مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات عامة

أسرار البيان في القرآن : البيانُ في سورَةِ النّاس: (بيَانُ الهَمْسِ)

صدقَ من قالَ: الكلامُ أقسامٌ ثلاثةٌ: الشعْرُ والنَّثْرُ والقُرآنُ. فَللْقُرآن الكريمِ تَفرُّدٌ، يَعلو بهِ على كلّ الأَساليبِ الكَلاميّة العَربيّة، الّتي عَرفهَا زمَانُ الناسِ في كلّ العُصُور. القُرآنُ صوتٌ، و رَسْمٌ، ولَفْظٌ، ونَظْمٌ، و بَيَانٌ. و بَيانُهُ يَحتَوي كلّ تلكَ المسْتوياتِ. فَإنْ شئتَ قلتَ : فيهِ بيانٌ صوتيٌّ، وبيانٌ رَسميّ، وبيانٌ لفظيٌّ، و بيانٌ نَظميّ. فكانتْ تلكَ المستوياتُ مُتكاملةً في إفادَة المعْنَى، لذلكَ فمفهُوم البيانِ هنَا، يتّسعُ ليَشملَ كلَّ مَا لهُ مُساهمَةٌ في كشْفِ مَعنىً من مَعاني القُرآنِ، أوْ تَوجيههِ، أو تَغليبهِ وتَرجيحهِ. يَبدأُ منَ الأصواتِ أداءً وتَرتيلاً، والحُرُوفِ في الألفَاظِ كتابةً ورسماً، ثمّ الكلمَاتِ مُعجماً وصَرفاً ودلالةً، إلَى النّظمِ والتّركيبِ مَعانيَ ووظائفَ نَحويّة.

وسَنحاولُ، بتَيسيرٍ منَ الله عزّ وجلّ أنْ نَقفَ ونَستوقِفَ، مُتدبِّرينَ، مَا أمْكَنَنا فَتْحٌ منَ اللهِ، بعضَ هذهِ البَياناتِ. في سِلسلَةٍ نَسألُ اللهَ أنْ يُباركَ فيهَا ويَنفَعَ بهَا.

البيانُ في سورَةِ النّاس: (بيَانُ الهَمْسِ)

ومنْ ذلكَ آياتُ سُورةِ (النَّاسِ).تَقرؤُها فَيأخُذُك مَا فيهَا منْ نَفَسٍ عجيبٍ مُمتَدٍّ منَ الهَمسِ والخَفَاءِ. تَقرؤُها فَيَرِدُ علَى سَمعِكَ جَرْسٌ مَهمُوسٌ بديعٌ يَتخلَّلُها، يَحملهُ إلَى رُوعِكَ منْ أُذُنيْكَ صَوْتُ (السّين) الَّذي يَتكرَّرُ عشرَ مرّاتٍ، في ثَماني كَلماتٍ: («النَّاس»: تَتكرَّر خمسَ مَرّات-«الوَسْوَاس»-«الخَنّاس»-«يُوَسْوسُ»)،وذلكَ في سِتّ آياتٍ قصيرَاتٍ.

وتسنُدُ ذلكَ الهَمسَ في(السّين)، حُرُوفٌ مَهْمُوسةٌ كالصَّاد والشِّين والتّاءِ والكَافِ. وتزيدُ مِنْ سَيْطرَةِ الهَمْس والخَفَاءِ فِيهَا، غَلَبَةُ حَركَة الكَسْرَةِ؛ فَكُلّ الأَسْمَاءِ فيهَا مَجرورَةٌ، وهيَ أربعَةَ عَشَرَ اسْماً، ابْتداءً مِنْ (رَبِّ) وانتهاءً إلَى (النَّاسِ)، بمَا فيهَا الاسمُ الموصُولُ(الَّذِي). والكَسرَةُ انْخِفاضٌ في الصَّوْتِ لذَلكَ سُمّيَتْ أيْضاً (الخَفْضَة)، وسَمّوْا حَرف الجرّ، الحَرفَ الخَافِضَ.

هَذا الحَشدُ الهَمْسِيُّ الْإِخْفَائِيُّ، يَتَكَشّفُ لكَ عَنْ عَدُوٍّ غَايَة في الخفَاءِ، يَمْلِكُ مِنْ سُلطان الكُمُونِ والتَربُّص، وقُوَّةِ النَّفاذِ والاخْتِرَاقِ مَا لَا قِبَلَ لَكَ بهِ. كَيْفَ لا، وقدْ قالَ اللهُ تَعَالَى عَنْ خَفَائِهِ:[إِنَّهُ, يَرﻳٰكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ, مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُم].وَقَالَ النَّبِيِّ، صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ، عَنْ نَفَاذِهِ وَاخْتِرَاقِهِ، وخَفِيّ مَسَالكِهِ، وانْسِلالِهِ، وَقُوَّةِ تَأثيرهِ عَلى البطائنِ والسَّرَائِر :«إِنَّ الشَّيْطانَ يَجْرِي مِن ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّم».

هذهِ القُوّة الكَيْديّة الوَسوَاسةُ الّتي يَجِدُ الإِنْسانُ نفسهُ أمَامَها ضَعيفاً عَاجزاً، لا يَقدرُ عَلَى رَدْعهَا وَصَدِّهَا إِلا قوَّةٌ جبّارَة غَالبَةٌ قاهرَةٌ، ولا يَمنعُ منهَا إلّا حصنٌ حَصينٌ، ورُكْنٌ شديدٌ، ذُو جَبرُوتٍ ومَلكوتٍ وعِزّة. لذَلكَ ابْتدَأَتِ السُّورَةُ بتِلكَ الأَلفَاظ القويَّةِ: (قُلْ أَعُوذُ)؛ بحُرُوفٍ قَويَّةٍ: (القَاف والهَمزَة والعَينُ والذّال)،وحَركاتٍ قويَّة: ثلاثُ ضمَّاتٍ وَ (وَاوُ) مَدٍّ، وهِيَ ضَمَّةٌ طويلةٌ. وتَلا ذَلكَ ثلاثُ صِفاتٍ لِلَّهِ تَعَالَى، كُلُّهَا مُضافَةٌ إِلَى (النَّاسِ): اللهُ الرَّبُّ، وَاللهُ الملِكُ، وَاللهُ الإلَهُ. وقدْ جَمَعَ فِيهَا مَا لَمْ يَجْمَعهُ غيرُه؛ رُبُوبيّة المدَبّر المنعِمِ، ومُلْكُ الجَبَّار الـمُقتَدِر، وألُوهِيَّةُ الأحَدِ الصَّمَدِ؛ ثلاثةُ حُصُونِ في الغَايَةِ مِنَ العِزَّةِ وَالْـمَـنَعَةِ.

ثُمَّ هَذِهِ الْإِضَافَةُ التشريفِيَّةُ التَّكْريمِيَّةُ للنَّاس، تجدُ مَعنَاهَا في بَيَانٍ خَفِيٍّ، في الفعْلِ (أَعُوذُ) بمَعْنَى أَتَحَصّنُ وأَعْتَصِمُ، طلَباً للحمَايَة والأمَان  وهُو فعلٌ قَويٌّ في حُرُوفِهِ وأصواتِهِ وحَرِكاتِهِ، يُقابلهُ فعلٌ مُضَارعٌ ليسَ في السّورَةِ غيرُهُ: (يُوَسْوِسُ) ، وهُوَ فِعْلٌ، رَغمَ مَا فِيهِ مِنْ ضَمَّةٍ ترفَعُهُ، إِلا أَنَّهُ فِعْلُ ضَعِيفٌ في حُرُوفِهِ ؛ ثَلاثةٌ منْ حُرُوفِ العِلّةِ اللَّيّنةِ، وسِينَان مَهْمُوسَان أحَدُهُمَا سَاكنٌ. لذَلك فَقُوَّةُ التَّعَوُّذِ فِي بِنَاءِ فِعْلهَا (أَعُوذُ)، تُوحِي بِقُوَّةِ التَّحَصُّنِ الدَّافِع، الـمَانِع الصَّادّ للوَسْوَسَةِ الَّتِي تنكشفُ أَمَامَهُ وَاهِيَةً عَاجزَةً، بِمَا يُوحِي بِهِ بِنَاءُ فعْلِهَا (يُوَسْوِسُ) منَ العِلَّةِ والضُّعْفِ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق