليه: طه عبد الرؤوف سعد، الناشر: مكتبة الكليات الأزهرية – القاهرة، 1414 هـ – 1991م. فصل في بيان متعلقات حقوق الله عز وجل ومحالها، ج: 1، ص: 197.
  14. فيض القدير شرح الجامع الصغير، للمناوي القاهري، الناشر: المكتبة التجارية الكبرى – مصر، الطبعة: الأولى، 1356ه. ج: 2، ص: 31. رقم الحديث: 1247.
  15. نفسه.
  16. صحيح مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب التعوذ من شر ما عمل، ومن شر ما لم يعمل، ج: 4، ص: 2088. رقم الحديث: 2722.
Science

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق