مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

-أنموذجات من الوقفات المنتقدة على الإمام أبي عبد الله الهبطي وتوجيهها (11)-الجزء الأول

الحمد لله القائل: (وَقُرْءَاناٗ فَرَقْنَٰهُ لِتَقْرَأَهُۥ عَلَي اَ۬لنَّاسِ عَلَيٰ مُكْثٖ وَنَزَّلْنَٰهُ تَنزِيلاٗ)، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي تلقى القرءان عن ربه ورتله ترتيلا، وعلى ءاله وصحبه الذين تحملوه وأدوه إلينا أداء جميلا.

وبعد:

فقد ذكرتُ في الحلقة الأولى من حلقات هذا الموضوع أن وقوف الشيخ أبي عبد الله الهبطي (930ه‍) -رحمه الله- كانت غرضا لنقد بعض العلماء، فبعضٌ أنصف، وبعضٌ أصْلَف.

وذكرت أن الاستقراء التام لوقوف الشيخ الهبطي يُظهر أنه كان تابعا -في الأغلب- لمذهب الإمام نافع المدني -رحمه الله- في أصول مذهبه في الوقف، وهو كان ينظر إلى المعاني في وقوفه، وذكرت بعض الأنموذجات الوقفية المنتقدة عليه.

وهذا أنموذج آخر من الوقوف المنتقدة عليه، مع بيان وجهه وتأصيله:

* قوله تعالى في سورة الذاريات: (كَانُواْ قَلِيلاٗ مِّنَ اَ۬ليْلِ مَا يَهْجَعُونَ).

وقف الهبطي -رحمه الله- على قوله تعالى: (كَانُواْ قَلِيلاٗ)، ثم استأنف: (مِنَ اَ۬ليْلِ مَا يَهْجَعُونَ)، فوصفهم بالقلة، و(مَا) جاحدة.

ونستعرض أقوال علماء الوقف والابتداء، وعلماء التفسير في مصنفاتهم بيانا وتأويلا:

قال أبو بكر الأنباري رحمه الله: «وقوله تعالى: (كَانُواْ قَلِيلاٗ مِّنَ اَ۬ليْلِ مَا يَهْجَعُونَ) فيها وجهان: إن جعلت (مَا) توكيدا وقفت عليها ولم تقف على ما قبلها، ويكون المعنى: كانوا يهجعون قليلا من الليل، وإن جعلت (مَا)  مع(يَهْجَعُونَ) مصدرا على معنى: كانوا قليلا من الليل هجوعهم، صلح للمضطر أن يقف على (مَا)»(1).

وقال: «(كَانُواْ قَلِيلاٗ مِّنَ اَ۬ليْلِ مَا يَهْجَعُونَ)، في (مَا) وجهان: إن شئت جعلتها توكيدا للكلام، والخبر ما عاد من (يَهْجَعُونَ)، كأنه قال: كانوا يهجعون قليلا من الليل.

والوجه الثاني: أن تجعل (قَلِيلاٗ) خبر «كان» وترفع (مَا) بمعنى «قليل»، كأنه قال: كانوا قليلا من الليل هجوعهم، فمن الوجهين جميعا لا يحسن أن يوقف إلا على (يَهْجَعُونَ).

وروي عن يعقوب الحضرمي أنه قال: اختلفوا في تفسير هذه الآية فقال بعضهم: (كَانُواْ قَلِيلاٗ)، معناه: كان عددهم يسيرا، ثم ابتدأ فقال: (مِنَ اَ۬ليْلِ مَا يَهْجَعُونَ).

قال أبو بكر: وهذا فاسد؛ لأن الآية إنما تدل على قلة نومهم لا على قلة عددهم، وبعد، فلو ابتدأنا (مِنَ اَ۬ليْلِ مَا يَهْجَعُونَ) على معنى: من الليل يهجعون، لم يكن في هذا مدح لهم؛ لأن الناس كلهم يهجعون من الليل، إلا أن نجعل (مَا) جحدا»(2).

وقال أبو جعفر النحاس رحمه الله: «قال يعقوب: ومن الوقف قول الله جل وعز: (كَانُواْ قَلِيلاٗ)، فهذا الوقف التام، وتابع يعقوب على هذا الضحاك؛ لأن الضحاك قال: كانوا قليلا من الناس. قال يعقوب: ثم ابتدأ فقال: (مِنَ اَ۬ليْلِ مَا يَهْجَعُونَ).

قال أبو جعفر: إلا أن أهل التأويل سوى الضحاك، وأهل العربية وأهل القراءة سوى يعقوب على خلاف على هذا القول؛ منهم ابن عباس قال: كانوا قليلا من الليل ينامون، وهو قول الحسن وإبراهيم وأبو العالية»(3).

وقال أبو الحسن الغزال رحمه الله: «وقال يعقوب: الوقف (كَانُواْ قَلِيلاٗ)، يعني: قل عددهم، ثم قال: الله تعالى:(مِنَ اَ۬ليْلِ مَا يَهْجَعُونَ)، فجعل (مَا) نفيا»(4).

وقال أبو عمرو الداني رحمه الله: «قال يعقوب: (كَانُواْ قَلِيلاٗ) تام، وهو قول الضحاك، والمعنى: كان عددهم قليلا. وقال الضحاك: كانوا قليلا من الناس.

والآية دالة على قلة نومهم لا على قلة عددهم، والمعنى: كان هجوعهم -أي: نومهم- قليلا، وبذلك جاء التفسير.

حدثنا محمد بن عبد الله، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا علي، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا ابن سلام في قوله: (كَانُواْ قَلِيلاٗ مِّنَ اَ۬ليْلِ مَا يَهْجَعُونَ) قال: تفسير الحسن يقول: كانوا لا ينامون إلا قليلا»(5).

وقال أبو إسحاق الجعبري رحمه الله: «صالح عند يعقوب بتقدير: كان عددهم قليلا، وهو صحيح المعنى، واللفظ يأباه»(6).

وعده الأشموني رحمه الله وقفا كافيا، ثم قال: «وكذا: (مَا يَهْجَعُونَ)، قيل: (مَا) مصدرية، وقيل: نافية، فعلى أنها مصدرية؛ فالوقف على (يَهْجَعُونَ)، وفي الثاني على (قَلِيلاٗ)، والتقدير على أنَّها مصدرية: كان هجوعهم من الليل قليلا، وعلى أنها نافية: كان عددهم قليلا؛ ما يهجعون، أي: لا ينامون من الليل.

قال يعقوب الحضرمي: اختلف في تفسيرها فقيل: (كَانُواْ قَلِيلاٗ)، أي: كان عددهم يسيرا، ثم ابتدأ فقال: (مِنَ اَ۬ليْلِ مَا يَهْجَعُونَ)، وهذا فاسد؛ لأن الآية إنما تدل على قلة نومهم، لا على قلة عددهم»(7).

وقال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري رحمه الله: «(كَانُواْ قَلِيلاٗ مِّنَ اَ۬ليْلِ مَا يَهْجَعُونَ)، قيل: (مَا) مصدرية، أي: كان هجوعهم من الليل قليلا، وقيل: نافية، أي: كان عددهم قليلا، (مَا يَهْجَعُونَ)، أي: لا ينامون من الليل، فالوقف في الأول على (مَا يَهْجَعُونَ)، وفي الثاني على (قَلِيلاٗ)، ثم على(مَا يَهْجَعُونَ)، وهما صالحان، والأحسن الوقف على(يَسْتَغْفِرُونَ)»(8).

يتبع…

(1) إيضاح الوقف والابتداء: 1/334.

(2) إيضاح الوقف والابتداء: 2/906.

(3) القطع والائتناف: 684.

(4) الوقف والابتداء: 3/209.

(5) المكتفى: 204.

(6) وصف الاهتداء في الوقف والابتداء: 530.

(7) منار الهدى: 2/294.

(8) المقصد لتلخيص ما في المرشد: 740.

Science

 د. محمد صالح المتنوسي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق