مركز أبي الحسن الأشعري للدراسات والبحوت العقديةأعلام

الإمام أبو حامد الغزالي

     هو محمد بن محمد بن محمد بن أحمد[1] المعروف بالغزالي، ويكنى أبا حامد، ولد سنة 450هـ – 1058م، في الطابران من قصبة طوس[2]، مع بداية العصر العباسي الثالث، الذي اتسم بتوالي الأحداث الجسام المتسارعة وتعدد الاتجاهات السياسية والفكرية، وتصادم النزعات وتضاربها، واتساع الدولة مع ضعف ارتباطها بالسلطة المركزية في عاصمة الخلافة العباسية (بغداد)، ونشوب الصراع بين الاتجاهات الدينية والدنيوية[3].
     نشأ الإمام الغزالي في بيت فقير لأب صوفي لا يملك غير حرفته، ولكن كانت لديه رغبةٌ شديدةٌ في تعليم ولديه محمد وأحمد، وحينما حضرته الوفاة عهد إلى صديق له متصوفٍ برعاية ولديه، وأعطاه ما لديه من مال يسير، وأوصاه بتعليمهما وتأديبهما[4]، اجتهد الرجل في تنفيذ وصية الأب على خير وجه حتى نفد ما تركه لهما أبوهما من المال، وتعذر عليه القيام برعايتهما والإنفاق عليهما فألحقهما بإحدى المدارس التي كانت منتشرة في ذلك الوقت، والتي كانت تكفل طلاب العلم فيها[5]، فدرس الغزالي في صباه على عدد من العلماء الأعلام…اتسم بالذكاء وسعة الأفق وقوة الحجة وإعمال العقل وشدة التبصرة مع شجاعة الرأي وحضور الذهن، كل ذلك أهله ليكون رائدا في تلك العلوم المختلفة والفنون المتباينة، فكان الغزالي فيلسوفا وفقيها وصوفيا وأصوليا، يحكمه في كل تلك العلوم إطار محكم من العلم الوافر، والعقل الناضج، والبصيرة الواعية، والفكر الراشد، فصارت له الريادة فيها جميعا، وأصبح واحدا من أعلام العرب الموسوعيين المعدودين[6].
     استقر المقام بالغزالي في نيسابور فترة طويلة حيث تزوج وأنجب، وظل بها حتى توفي شيخه الإمام الجويني في عام 478هـ/1085م، فغادرها وهو لم يتجاوز الثامنة والعشرين من عمره[7]، خرج إلى “المعسكر” فقصد الوزير السلجوقي “نظام الملك” الذي كان معروفا بتقديره العلم ورعايته العلماء[8]، فاستطاع أن يحقق شهرة واسعة بعد أن ناظر عددا من الأئمة والعلماء، وأفحم الخصوم والمنافسين، حتى اعترفوا له بالعلم والفضل، فارتفع بذلك ذكرُهُ وذاع صيتُه، وطار اسمُه في الآفاق[9]، ثم غادر بغدادَ إلى الشام، حيث أقام بها نحو عامين، فكان يقضي وقته معتكفا في مسجد دمشق، لا شغل له إلا العزلة والخلوة والرياضة الروحية ومجاهدة النفس والاشتغال بتزكيتها وتهذيب الأخلاق، وتصفية القلب لذكر الله تعالى[10]، ثم انتقل من دمشقَ إلى بيتِ المقدِس، فكان يدخل مسجد الصخرة كل يوم ويغلق الباب على نفسه وينصرف إلى عزلته وخلوته، وهناك بدأ في تصنيف كتابه الشهير “إحياء علوم الدين” ثم ما لبث أن عاد مرة أخرى إلى دمشق ليعتكف في المنارة الغربية من الجامع الأموي[11].

شيوخ الامام الغزالي:

أخذ الغزالي علمَه عن عدد من الأعلام الكبار، فأخذ الفقه عن الإمام أحمد الرزكاني في طوس، وأخذ عن الإمام أبي نصر الإسماعيلي، وأخذ أصول الفقه عن إمام الحرمين أبي المعالي الجويني، وكان الجويني لا يخفي إعجابه به، بل كان دائم الثناء عليه والمفاخرة به حتى إنه وصفه بـ ” بحر مغرق”[12]، وأخذ كذلك عن الفضل بن محمد الفارمذي، تلميذ أبي القاسم القشيري، والذي اشتهر في زمانه حتى صار مقصد طالبي التصوف وقد أخذ عنه الغزالي التصوف، كما أخذه عن الشيخ يوسف النساج.

تلاميذه:

للغزالي جم غفير من التلاميذ الكبار، منهم: أبو جلند ابن الرزاز، وأبو غيث الجيلي، والبارباباذي، وأبو البايخ الباقرجي، وأبو العباس الأقليشي وأبو بكر بن العربي، وعبد القادر الجيلاني، وغيرهم.

آثاره العلمية:

للإمام الغزالي أكثر من أربعمائة مصنف، بعضها مطبوع، وبعضها مخطوط، وبعضها مفقود، وقد أجملها عبد الرحمن بدوي في كتابه (مؤلفات الغزالي) وكذلك المؤرخون. ومن أبرز كتبه المنسوبة إليه[13].
1ـ الأجوبة المسكتة عن الأسئلة المبهتة.
2ـ إحياء علوم الدين، مطبوع.
3ـ أخلاق الأبرار والنجاة من الأشرار.
4ـ أربعين الغزالي، وهو قسم من كتابه المسمى: “جواهر القرآن” وقد أجاز أن يكتب مفردا، فكتبوه وجعلوه كتابا مستقلا.
5ـ أسرار الأنوار الإلهية بالآيات المتلوة، وهو كتاب مرتب على ثلاثة فصول.
6ـ أسرار الحج، مطبوع.
7ـ أسرار الحروف والكلمات.
8ـ أسرار المعاملات.
9ـ الإشارة المعنوية والأسرار الخفية.
10ـ إلجام العوام عن علم الكلام.
11ـ أيها الولد، مطبوع.
12ـ الاقتصاد في الاعتقاد، مطبوع.
13ـ تهافت الفلاسفة، مطبوع. وغيرها من الكتب النافعة.

آراؤه الكلامية:

قال الإمام الغزالي في تعريفه لعلم الكلام: ” هو علم مقصوده حفظ عقيدة أهل السنة، وحراستها عن تشويش أهل البدعة[14]. “ومن هذا التعريف يمكن أن نستنتج أن الغزالي لم يلغ دور العقل في تحصيل العقائد الإيمانية. كما أنه لم يخرج عن دائرة الفكر الأشعري في أن النقل هو الأساس، وأن العقل خادم للنقل، ووسيلة لإثباته، لذلك رفض المنطلقات الفكرية للحشوية الذين أخذوا بظواهر الشرع، وتركوا العقل جانبا، وفي الوقت نفسه نقد المعتزلة الذين تركوا الشرع واعتمدوا على العقل فقط[15].
ويعتبر الغزالي مؤسسا لمنهج استدلالي معرفي جديد جمع فيه بين علم المنطق وبين الأصول الإسلامية[16].
•  رأيه في حدوث العالم:
يقول الغزالي ردا على حجج الفلاسفة في مسألة حدوث العالم-والتي يمكن تلخيصها كما يلي-:
” إن فاعلية الفاعل للعالم قديمة، ويلزم منه قدم العالم، فلو كانت فاعليته حادثة مخصوصة بوقت معين لتوقفت على شرط حادث مختص بذلك الوقت، وإلا لزم الترجيح بلا مرجح، لأن اختصاص حدوث الفاعلية حينئذ بذلك الوقت دون ما قبله وما بعده مع تساوي نسبتها إلى جميع الأوقات تخصيص بلا مخصص.
والكلام في ذلك الشرط الحادث، كما في الحادث الأول، فلا بد له أيضا من آخر حادث، ويلزم التسلسل في الشروط الحادثة، وإذا كانت فاعلية قديمة، كان الأثر قديما أيضا، إذ لا يتصور تحقيق الأثر وإيجاد حقيقي في زمان مع عدم حصول الأثر فيه[17].
 قال الإمام الغزالي: “وما الذي يمنعنا أن نعتقد أن الله أراد أزلا أن يستمر العالم معدوما طول مدة عدمه، وأن يوجد بعد هذا الزمن في الوقت الذي وجد فيه، وحينئذ لم يكن وجوده قبل مرادا، فلم يحدث ثم حدث بعده في الوقت الذي عينه الله بإرادته القديمة لوجوده، وظل الله منزها عن كل تغيير[18].
ويقول كذلك في معرض تفنيد حجج القائلين بقدم العالم: “اختلف الفلاسفة في قدم العالم، والذي استقر عليه رأي جماهيرهم المتقدمين والمتأخرين القول بقدمه، وأنه لم يزل موجودا مع الله ومعلولا له ومساوقا له، غير متأخر عنه بالزمان، مساوقة المعلول للعلة، ومساوقة النور للشمس، وأن تقدم الباري تعالى عليه كتقدم العلة على المعلول، وهو تقدم بالذات والرتبة لا بالزمان، ولم يخرج عن هذا القول إلا تصريح لأفلاطون يفيد العكس، أوَّلَهُ بعضُهم وأبى أن يكون حدوث العالم معتقدا له. وصرح آخر كجالينوس في آخر عمره مفاده إلى التوقف في هذه المسألة والوقوف عند القول بلا أدري، على أنه لا يمكن أن يعرف، وأن ذلك ليس لقصور فيه، بل لاستعصاء هذه المسألة في نفسها على العقل..[19].
•  رأيه في إثبات وجود الله تعالى:
قال: “… وجوده تعالى وتقدس، برهانه، أنا نقول: كل حادث فلحدوثه سبب، والعالم حادث، فيلزم منه أن له سببا، ونعني بالعالم: كل موجود سوى الله تعالى. ونعني بكل موجود سوى الله تعالى: الأجسام كلها وأعراضها[20].
•  نفيه الأعراض عن الله تعالى:
انطلق الغزالي في نفي الأعراض عن الله تعالى من قاعدته الأساسية في الجدل والاستدلال، بتقرير الحقيقة أولا، ثم تفنيد الاعتراضات التي قيلت أو التي يحتمل قولها.
يقول الغزالي: ” وأنه ـ أي الله تعالى ـ ليس بجسم مصور، ولا جوهر محدود مقدر وأنه لا يماثل الأجسام، لا في التقدير ولا في قبول الانقسام وأنه ليس بجوهر، ولا تحله الجواهر، ولا بعرض، ولا تحله الأعراض، بل لا يماثل موجودا، ولا يماثله موجود”.
ويقول أيضا: “إن العالم منفعل له، وإنه غير مباشر لذلك، إذ ليس بجسم مقدر ولا بعرض ولا جوهر، والعالم منفعل له، وذلك لازم للعالم لزوما ضروريا، وهو تعالى مختار فيه”[21].
•  إثباته لكلام الله تعالى:
يقول الغزالي: “ندعي أن صانع العلم متكلم كما أجمع عليه المسلمون. واعلم أن من أراد إثبات الكلام بأن العقل يقضي بجواز كون الخلق مرددين تحث الأمر والنهي، وكل صفة جائزة في المخلوقات تستند إلى صفة واجبة في الخالق، فهو في شطط، إذ يقال له: إن أردت جواز كونهم مأمورين من جهة الخلق الذين يتصور منهم الكلام، فمسلم، وإن أردت جوازه على العموم من الخلق والخالق فقد أخذت محل النزاع، مسلما في نفس الدليل وهو غير مسلم. ومن أراد إثبات الكلام بالإجماع أو بقول الرسول صلى الله عليه وسام نفسه خطة خسف، لأن الإجماع يستند إلى قول الرسول عليه السلام، ومن أنكر كون الباري متكلما فبالضرورة ينكر تصور الرسول، إذ معنى الرسول المبلغ لرسالة المرسل، فإن لم يكن للكلام متصور في حق من ادعى أنه مرسل كيف يتصور الرسول؟ ومن قال: أنا رسول الأرض أو رسول الجبل إليكم فلا يصغى إليه لاعتقادنا استحالة الكلام والرسالة من الجبل والأرض، ولله المثل الأعلى، ولكن من يعتقد استحالة الكلام في حق الله تعالى استحال منه أن يصدق الرسول، إذ المكذب بالكلام لا بد أن يكذب بتبليغ الكلام، والرسالة عبارة عن تبليغ الكلام، والرسول عبارة عن المبلغ، فلعل الأقوم، منهجٌ ثالثٌ وهو الذي سلكناه في إثبات السمع والبصر في أن الكلام للحي إما أن يُقال هو كمال، أو يُقال هو نقص، أو يُقال لا هو نقص ولا هو كمال. وباطل أن يُقال هو نقص، أو هو لا نقص ولا كمال، فثبت بالضرورة أنه كمال، وكل كمال وجد للمخلوق فهو واجب الوجود للخالق بطريق الأولى[22].

وفاته:

توفي الإمام الغزالي رحمه الله في 14 من جمادى الآخرة 505هـ يوافق 19 من دجنبر 1111م، عن عمر بلغ خمسة وخمسين عاما، وترك تراثا صوفيا وفقهيا وفلسفيا كبيرا[23].

 

الهوامش:

 

1- إنباه الرواة عن أنباه النحاة، الوزير الشيباني القفطي، تح: محمد أبي الفضل إبراهيم، دار الكتب المصرية بالقاهرة، ط1/1950، 1/121. وبغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة، جلال الدين السيوطي، تح: محمد أبي الفضل إبراهيم، مطبعة البابي الحلبي بمصر، ط1/1964م، ص:155.
2- تاريخ دمشق، ابن عساكر تح: محب الدين أبي سعيد العمري، دار الفكر ببيروت، ط1/1996م، 55/200.
3- انظر أخبار الدولة السلجوقية، عبد الله الحسيني، لاهور. 1933م، 2-3. والإمام الغزالي وآراؤه الكلامية، حامد درع عبد الرحمن الجميلي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1/2005م، ص:19.
4- تاريخ دمشق 55/200. والأعلام للزركلي 7/22، ومعجم المؤلفين 11/266
5- سير أعلام النبلاء 19/327. والبداية والنهاية 12/173.
6- تاريخ دمشق 55/70، وسير أعلام النبلاء، 19/327، والبداية والنهاية 12/173.
7- البداية والنهاية 12/173.
8- تاريخ دمشق، 55/200.
9- الأعلام للزركلي 7/22، ومعجم المؤلفين 11/266.
10- تاريخ دمشق 55/200
11- سير أعلام النبلاء 19/327، والبداية والنهاية 12/173، والإمام الغزالي وآراؤه الكلامية ص:41.
12- الإمام الغزالي وآراؤه الكلامية ص:38.
13- انظر، الإمام الغزالي وآراؤه الكلامية ص:55-56، ومفتاح السعادة 2/51، 191-210، كشف الظنون 2/59، الأعلام للزركلي 7/22، معجم المؤلفين 11/266.
14- المنقذ من الضلال والموصل إلى ذي العزة والجلال، أبو حامد الغزالي، دار النفائس بدمشق، ط1/2009، بعناية أسعد السحمراني، ص:51.
15- الإمام الغزالي وآراؤه الكلامية ص: 66-67.
16- تفصيل ذلك في المرجع السابق من ص:89 فما بعدها.
17- نفسه ص:120
18- تهافت الفلاسفة، الإمام الغزالي، دار المعارف بالقاهرة، ط7/2007، تح: سليمان دنيا، ابتداء من الصفحة 88.
19- نفسه.
20- الاقتصاد في الاعتقاد، الإمام الغزالي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1/2004، وضع حواشيه عبد الله محمد الخليلي ص:24
21- انظر الإمام الغزالي وآراؤه الكلامية ص:136، وقواعد العقائد ص:16، ومعراج السالكين ص:139.
22- الاقتصاد في الاعتقاد ص: 67-68.
23- تاريخ دمشق 55/200. وسير أعلام النبلاء 19/327، والإمام الغزالي وآراؤه الكلامية ص:35.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق