مركز ابن البنا المراكشي للبحوث والدراسات في تاريخ العلوم في الحضارة الإسلاميةدراسات عامة

الأستاذ بنّاصر البُعزّاتي محاضراً بكلية الآداب- الرباط


عبد العزيز النقر

مركز ابن البنا المراكشي

 

تقديم :

 شهدت رحاب كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، يوم الأربعاء 17 أبريل 2024، إلقاء محاضرة علمية من طرف الأستاذ بنّاصر البُعزّاتي تحت عنوان : “مسألة التفسير في تاريخ العلوم“. تأتي هذه المحاضرة في سياق الأنشطة التي ينظمها فريق البحث “الفلسفة والفكر النقدي” (شعبة الفلسفة) بتنسيق مع كلية الآداب والعلوم الإنسانية. تكتسي هذه المبادرة، في نظرنا، عدة دلالات إيجابية. فمن الناحية المعرفية، لا شك في أن مبادرات كهذه تُسهم بكيفية من الكيفيات في ترسيخ بعض الأعراف الأكاديمية المهمة. أما من الناحية الأخلاقية، فإنها تُعبّر عن مظهر من مظاهر العِرفان والتقدير تجاه الخدمات الجليلة التي قدمها الأستاذ بنّاصر البُعزّاتي للدرس الفلسفي بالمغرب عموما، ولشعبة الفلسفة بالرباط بشكل خاص.

  • الأستاذ بنّاصر البُعزّاتي : سيرة مُقتضبة :

   قبل الانتقال إلى عرض الأفكار الأساسية التي قدمها الأستاذ البُعزّاتي في هذه المحاضرة، فإننا لا نرى بأسا من تقديم تعريف مقتضب بسيرته الأكاديمية والعلمية. شَغَل الأستاذ البُعزّاتي منصب أستاذ لتاريخ العلوم والإبستمولُجيا والمنطق لسنين طويلة بكلية الآداب بالرباط، وقد أسهم خلالها في تكوين وتأطير عدة باحثين في مجالات المنطق والإبستمولُجيا وتاريخ العلوم. كما عمل أيضا على تنظيم وتنسيق عدة ندوات وملتقيات علمية تتعلق بتاريخ العلوم وفلسفتها. وكان من نتائج هذه الملتقيات، التي كانت تضم خيرة من باحثي المغرب والعالم العربي في ميدان تاريخ الأفكار العلمية، صدور بعض الكتب الجماعية التي لا تزال تمثل إلى الآن، في اعتقادنا، أعمالا يمكن عدّها – دون مبالغة – من بين أهم الدراسات التي أنجزها بعض الباحثين المغاربيين حول تاريخ العلوم بصفة عامة، وتاريخ العلوم العربية بصفة خاصة.[1]

   تلقى الأستاذ البُعزّاتي تكوينه الأكاديمي بداية في المغرب، ثم واصل هذا المسار بعد ذلك بجامعة السوربون بفرنسا، حيث ناقش سنة 1988 أطروحة تحت إشراف المنطقي – الإبستمولوجي الفرنسي المعروف موريس كْلافُلَن Maurice Clavelin بعنوان : “من كارناب إلى فيرابند : مصادر ومشكلات الإبستمولُجيا اللاعقلانية : فحص وتقويم“.[2] لم يكن هذا العمل هو خاتمة التكوين الأكاديمي للأستاذ البُعزّاتي، بل إنه واصل مسار تكوينه من خلال إنجاز أطروحة لدكتوراه الدولة بعنوان “الدليل والبناء : بحث في خصائص العقلية العلمية[3]. أشرف على هذا العمل المهم المرحوم الأستاذ سالم يفوت، ونوقشت الأطروحة بكلية الآداب – الرباط سنة 1997.

  • أعماله العلمية :

   أثرى الأستاذ البُعزّاتي مكتبة تاريخ العلوم بمجموعة من الدراسات العلمية الرصينة. ويمكن القول، إجمالا، إن معظم أعماله تتميز بابتعادها الصريح عن كل الأحكام المرسلة والمتسرعة، كما يُشهد لها بكونها قد ظلت بعيدة عن بعض “السجالات الإديولوجية” التي وسمت مرحلة معينة من مراحل الثقافة العربية المعاصرة. إضافة إلى ذلك، فإن المقاربة التي يتبناها في أغلب أعماله تتسم بأنها تتفادى النظر إلى المواضيع التي تقاربها نظرة أحادية أو تجزيئية، بحيث إنها تسعى، في معظم الأحيان، إلى أن تأخذ في أحكامها وتحليلاتها بالشروط و”الملابسات” و”الحيثيات” الثقافية والفنية والتاريخية والفلسفية والدينية التي لا يمكن فصلها فصلا تاما عن سيرورة المعرفة العلمية، سواء من حيث تشكل بناءاتها النظرية أو من جهة تكون مفاهيمها (العلمية).

   كتب العديد من الدراسات المتنوعة باللغات العربية والفرنسية والإنجليزية. ونظرا لكثرة هذه الدراسات، فإننا سنكتفي هنا بالإشارة فقط إلى كتبه دون ذكر للمقالات التي نُشرت في الدوريات أو ضمن أعمال جماعية. نشير من بين هذه الأعمال إلى :

1 – بنّاصر البُعزّاني، الاستدلال والبناء : بحث في خصائص العقلية العلمية، دار الأمان والمركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى 1999؛ طبعة ثانية منقحة، 2019. (526 صفحة).

2- بنّاصر البُعزّاتي، خصوبة المفاهيم في بناء المعرفة : دراسات إبستمولُجية، دار الأمان للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 2007. (350 صفحة).

3 – بنّاصر البُعزّاتي، نهضة أوربا الحضارية خلال القرن الخامس عشر، دار الأمان للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 2000؛ طبعة ثانية منقحة 2021. (210 صفحة).

4 –  بنّاصر البُعزّاتي، الفكر العلمي والثقافة الإسلامية، دار الأمان للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 2015. (399 صفحة

5 – بنّاصر البُعزّاتي، فكرة السِّلم فجر النهضة الأوروبية، مركز الحكماء لبحوث السلام بالرباط، 2024. (يرجع الكتاب في أصله إلى محاضرة ألقاها الأستاذ البعزاتي بمقرّ المركز بالرباط).

  • ملخص المحاضرة (نص التقرير) :

  افْتُتِحَت فعاليات هذا النشاط الأكاديمي بكلمات افتتاحية تفضل بإلقائها السادة الأساتذة : نائب عميدة كلية الآداب الدكتور حسن بلحياح، والدكتور عبد الصمد تمرو رئيس شعبة الفلسفة بالكلية، والدكتور عزيز قميشو منسق فريق البحث “الفلسفة والفكر النقدي”. تطرقوا خلال كلماتهم إلى مجموعة من النقط، وقد أجمعت كل المداخلات على الإشادة بأهمية مثل هذه الأنشطة (المحاضرات) وعلى المكانة العلمية التي يحوزها الأستاذ بناصر البعزاتي داخل الوسط الفلسفي – الأكاديمي بالمغرب.

   في حقيقة الأمر، ليس من اليسير تقديم تلخيص وافٍ للأفكار الأساسية التي تفضل الأستاذ البعزاتي ببسط القول حولها في هذه المحاضرة؛ وذلك نظرا لما يطبع بناءها (المحاضرة) الداخلي من دقة نظرية وتماسك منطقي وترابط استدلالي. هذا إضافة إلى كثرة ودقة المعطيات التاريخية التي عرّج عليها الأستاذ المحاضر خلال عرضه. لكن رغم ذلك، فهذا الأمر لا يحول دون تقديم تلخيص مجمل نقف فيه عند النقط التي بدت لنا أهم من غيرها، آملين أن نتفادى قدر الإمكان إضفاء أي طابع اختزالي على تلك الأفكار المهمة. كما نأمل أن تعرف هذه المحاضرة، في القريب العاجل، طريقها إلى النشر، إذ لا يخفى أن أي تلخيص مهما بلغت دقته أو أمانته فإنه يبقى قاصرا – دون أدنى شك – عن أن يقوم مقام النص الأصلي.

   قَسّمَ الأستاذ البعزاتي محاضرته إلى خمسة عناوين جاءت على الشكل التالي : 1- مقدمة تاريخية. 2- علامات من تاريخ العلوم. 3- الدرس من التقدم في البحث التاريخي في العلوم. 4- تاريخ العلوم والإبستمولجيا والإنسانيات. 5- تاريخ العلوم ومسألة التفسير.

   بدأ الأستاذ المحاضر حديثه، في العنوان الأول، بالوقوف عند بعض الدلالات المتعلقة بالجانب المصطلحي لعبارة “تاريخ العلوم”، وقد استند في ذلك إلى بعض الشواهد التاريخية بغرض التأكيد على حقيقةِ أن العلاقة القائمة بين العلم والجانب التاريخي – أو “الكتابة التاريخية” بلغة المحاضر – تعود إلى فترات متقدمة قد تصل إلى حدود القرن السادس قبل الميلاد. من جهة أخرى، وبما أن التأريخ لوقائع معينة لا يمكن أن يسبق حدوث تلك الوقائع نفسها، ونظرا لأن عملية التأريخ تستدعي بالضرورة حدوث تغيرات معينة على مادة التأريخ، فمن المنطقي كذلك أن تاريخ العلم لا يمكن إلا أن يكون “لاحقا على وجود العلم”. وفي هذا السياق، أشار الأستاذ البعزاتي إلى أحد تلاميذ أرسطو خلال القرن الثالث قبل الميلاد، هو أوديمُس الرودِسي (توفي 295 ق.م)، الذي يمكن اعتباره “أول” مؤرخ للعلوم نظرا لأنه كتب فعلا كتابا عن تاريخ علم الفلك وآخر عن تاريخ الهندسة. إضافة إلى ذلك، لدينا أمثلة أخرى تشهد بأن بعض العلماء – الذين ينتمون إلى حقب تاريخية مختلفة – قد كانوا على وعي تام بما يطال المعرفة العلمية من تحولات أو تطورات، كما هو الحال مثلا مع سنيكا من القرن الثاني الميلادي أو مع الأسطرلابي من القرن الثاني عشر الميلادي … ويظهر أن هذه السمة تجعل مبحث تاريخ العلوم، باعتباره “ميدانا بحثيا”، متميزا هو الآخر – شأنه شأن باقي المباحث العلمية الأخرى – بخاصية “التقدم” في الكيفيات والمقاربات التي يعالج بها موضوع دراسته.

    خَصّص الأستاذ المحاضر العنوان الموالي، أي العنوان الثاني (“علامات من تاريخ العلوم”)، لإبراز السمات الأساسية لخاصية التقدم التي يشهدها مبحث تاريخ العلوم. ولتوضيح هذه “التمظهرات” ارتأى الأستاذ البعزاتي اختيار نموذج إجرائي يوضح من خلاله بعض أوجه هذه السمات بشكل أكثر تشخيصا. هكذا، اجتهد المحاضر في إجراء مقارنة بين نشرات مختلفة لكتاب مؤرخ العلوم الإنجليزي ألفرد ربّرت هَلْ (1920-2009) Alfred Rupert Hall المعنون في نشرته الأولى بـ”الثورة العلمية 1500-1800″ (سنة 1954)، وبـ”الثورة في العلم” في النشرة الثالثة الصادرة سنة 1983. وقَفَ الأستاذ البعزاتي من خلال المقارنة بين هذه النشرات على عدة “مراجعات مهمة” أجراها المؤلف على كتابه في النشرتين اللاحقتين (خصوصا النشرة الثالثة). طالت هذه المراجعات بعض الأفكار وبعض الأحكام، وهو ما جعل من هذه الأخيرة “أكثر مرونة وانفتاحا على المكونات النظرية” مما كان عليه الحال في النشرة الأولى. تجدر الإشارة إلى أن الأستاذ المحاضر قد قدّم مجموعة من الأمثلة والشواهد – الموثقة بشكل جيد جدا – تُبْرِزُ وجود اختلافات بين الطبعة الثالثة والطبعة الأولى على صعيد بعض الأفكار والمصطلحات المستعملة هنا أو هناك (أي في الطبعة الأولى أو في الطبعة الثالثة).

   ليس هذا فحسب، بل إن المحاضر قدم نموذجا إجرائيا آخر سعى من خلاله إلى التأكيد على نفس الهدف المتوخى من تقديم النموذج الأول (الخاص بألفرد هَلْ). ويتعلق النموذج الثاني بكتاب لمؤرخ العلوم الأمريكي برنارد كوهين (1914-2003) I. Bernard Cohen يحمل عنوان “ميلاد فيزياء جديدة” (صدر عام 1960). أجرى الأستاذ البعزاتي مقارنة بين هذه النشرة والنشرة الثانية الصادرة سنة 1985 بغرض الوقوف على أهم التغيرات التي شهدها الكتاب على مستوى رؤية المؤلف لـ”السيرورة الفكرية والتكوين المفهومي” الخاص بـ”التحول العميق” الذي طال علم الديناميكا في بداية القرن السابع عشر. وكما هو الحال بخصوص المثال الأول، فإن المحاضر خص هذا المثال الثاني أيضا بمجموعة من التوضيحات والتعليقات المتنوعة من خلال الاستناد إلى شواهد نصية (تخص بعض الأفكار والمفاهيم والجمل والمصطلحات المختلفة بين النشرتين) وأمثلة تاريخية متينة التوثيق.

   فضلا عن ذلك، فقد أتى أيضا بنموذج متأخر زمنياً، هو كتاب داڤد لندبرﮔ D. C. Lindberg “بدايات العلم الغربي” المنشور أوّل نشرة عام 1992م. ثم أصدر المؤلف نشرة ثانية عام 2007م. وقد تتبّع المحاضِر الفارق بين النشرتين من حيث بعض الجمل والعبارات والجمل والأحكام؛ بل أشار كذلك إلى تغيير كتابة اسم ابن الهيثم بالحرف اللاتيني بين النشرتين. هذه التغييرات، البسيطة أحياناً لكنها مفيدة، تعبّر عن اقتراب أفضل إلى الملابسات التاريخية المتعلقة بالفترات التاريخية والنصوص وأصحابها، حيث تساعد على تكوين فهم أحسن من السابق. فالباحث في أي ميدان علمي يستفيد مما ينجزه الباحثون الآخرون، وهو ما يعبّر عن الطابع الجماعي والتفاعلي للبحث العلمي في تاريخ العلوم. فتاريخ العلم إذن يساير المستجدّات في الميادين البحثية المجاورة.

   إن النتائج النظرية التي توخاها الأستاذ البعزاتي من تقديم هذه النماذج من البحث التاريخي وتغيير في التناول والأحكام والتقييم، هي ما سيخصص له العنوان الثالث من المحاضرة، والذي يحمل العنوان التالي : “الدرس من التقدم في البحث التاريخي في العلوم“.

   يؤكد في هذا العنوان الثالث على أن الأبحاث المنجزة في إطار مبحث تاريخ العلوم تشهد هي الأخرى مجموعة من المراجعات والتدقيقات نتيجة لتطور البحث في المجالات التي يُعنى بها مؤرخ العلوم. وهذا أمر طبيعي بحكم أن ظهور أي معطيات جديدة، كتلك التي تخص المخطوطات (النصوص) أو تتعلق بتغير المناخ الثقافي والفكري، تسهم بلا ريب في مزيد من التدقيق على مستوى الأحكام، كما تساعد على توفير مزيد من الإيضاح على مستوى الرؤى أو التصورات المتبناة من لدُن مؤرخي العلوم. ولتوضيح هذه الفكرة بشكل أكبر، يَعمدُ الأستاذ البعزاتي إلى تقديم مجموعة من التفاصيل الدقيقة والشروح المستفيضة لإحدى الدراسات التي أنجزها تومس سيتل Thomas B. Settle بعنوان “تجربة في تاريخ العلم: بواسطة جهاز بسيط لكن حاذق، تمكّن ﮔاليلي من الحصول على قياسات للزمن دقيقة نسبيا” (نُشرت سنة 1961)، حيث سيؤكد هذا المؤرخ عدم دقة بعض الأحكام، الصادرة عن بعض مؤرخي العلوم (كألسكندر كُويري)، التي تشكك – أو تنفي – إجراء جاليليو لـ”تجارب علمية”. وما كان لسيتل أن يصل إلى ما وصل إليه من نتائج مهمة بخصوص هذه المسألة لولا تقدم البحث في تاريخ العلوم وتوفر أدلة جديدة تخص هذه القضية. وكما تقدم، فإن الهدف من عرض كل تلك المعطيات كان أساسا هو التأكيد – من طرف الأستاذ البعزاتي – على نقطة جوهرية مفادها أن عملية التأريخ للأنشطة والمعارف العلمية لا يمكن أن تستقر على حال أو تقف عند نقطة معينة، بل إنها سيرورة تستجيب دائما للمستجدات ولـ”الاكتشافات” المتعلقة بجزئية من الجزئيات داخل مجال معين من تاريخ العلوم.

   يعالج العنوان الرابع، أي “تاريخ العلوم والإبستمولجيا والإنسانيات“، بعض التأثيرات التي يتلقاها مبحث تاريخ العلوم من المباحث المتاخمة له، كمبحث الإبستمولُجيا و”الإنسانيات” و”الاجتماعيات” و”التاريخيات”. فتطور البحث في تاريخ العلوم يمكن أن يستفيد الشيء الكثير من نتائج بعض الأبحاث التي تشهدها ميادين أخرى، كمجال الأنترُبولُجيا أو تاريخ الفن أو الإبستمولُجيا. لهذا السبب، يمكن القول، عموما، إنه من المحتمل جدا أن يكون أي تقدم في عملية البحث داخل تلك المجالات ذا تأثير إيجابي على تقدم البحث في مجال تاريخ العلوم نفسه، سواء من حيث تطور أدواته أو من جهة اتساع آفاقه وتعدد (غنى) مقارباته.

   ولشرح هذه التصورات وإضفاء طابع الوضوح عليها أكثر، يستعين الأستاذ البعزاتي ببعض الأمثلة المستقاة من الدرس الإبستمولُجي المعاصر في علاقته بتاريخ العلوم مركزا بشكل خاص على مِثالَيْ إمري لاكاتوش Imre Lakatos وكارل بوبر Karl Popper. وبخصوص هذا الأخير، يَعْرِضُ الأستاذ المحاضر بعض تصوراته (بوبر) تجاه العلاقة بين البناء النظري لكلّ من جاليلي وكبلر ونيوتن، مقدما (المحاضر) – في الآن نفسه – بعض الملاحظات النقدية إزاء تصور بوبر لتلك العلاقة. ليخلص إلى أن تصور بوبر هذا “يبتعد عن الوقائع” لأنه لا يستند إلى “كشوف البحث التاريخي”، وهو ما أدى به (أي بوبر) إلى “إنشاء تصور لا تاريخي للأبنية النظرية التي يتحدث عنها”.

   في مقابل ذلك، يُشدّد الأستاذ البعزاتي على أن أي دراسة تتوخى فهما “صائبا” للمعرفة العلمية – أو اقترابا من الممارسة الفعلية لهذه المعرفة – فإنها ملزمة بالاستعانة بمكتسبات البحوث المنجزة في تاريخ العلوم. كما يشير، من ناحية أخرى، إلى أن البحث التاريخي نفسه لا يستطيع أن يبقى بمنأى تام عن التأثر ببعض التصورات الإبستمولُجية التي توجه أبحاثه، كما لا يمكنه أيضا التخلص بشكل كلي “من تأثير كل موقف اجتماعي”. لهذا، على مؤرخ العلوم الذي يطمح إلى “إعادة بناء” الوقائع العلمية من الناحية التاريخية أن يركز على “المؤلفات والمسوّدات” مع احتفاظه دائما بنوع من التصورات الإبستمولُجية التي تتسم بخاصية النقد وصفة المرونة.

   جاء العنوان الخامس على الشكل التالي : “تاريخ العلوم ومسألة التفسير“. حاول فيه الأستاذ البعزاتي تحديد بعض المهام المنوطة بمبحث تاريخ العلوم. وهي مهام يمكن إجمالها، حسب ما ورد في المحاضرة، في ثلاث نقط : أ- اعتماد الفحص النقدي بهدف تصويب بعض “التفسيرات الساذجة” الناجمة عن بعض “الأحكام والقيم” التي يرثها الجيل اللاحق عن الجيل السابق (أو عن الأجيال السابقة). من جهة أخرى، يظهر أن كل فهم لاحق يكون أفضل من الفهم السابق، كما أن البحث في تاريخ العلوم يستفيد أيضا من النتائج التي تحصلها باقي الميادين المرتبطة به – أي بتاريخ العلوم – وفق كيفية من الكيفيات. وبما أن الفهم في تاريخ العلوم يعرف دائما نوعا من التطور، فيمكن القول، حسب الأستاذ البعزاتي، أن “تاريخ العلم بالذات ذو تاريخ”. ب- ينبغي على البحث في تاريخ العلوم أن يأخذ بمقاربة تنفتح على قراءات مختلفة، إذ من الأفضل أن تشمل هذه المقاربة “القراءة السسيولُجية والتعرّفية والإبستمولُجية- المتودولُجية”. ولاشك في أن هذا الأمر كفيل بأن يُكسب مؤرخ العلوم فهما وتفسيرا صائبين يكونان أقرب إلى الممارسة الفعلية للمعرفة العلمية. ج- في حالة دراسة تاريخ العلوم داخل سياق الحضارة العربية- الإسلامية (وحتى بالنسبة لتاريخ العلوم بصفة عامة) سيكون من المفيد لنا تعضيد الدراسات الخاصة بتراثنا العلمي بنتائج الأبحاث المنجزة في ميادين أخرى، كـ”تاريخ الفن” أو “تاريخ الإديولوجيات”. ولا يعني هذا الأمر أن تاريخ العلوم يجب أن يكتفي بدور سلبي بتلقي نتائج تلك المجالات، بل على العكس من ذلك، فإن هذه الميادين يمكن أن تدخل في علاقة تفاعل – “أخذا وعطاء” – مع مبحث تاريخ العلوم.

   خَتَم الأستاذ البعزاتي محاضرته بالتأكيد على بعض النقط المعينة، ولعل أهمها هو تشديده على أن مبحث تاريخ العلوم يسعى دائما في مسار تطوره إلى “الحصول على التفسير الأقوم” والوصول إلى “الفهم الأصوب”. وفي الحقيقة، فإن هذا لا يمنع من وجود رؤى مختلقة وتصورات متباينة حول بعض القضايا والمسائل التي يُعنى بها تاريخ العلوم، إلا أن الإقرار بهذه الحقيقة لا يقود بالضرورة إلى إنكار وجود “نواة معرفية صلبة تظل موضوع تهذيب بدون توقف”.

    وجريا على العُرْفِ السائد في مثل هذه اللقاءات الأكاديمية، فقد تم اختتام هذا النشاط بتخصيص حصة زمنية للأسئلة والاستفسارات والإضافات التي تقدم بها بعض الحضور، سواء من السادة الأساتذة أو من الطلبة الباحثين.

[1] – لحسن الحظ، فقد نُشرت جل هذه الأعمال ضمن منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط (ضمن سلسلة “ندوات ومناظرات”). أشرف الأستاذ البُعزّاتي على تنسيق عدة أعمال منها، نشير من بينها إلى :

العلم والفكر العلمي بالغرب الإسلامي في العصر الوسيط، تنسيق بنّاصر البُعزّاتي، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، الطبعة الأولى، 2001.

العلم : المحلية والكونية، تنسيق بنّاصر البُعزّاتي، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، الطبعة الأولى، 2002.

الفكر العلمي في المغرب : العصر الوسيط المتأخر، تنسيق بنّاصر البُعزّاتي، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، الطبعة الأولى، 2003.

التقليد والتجديد في الفكر العلمي، تنسيق بنّاصر البُعزّاتي، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، الطبعة الأولى، 2003.

– العناصر الإبدالية والتِيمية والأسلوبية في الفكر العلمي، تنسيق بنّاصر البُعزّاتي، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، الطبعة الأولى، 2004.

تكوّن المعارف : دور القياس التمثيلي، تنسيق بنّاصر البُعزّاتي، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، الطبعة الأولى، 2005.

الأبنية الفكرية في الغرب الإسلامي زمن ابن خلدون، تنسيق بنّاصر البُعزّاتي، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، الطبعة الأولى، 2007.

مؤسسات العلم والتعليم في الحضارة الإسلامية، تنسيق بنّاصر البُعزّاتي، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الطبعة الأولى، 2008.

[2]– بخصوص البيانات المتعلقة بهذه الأطروحة، يُنظر الرابط التالي : https://theses.fr/1988PA040303

[3]– نُشرت الأطروحة بعنوان: الاستدلال والبناء : بحث في خصائص العقلية العلمية، عام 1999.

ذ. عبد العزيز النقر

حاصل على شهادة الماستر في الفلسفة

باحث بمركز ابن البنا المراكشي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق