مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةأعلام

الحلة السيراء فيمن حل بمراكش من القراء -6- أحمدُ بن عَتِيق بن الحَسَن بن زياد بن جُرج، أبو جعفرٍ وأبو العبّاس، الذّهَبيُّ

(من كتاب الذيل والتكملة لابن عبد الملك المراكشي ت703ه‍)

-6- أحمدُ بن عَتِيق بن الحَسَن بن زياد بن جُرج، بَلَنْسِيٌّ، مرويُّ الأصل، أبو جعفرٍ وأبو العبّاس، الذّهَبيُّ(1).

تَلا بالسبع على أبي عبد الله بن جعفرِ بن حَمِيد، ورَوى عن أبي بكر بن بِيبَش، وأبي جعفر بن مَضاء، وأبوَي القاسم عبدَي الرحمن: ابن إسماعيلَ التونُسيِّ وابن محمد بن حُبَيْش، وكان دونَه سِنًّا وعلمًا. وتأدَّبَ بأبي محمد بن يحيى عَبْدون. وأجاز له أبو الطاهِر بن عَوْف، وأبو عبد الله بنُ عبد الرحمن بن محمد بن منصُور بن محمد بن الفَضْل بن منصُور بن أحمدَ بن يونُس بن عبد الرحمن بن اللَّيث بن عبد الرحمن بن المُغيث بن عبد الرحمن بن العلاءِ بن الحَضْرَميِّ صاحبِ رسُولِ الله – صلى الله عليه وسلم – عاملِه على البحرَيْن، وأبو القاسم مَخْلوف بن جارة.

رَوى عنه ابنُه أبو بكر عَتِيقٌ، وأبو جعفر بن عليّ بن عَيْشُون، وأبو عبد الله بن الحَسَن ابن التُّجِيبي.

وكان أعلمَ أهل زمانِه بالعلوم القديمة وبالتعاليم منها خصوصًا، ماهرًا في العربيّة، وافرَ الحظّ من الأدبِ، يَقرِضُ يسيرًا من الشِّعر فيُجيدُ فيه، متحقِّقًا بأصُول الفقه، ثاقبَ الذّهن، متوقِّدَ الخاطر، غَوّاصًا على دقائق المعاني، بارعَ الاستنباط، وَرَدَ مَرّاكُشَ مُستدعًى إليها من قِبَلِ المنصور أبي يوسُف، فحَظِي عندَه وجَلَّت منزلتُه ونال عندَه وعندَ ابنِه الناصِر أبي عبد الله بعدَه جاهًا عريضًا، وكان من أجلِّ من يحضُرُ مجلسَهما من أهل العلم، وقَدَّمه المنصورُ للشُّورى والفَتْوى في القضايا الشّرعية، فكانت الفتاوى في نوازلِ الأحكام تَصدُرُ عنه فتَبلُغُ القاضيَ الحافظَ أبا العبّاس بن محمد بن عليِّ بن جَوْهر الحَصّار فيَنسُب كلَّ فتْوى إلى قائلِها من أهل المذهب المالكي، وكثُرَ ذلك منهما، فأُنهيَ إلى أبي جعفرٍ فقال: ما أعلمُ مَن قال بتلك الأقوال التي أُفتي بها، ولكنّي أُراعي أصُولَ المذهب فأُفتي بما تقتضيه وتدُلُّ عليه، فكان يُقضَى العَجَبُ من حِذْق أبي جعفرٍ وإدراكِه وجَوْدةِ استنباطِه، ومن حفظِ أبي العبّاس وإشرافِه على أقوالِ الفقهاء وحضورِ ذكْرِه إيّاها، وكان العَجَبُ من أبي جعفرٍ أكثر، وقد قُيّد عنه من أجوِبتِه على المسائل الفِقهيّة وغيرها الكثيرُ الحَسَن البديع.

ولمّا امتُحِن أبو عبد الله بنُ إبراهيمَ وأبو الوليد محمدُ بن أحمد بن رُشْد محِنتَهما المشهورةَ حسبَما سنُلمعُ بنُبذة منها في رَسْم أبي الوليد إن شاء الله، لَحِق أبو جعفرٍ هذا بقاشْرُهْ، واختَفى بها حَذَرًا من إدخالِه معَهما في تلك المِحنة ولم يُعرَفْ بمكانِه حتى خَلَصا فظَهَرَ وفي ذلك يقول متبرِّمًا بحالِه [الطويل]:

أفي الحقِّ أن أُقْصىَ وما أنا مذنبٌ … وأُترَكَ تَجْفي اللَّحظَ عنّي النواظرُ

غريبًا عن الأوطانِ والأهل لا أرى … أنيسًا سوى ما تجتليهِ الخواطرُ

وُيقْصَدَ ظُلْمي ليس إلا لأنّني … أُحسُّ بتقصير الذي هو قاصرُ

فيا ربِّ مَبْغيّ عليه فقُمْ لهُ … بنَصْر فقد أوجَبْت أنك ناصرُ

وقلِّبْ لهُ قلبَ الخليفةِ علَّهُ … تُنظَّمُ أشتاتٌ له وأواصرُ

وفي أُنسِه بنفسِه وفَقْدِه في تلك الحال ملاءمة من أبناء (2) جنسِه يقول [الطويل]:

إذاكان أُنسُ الناس بالناسِ لم يكنْ … أَنيسي سوى نفْسي وما هُو مِن نَفْسي

أَيُونِسُني شيءٌ سواها وبعضُ ما … أُشاهدُ فيها عالَما الحسِّ والقُدسِ؟!

ثم إنّ المنصورَ استدعاه واستَخْلَصَه وبَسَطَ أملَه، ولم تزَلْ مكانتُه لديه تترَقَّى حتى بَلَغَ الغايةَ التي ليس وراءَها مطمَح، وتَلمَذَ له المنصورُ في بعض ما كان ينتحِلُه من العلوم النَظريّة، فَيذكُرُ أنه فَهِمَ يومًا من إلقائه عليه مسألةً منها حَسُنَ موقعُ فَهْمِه إيّاها منه وسُرَّ بتحصيلِها، فوَصَلَه بألفِ دينار من ضَربِه، ولم يزَلْ إحسانُه إليه متَواليًا عليه حتى أثْرَتْ حالُه وتأثّل أموالًا جَمّةً، وقال له يومًا: يا أبا جعفر، ما صَدَرَ عنّا من إنعام عليك فلْيكُنْ مستورًا لا يطّلعُ أحدٌ عليه، فإن ببابنا قومًا سَلَفَتْ لأسلافِهم خِدَمٌ لا يَبعُدُ أن تُدرِكَنا غفلةٌ عن مُعاهدتهم بما يؤمِّلونَه منّا، فإن بَلَغَهمُ الخبَرُ من إحسانِنا إلى مَن لم تتقدَّمْ لأوّليّته خدمةٌ لهذه الدولة أمكَنَ أن يؤثِّر ذلك في نفوسِهم فيكونَ داعيةً إلى تغيُّر بواطنِهم، وسببًا في فساد ضمائرهم، ومَنْشَأً لحَسدِك والبغي عليك.

مولدُه سنةَ أربع وخمسينَ وخمس مئة، وتوفِّي بتِلِمْسانَ صُحبةَ الناصِر أبي عبد الله إلى إفريقيّةَ سنةَ إحدى وست مئة.

وفي الرُّواةِ عن أبي الحَسَن ابن هُذَيْل سنةَ ثلاثٍ وستين، وعن أبي الحَسَن بن النّعمة ووَصَفَه بالمُقرئِ النَّجيب سنةَ سبع وستينَ: أبو جعفرٍ أحمدُ بن عَتِيق بن الحَسَن الكُتَاميُّ، ويغلِبُ على الظنّ أنه الذّهَبيُّ هذا، فإن يكنْ إيّاه فهو من أصدقِ الدّلائل على قِدَم نَجابتِه، واللهُ أعلم.

  • الذيل والتكملة 1/456-459.

ذ.سمير بلعشية

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق