مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات محكمة

أثر بردة الإمام البوصيري في الشعر السنغالي

شُغف الشعراء بمدح سيد الوجود – صلى الله عليه وسلم -، وأغرموا بالثناء على علم الشهود، وحبَّروا على اختلاف أعصارهم وأمصارهم قصائدَ فائقة ومدائح رائقة في الإشادة بحميد خلاله والتنويه بجميل خصاله، إلى آياته الزاهرات ومعجزاته الباهرات، التي يضيق عنها الإحصاء، ويقصر عنها الإفاضة والاستقصاء، وتضل في مجاهلها الأحلام، وتزل بمداحضها الأقدام.

ومما حيكت في مدحه – صلى الله عليه وسلم – القصيدة الميمية أو «البردة» المسماة بـ«الكواكب الدرية في مدح خير البرية» التي نظمها الإمام شرف الدين محمد بن سعيد بن حماد الصنهاجيّ البوصيريّ (ت: 696هـ)، وهي في مائة وستين بيتا، أولها:

أَمِنْ تَذَكُّرِ جِيرَانٍ بِذِي سَلَمِ = مَزَجْتَ دَمْعًا جَرَى مِنْ مُقْلَـةٍ بِـدَمِ

 والقصيدة جليلة القدر، نابهة الذكر، بديعة الوصف، رفيعة الرصف، شاع في الآفاق رونق سبكِها، وذاع في الأمصار جودة حبكها، إلى صحّة معانيها، وسهولة ألفاظها ومبانيها، يقول حاجي خليفة -رحمه الله – (ت:1067هـ): «هذه القصيدة الزهراء، والمديحة الغراء، بركاتها كثيرة، ولا يزال الناس يتبركون بها في أقطار الأرض»، ويقول: «ولما بلغت الصاحبَ بهاءَ الدين وزيرَ الملك الظاهر، استنسخها، ونذر أن لا يسمعها إلا حافيا، واقفا، مكشوف الرأس. وكان يتبرك بها، هو، وأهل بيته، ورأوا من بركاتها أمورا عظيمة في دينهم ودنياهم»(1).

ويقول الدكتور زكي مبارك: «نستطيع الجزم بأن الجماهير في مختلف الأقطار الإسلامية لم تحفظ قصيدة مطولة كما حفظت البردة، فقد كانت ولا تزال من الأوراد: تُقرأ في الصباح، وتُقرأ في المساء، وكنت أرى لها مجلسًا يُعقد في ضريح الحسين بعد صلاة الفجر من كل يوم جمعة، وكان لذلك المجلس رهبة تأخذ بمجامع القلوب، والذي يزور ساحة المولد النبوي بالقاهرة يرى المئات يرتلونها في هيبة وخشوع، وكثير من الناس كانوا يجمعون الأطفال لقراءتها في الجنازات»(2).

ويدل على مكانة هذه القصيدة ما وضع عليها من شُروح وحواشٍ فضلا عن ولع الشعراء بمعارضتها وتشطيرها وتضمينها وتخميسها وتسبيعها وتعشيرها، فحملت تلك النصوص في حناياها فوائد كثيرة وعوائد وفيرة.

وممن شرحوها(3): ابن هشام النحوي (ت:761هـ)،  وابن مرزوق الحفيد (ت:842هـ)، وجلال الدين المحلي (ت:864هـ)، والشيخ خالد الأزهري (ت:905هـ)، والشيخ شهاب الدين القسطلاني (ت:923هـ)، والشيخ العلامة زكرياء الأنصاري (:926هـ)، والعلامة المحدث ابن حجر الهيتمي (ت:973هـ)، والشيخ الملا علي القاري (ت:1014هـ)، والشيخ ابن عجيبة الحسني (ت:1224هـ)، والشيخ الباجوري (ت:1276هـ) –رحمهم الله-.

وأما الذين لفوا لفَّها معارضة وتشطيرا وتضمينا فخلق كثير، ذكر بعضهم زكي مبارك في كتابه: «المدائح النبوية»(4)، وحسبنا في هذه العجالة ممن عارضوها  أمير الشعراء أحمد شوقي (ت:1351هـ/1932م) في «نهج البردة»، والشاعر الفحل محمود سامي البارودي (ت:1322هـ/1904م) في «كشف الغمة في مدح سيد الأمة».

ومن آثار «البردة» أن نشأ فنّ «البديعيات»، فهي بركة من بركاتها، وهي قصائد في مدح النبي – صلى الله عليه وسلم -،  على بحر البسيط، وروي الميم المكسورة، يتضمن كل بيت من أبياتها نوعا من أنواع البديع، يكون هذا البيت شاهدا عليه، وربما وُرِّيَ  باسم النوع البديعي في البيت نفسه في بعض القصائد(5).

وظهر هذا الفن في القرن الثامن الهجري، وبرز فيه جلة من الشعراء منهم: صفي الدين الحلي (ت:750هـ) في «الكافية البديعية في المدائح النبوية»، وعز الدين الموصلي (ت:789هـ)، وابن جابر الأندلسي (ت:779هـ) في «حلة السيرا في مدح خير الورى»، وابن حجة الحموي (ت:837هـ) الذي شرح بديعيته في «خزانة الأدب وغاية الأرب»، وجلال الدين السيوطي (ت:911هـ) في «نظم البديع في مدح خير شفيع» وقد شرحه أيضًا، وابن معصوم المدني (ت:1119هـ) في «أنوار الربيع في أنواع البديع».

مكانة البوصيري -رحمه الله – لدى العلماء والشعراء السنغاليين:

يكنّ السنغاليّون حبًّا خالصًا للإمام أبي عبد الله محمد البوصيريّ (ت: 696هـ)، وله مكانة خاصّة في قلوبهم؛ فقد أكثروا من ذكره، وتغنّوا باسمه، وسمّوا أبناءهمْ باسمه، إلى عنايتهم بتراثه الشعري وخصوصا مدائحَه التي نمّقها في مدح سيد الوجود – صلى الله عليه وسلم -، مثل: الميمية (البردة) التي عليها مدار حديثنا في هذه السطور، والهمزيّة التي عارضها الشيخ محمد الخليفة انياس في «مرآة الصفا في سيرة النبيّ المصطفى»، والقصيدة المحمدية التي يكثر الشعراء السنغاليون من إنشادها والاستمداد منها(6)، وأولها: [البسيط]

محمّدٌ أشرفُ الأعرابِ والعجَمِ = محمدٌ خير من يَمشي على قدمِ

ولبُردتها على وجه الخُصوص صيت ذائع، وانتشار واسع، فقد راجت في مشارق السنغال ومغاربها، وذاعت في آفاقها ومناكبها؛ إذ هي من النصوص الشعرية التي تقرأ في المدارس، والمتون الأدبية التي تدرس في المجالس، وكذلك فلأهل الطرق والزوايا عناية بتلاوتها، وحرص على مدارستها، لاسيما في المناسبات الدينية والموالد، كزاوية الشيخ الحاج مالك سه -رحمه الله – بـ«تواون» الذين ينشدونها في ليالي شهر المَولد إنشادًا ينشط النفوس ويهيج القلوب.

ويحكى أن العالم العلامة الشيخ القاضي مجختي كل (ت:1902م) كان يعطي فرساً لكل من يحفظ «البردة».

وذكر حامل لواء الشعراء التجانية الشيخ محمد الخليفة انياس الكولخيّ (1378هـ/1959م) في مقدمة تضمينه للبردة الموسوم بـ«خالص الشُّهدة في تضمين البردة» ما نصّه: «فقد أخبرني والدي – تَغَمَّدَهُ اللهُ بِرَحْمَتِهِ-، أني كنتُ مُسْتَرْضِعًا؛ رُبَّمَا أكون مُلْتَقِمًا ثديَ أُمِّي؛ فأسمع مُنْشِدًا ينشد بعض المدائح النبوية؛ فَأَلْفِظُ الثَّدْيَ، وأُصْغِي إلى المنشد، وأتمايل! ولما ترعرعتُ؛ أتاني أبي يوما من أول النَّهارِ، وناولني طِرْسًا فيه (البردة)، وأمرني بحفظها… فأتيتُ آخر ذلك اليوم؛ فأمْلَيْتُهَا من صدري؛ ولم أزل مستحسنا لها. وقد  مدحتُ ذلك الجنابَ الأفْخَمَ [أي النبي – صلى الله عليه وسلم -] بديوانٍ من الشِّعْرِ؛ مرتَّبًا على الحروف الهجائِيَّةِ. ثم إنِّي مَنَّ اللهُ عَليَّ بِتَضْمِينِ (الْبُرْدَةِ)؛ راجيا قبول الجميع. وسمَّيْتُهَا «خَالصَ الشُّهْدَةِ فِي تَضْمِينِ الْبُرْدَةِ»(7).

ولم يقتصر اعتناؤهم بـالبردة البوصيريةِ على ذلك، بل هي من القصائد التي يهرعون إليها عند الحاجات، ويتوسلون بتلاوتها في دفع الملمات والآفات، إلى تأثر الشعراء بها وافتنانهم بها واستمدادهم من معانيها وألفاظها وصورها، واسترجاع الأماكن التي كان صاحب «البردة» يرددها ويتغنّى بها، فتكونت علاقات تناصية، واتصال وثيق بين الماضي والحاضر، وبين المشرق والمغرب، إلى تجديد التعلّق بسيد الوجود – صلى الله عليه وسلم – الذي لا يتم إيمان العبد إلا بمحبته، واتّباع سنته، والنصح لأمته.

ومن ملامح تأثرهم بالبُردة واستمدادهم بها قول الشيخ محمد الخليفة انياس (1378هـ/1959م) (8):

يَقُودُهُمْ ذُو حِفَاظٍ لاَ يُنَهْنِهُهُ = لَفْحٌ مِنَ الْحَرْبِ فَوْقَ الْبِيضِ ذُو ضَرَمِ

مُحَالِفُ النَّصْـرِ مَيْمُونٌ نَقِيبَتُهُ = كَالْبَدْرِ أَشْرَقَ فِي دَاجٍ مِنَ الظُّلَمِ

فالشاعر في العجز الأخير ينظر إلى قول البوصيري:

سَرَيْتَ مِن حَرَمٍ ليلا إلى حَرَمٍ = كما سَرَى البَدْرُ في داجٍ مِنَ الظُّلَمِ

ومن ذلك أيضاً قول الشيخ إبراهيم انياس الكولخي (ت:1975م):

فما ادَّعتهُ النصارى خلِّ عنك وقلْ = ما شئتَ فيه بلا شكٍّ ولا وهم

فلست تدرك بالإسهاد مِدحتَه = حتى تخاف غلوًّا مادحَ العلم

إذ ليس يعرف إلا الله غايتَه = بهذه الدار أو بتلك من أرم

وقول الشيخ إبراهيم جوب المشعري (ت:1933م) (9):

صَرِّحْ بِتَفْضِيلِهِ عَلَى الْهُدَاةِ وَقُلْ = مَا شِئْتَ فِيهِ وَأَبْطِلْ شِرْعَةَ الرُّومِ

وَانْسُبْ إِلَى ذَاتِهِ مَعْ قَدْرِهِ أَبَدًا = مَا شِئْتَ مِنْ شَرَفٍ عَالٍ وَتَعْظِيمِ

فالشاعران كلاهما ينظران إلى قول البوصيري:

دَع ما ادَّعَتهُ النصارى في نَبِيِّهِمِ = واحكُم بما شئتَ مَدحًا فيه واحتَكِمِ

وانسُبْ إلى ذاتِهِ ما شئتَ مِن شَرَفٍ = وانسُب إلى قَدْرِهِ ما شئتَ مِن عِظَمِ

فَإِنَّ فَضلَ رسولِ اللهِ ليس له = حَدٌّ فَيُعرِبَ عنهُ ناطِقٌ بِفَمِ

ومن ذلك قول الشيخ إبراهيم جوب المشعري (ت:1933م) (10):

أَطَالَ إِلَهُ الْعَرْشِ عُمْرَكَ آمِنًا = وَجَازَاكَ عَنَّا اللَّهُ مَنْ هُوَ فَاتِحُ

بِجَاهِ النَّبِيِّ الْمُصْطَفَى خَيْرِ خَلْقِهِ = فَتًى رَاوَدَتْهُ بِالذُّهُوبِ الْأَبَاطِحُ

فالشاعر في العجز الأخير ينظر إلى قول البوصيري:

وَرَاوَدَتْهُ الجِبَالُ الشُّمُّ مِنْ ذَهَب = عَنْ نَفْسِهِ فَأَرَاهَا أَيَّمَا شَمَم

ويشير المشعري إلى مطلع «البردة» أيضا بقوله(11):

وَكَمْ أُسَائِلُ عَنْكُمْ كُلَّ وَافِدَةٍ = وَالشَّوْقُ أَلْبَسَنِي ثَوْبًا مِنَ السَّقَمِ

وَلَا أَرَى لِشِفَا مَا حَلَّ مِنْ سَقَمٍ = وَلَا لِإِطْفَاءِ مَا بِالْقَلْبِ مِنْ ضَرَمِ

إِلَّا امْتِدَاحِيَ مَنْ أَنْسَتْ مَحَبَّتُهُ = قَلْبِي تَذَكُّرَ جِيرَانٍ بِذِي سَلَمِ

وكان من شدة تأثرهم «البردة» واستمدادهم منها وتيمنهم بها أن أجروْا جيادَ أقلامهم في حلبة معارضتها وتضمينها وتشطيرها، وإن كان تضمينهم لها أكثرَ وأَسْيَرَ، وسنفصل الحديث في كل منها:

معارضة بردة الإمام البوصيري -رحمه الله –:

افتتن الشعراء السنغاليون بقصيدة «البردة» وأعجبوا بها، فاندفع بعضُهم إلى معارضتها والنسج على منوالها، تعرّضًا لنفحاتها، وتلمّسًا لبركاتها، ومعنى المعارضة: «أن يقول شاعر قصيدة في موضوع ما، من أيّ بحرٍ وقافية فيأتي شاعر آخر فيعجب بهذه القصيدة لجانبها الفنّي وصياغتها الممتازة فيقول قصيدة في بحر الأولى وقافيتها وفي موضوعها مع انحراف يسير أو كثير حريصاً على أن يتعلَّق بالأول ودرجته الفنّية ويفوقه فيها، دون أن يعرض لهجائه أو سبه، ودون أن يكون فخره صريحا علانية، فيأتي بمعانٍ أو صور بإزاء الأولى، تبلغها في الجمال الفنّي أو تسمو عليها بالعمق أو حسن التعليل أو جمال التمثيل أو فتح آفاق جديدة في باب المعارضة»(12).

وقد أنشأ جماعة من الشعراء السنغاليين قصائدَ في مدح النبي – صلى الله عليه وسلم – من البحر البسيط على رويِّ الميم المكسورة، ولا أراها إلا نسجا على منوال «البردة» ومحاذاة لها، وتيمنا بها، مثل: «خلاص الذهب في سيرة سيد العرب» للعالم التواوني الشيخ الحاج مالك سه (ت:1340هـ/1922م)، وأولها:

الحمدُ لله ذي الإيجاد والقِدمِ = مُمِدِّنا بوُجود البدْر ذي القِدَمِ

ثم الصلاةُ وتسليمٌ يفوقُ على = مسْكٍ وَرَنْدٍ على ذي الفضل والقَدَمِ

و«نيل الأرب في مدح خير العرب»، للشيخ محمد الخليفة انياس (ت:1378هـ/1959م)، وأولها(13):

إِنَّ الْمَنَازِلَ مِنْ سَلْعٍ وَمِنْ إِضَمِ = هَاجَتْ عَلَيْكَ هَوًى فِي الْقَلْبِ لَمْ يَرِمِ

تقَادَمَ الْعَهْدُ مِنْهَا فَهْيَ دَارِسَةٌ = وَفِي الْفُؤَادِ جَدِيدُ الْحُبِّ ذِي الْقِدَمِ

فَرُبَّمَا جَادَتِ الْعَيْنَانِ سَاحَتَهَا = بِاللُّؤْلُؤِ الرَّطْبِ فَوْقَ النَّحْرِ كَالنُّظُمِ

و«الشفا في مدح المصطفى» للشاعر أحمد عيان سه (ت:1984م)، وأولها(14):

غزالة البان من غزلان ذي سلم = ألفاظ أجفانها عمْدًا سفكن دمي

أمسَتْ بها زَفراتي تغتلي، وغدَا = دمْعي إذا صنْته يَجري على قدمي

واهًا لها ركْن صبري صار مُنهدمًا = عنها فما رُكْن أشواقي بمنهدم

ويظهر ذلك جليًّا في قصيدة الشيخ مام ماجور كمب سيسي (ت:1893) الرائقة، وميميته الفائقة التي مطلعها(15):

بَدِيعُ مَطْلَعِكُمْ يَا جِيرَةَ الْعَلَمِ = سَنَا بَرَاعَتِهِ نَارٌ عَلَى عَلَمِ

إِنْ جِئْتَ سَلْعاً فَسَلْ عَنْ رِيمِ رَامَةَ هَلْ = بِالْبَانِ مُذْ بَانَ عَنِّي أَوْ بِذِي سَلَمِ

أَحِبَّةٌ أَرَّخُوا يَوْمَ الْوَدَاعِ عَلَى = خَدَّيَّ خَطًّا بِلاَ رَقٍّ وَلاَ قَلَمِ

صَدُّوا فَلَمْ يَبْقَ لِي جِلْدٌ وَلاَ جَلَدٌ = وَالْغُصْنُ يَذْوِي لِفَقْدِ الْبَارِدِ الشَّبِمِ

قَدْ هَدَّ دُونِي الْجَوَى رُكْناً وَثِقْتُ بِهِ = مُذْ هَدَّدُونِي بِسَيْفٍ مِنْ بِعَادِهِمِ

وَجَرَّ دُونِي النَّوَى ذَيْلَ الْفِرَاقِ وَلَمْ = أُبَالِ إِنْ جَرَّدُونِي مِنْ سُلُوِّهِمِ

جَدُّوا الْوَسَائِلَ إِذْ جَدَّ الرَّحِيلُ بِهِمْ = وَلاَ رَسَائِلَ تُجْدِي بَعْدَ جِدِّهِمِ

ويقول فيها(16):

مَارَدَّ حَاجِبَهُ مَنْ أَمَّ سَاحَتَهُ = وَلاَ يُعَلِّلُ مِنْ بُخْلٍ وَلاَ سَأَمِ

جَبِينُهُ مَعْدِنُ الْأَنْوَارِ أَجْمَعِهَا = وَقَلْبُهُ مَعْدِنُ الْأَسْرَارِ وَالْحِكَمِ

يَمِينُهُ الْبَحْرُ لاَ فَقْرٌ يُجَاوِرُهَا = وَفَضْلُهَا شَامِلٌ لِلنَّاسِ وَالنَّعَمِ

أَهْدَى وَأَبْهَى وَأَهْمَى للِنَّوَالِ يَداً = مِنَ الدَّرَارِي مِنَ الْبَدْرَيْنِ مِنْ دِيَمِ

رَحْبُ الْفِنَاءِ عَظِيمُ النَّارِ سَاطِعُهَا = يَكْفِي الْوَرَى مُؤْنَةَ الْحَيْرَانِ وَالْقَرَمِ

إِحْسَانُهُ وَمَزَايَاهُ وَنَائِلُهُ = وَالْحِلْمُ وَالْعَفْوُ جَمْعٌ غَيْرُ مُنْقَسِمِ

لاَ يَمْنَعُ الْخَيْرَ رَاجِيهِ وَإِنْ كَثُرُوا = وَيَمْنَعُ الْعِرْضَ مِنْ وَصْمٍ وَمِنْ تُهَمِ

مَا اخْتَارَ مَوْتاً عَلَى طِيبِ الْبَقَا أَحَدٌ = وَاخْتَارَهُ فَرَطاً حِرْصاً عَلَى الْأَلَمِ

مَنْ لاَذَ بِالْمُصْطَفَى دُنْيَا وَآخِرَةً = وَبَرْزَخاً لَمْ يَخَفْ مِنْ سَائِرِ النِّقَمِ

مَاذَا حَوَى الْغَارُ مِنْ فَضْلٍ وَمِنْ شَرَفٍ = إِذْ ضَمَّ مَنْ ضَمَّ مِنْ دَاعٍ وَمُلْتَزِمِ

لَنْ تُدْرِكَ الْمُقْلَةُ الْعَمْيَاءُ شَمْسَ ضُحًى = لاَ غَرْوَ إِنْ قِيلَ مَا بِالْغَارِ مِنْ أَرِمِ

ويقول الدكتور عامر صمب معلقا على القصيدة: «ومن الملاحظ أن الحاج مَاجُورْ سِيسِهْ شدا في قصيدتَيْه الشَّهيرتين شَدْو السيد محمد البوصيري في بردته المشهورة ولأجل ذلك لم يستطع أن يأتي من الأصالة في المعنى إلا بالقليل؛ إذ كل ما استشهد به من مكارم الأخلاق للنبي – صلى الله عليه وسلم – ومن معجزاته ومغازيه قد جاء أو كاد في كتب السير أو فيما نظمه الشعراء في مدح خير الأنام – صلى الله عليه وسلم -.

غير أنه ظهر في اللفظ جانب من أصالة، ودلت على ذلك ثروة المفردات ووفرة الإيقاع وبراعة في العروض وإحاطة خبرة بفن التنظيم والقوافي وعلم البديع والعربية الفصحى وفقه اللغة. ولجميع هذه الصفات اعتبر الناس الحاج مَا جُورْ سِيسِهْ من كبار الشعراء في السنغال»(17).

تضمين بردة الإمام البوصيري -رحمه الله –:

التضمين هو أن يضمن الشاعر شعره شيئا من شعر غيره، قال القزويني -رحمه الله -: «وأمّا التضمين فهو: أن يضمّن الشّعر شيئا من شعر الغير، مع التنبيه عليه إن لم يكن مشهورا عند البلغاء»، قال بهاء الدين السبكيّ -رحمه الله – في بسط كلامه:«أي: التضمين أن تجعل في ضمن الشعر شيئا من شعر غيرك، ولو بعض مصراع، فإن كان مشهورا، فشهرته تغني عن التنبيه عليه، وإن لم يك مشهورا، فلينبه عليه خوفا أن يظن به السرقة، بذكر ما يدل على نسبته لقائله»(18).

وإذا رجعنا البصرَ كرتين إلى تضمين «البردة» لدن الشعراء السنغاليين نلحظ أنه ينحو منحيين: أما الأول فجزئي ويكون بتضمين شطر أو بيت أو بيتين من قصيدة «البردة»، وأما الثاني فكليٌّ، ويكون بحذف صدور قصيدة «البردة» برمتها ونظم صدور أخر، والأول أكثر.

ومن رواد المنحى الأول أبو المحامد الشيخ الخديم -رحمه الله – (ت:1346هـ/ 1927م) مؤسس الطريقة المريدية بالسنغال الذي أكثر من تضمين أبيات «البردة»، ومن الاستعانة بها في مدائحه النبوية، ومن ذلك:

 قوله في قصيدته «الرائية»(19): [البسيط]

أَهْلُ الْفَصَاحَةِ طُرًّا بِالثَّنَا مَدَحُوا = وَلَيْسَ يُدْرَكُ بِالْأَكْوَابِ تَيَّارُ

كَعْبٌ وَحَسَّانُ وَالْبُوصِيرِ قَدْ بَرَعُوا = وَكُلُّهُمْ شِعْرُهُ نُورٌ وَأَسْرَارُ

فَمَبْلَغُ الْعِلْمِ فِيهِ أَنَّهُ بَشَرٌ = وَأَنَّهُ دُونَهُ عَقْلٌ وَأَفْكَارُ

فصدر البيت الثالث من قول البوصيريّ:

فَمَبْلَغُ الْعِلْمِ فِيهِ أَنَّهُ بَشَرٌ = وَأَنَّهُ خَيْرُ خَلْقِ اللهِ كُلِّهِمِ

وقوله في قصيدة: «يا ذا البشارات» التي نظمها في وداع شهر رمضان:

وَمَنْ تَكُنْ بِرَسُولِ اللَّهِ نُصْرَتُهُ = إِنْ تَلْقَهُ الْأُسْدُ فِي آجَامِهَا تَحُرِ

وَلَنْ تَرَى مِنْ وَلِيٍّ غَيْرِ مُنْتَصِرٍ = بِهِ وَلَا مِنْ عَدُوٍّ غَيْرِ مُنْزَجِرِ

بِهِ طَلَبْتُ مِنَ الْقَهَّارِ مُرْسِلِه = أَنْ رَاضَ لِي كُلَّ ذِي جَحْدٍ وَذِي ضَجَرِ

كَأَنَّهُ وَهْوَ فَرْدٌ مِنْ جَلَالَتِهِ = فِي عَسْكَرٍ حِينَ تَلْقَاهُ وَفِي زُمَرِ

فالبيتان الأولان من قول البوصيري -رحمه الله -:

وَمَنْ تَكُنْ بِرَسُولِ اللَّهِ نُصْرَتُهُ = إِنْ تَلْقَهُ الْأُسْدُ فِي آجَامِهَا تَجِمِ

وَلَنْ تَرَى مِنْ وَلِيٍّ غَيْرِ مُنْتَصِرٍ = بِهِ وَلَا مِنْ عَدُوٍّ غَيْرِ مُنْقَصِمِ

والبيت الرابع من قوله:

كَأَنَّهُ وَهْوَ فَرْدٌ مِنْ جَلَالَتِهِ = فِي عَسْكَرٍ حِينَ تَلْقَاهُ وَفِي حَشَمِ

وقوله(20):

وَاجَهْتُ مَنْ قَالَ فِيهِ صَادِقٌ فَطِنٌ = وَلَا نَبِيٌّ عَلَى غَيْبٍ بِمُتَّهَمِ

إِنَّ الرَّسُولَ لَسَيْفٌ يُسْتَضَاءُ بِهِ = مِنْ رَبِّهِ حَازَ عِلْمَ اللَّوْحِ وَالْقَلَمِ

فعجز البيت الأول من قول البُوصيري -رحمه الله -:

تبارَكَ اللهُ ما وَحيٌ بمُكتَسَبٍ = وَلَا نَبِيٌّ عَلَى غَيْبٍ بِمُتَّهَمِ

أما البيت الثاني فصدره من قصيدة «بانت سعاد» المشهورة.

وقوله في قصيدته:«جَالِبَةُ الْمَزِيَّاتِ وَدَافِعَةُ الرَّزِيَّاتِ فِي مَدْحِ خَيْرِ الْبَرِيَّاتِ»:

وَلَمْ أُرِدْ زَهْرَةَ الدُّنْيَا الَّتِي اقْتَطَفَتْ = يَدَا زُهَيْرٍ بِمَا أَثْنَى مِن اَبْيَاتِ

بَلِ امْتَدَحْتُكَ يَا مَوْلَايَ مُبْتَغِيًا = مِنْكَ الرِّضَى بَعْدَمَا تَمْحُو خَطِيئَاتِي

فالبيت الأول من قول البوصيري:

وَلَمْ أُرِدْ زَهْرَةَ الدُّنْيَا الَّتِي اقْتَطَفَتْ = يَدَا زُهَيْرٍ بِمَا أَثْنَى عَلَى هَرِمِ

ومن رواده أيضاً الشاعر الشيخ إبراهيم جوب المشعريّ (ت:1933م)، ويضمن شعره كثيرا من أبيات «البردة»، ومن ذلك قوله(21):

بُشْرَى لَنَا مَعْشَرَ الْإِسْلَامِ إِنَّ لَنَا = مِنَ الْعِنَايَةِ أَرْكَانًا مَتِينَاتِ

فهذا من قول البوصيري:

بُشْرَى لَنَا مَعْشَرَ الْإِسْلَامِ إِنَّ لَنَا = مِنَ الْعِنَايَةِ رُكْنًا غَيْرَ مُنْهَدِمِ

وقوله في مدح الشيخ الخديم -رحمه الله -(22):

مَا فِي الْأَكَابِرِ ذُو فَضْلٍ يُسَابِقُهُ = فَاعْرِفْهُ تَنْجُ مِنَ الْآفَاتِ وَالْوَبَدِ

إِنْ أَنْكَرَ الْأَغْبِيَاءُ فَضْلَهُ حَسَدًا = فَالْعَيْنُ تُنْكِرُ ضَوْءَ الشَّمْسِ مِنْ رَمَدِ

فالعجز الأخير من قول البوصيري:

قد تنكرُ العينُ ضوء الشمسِ من رمدٍ = ويُنْكِرُ الفَمُ طَعْمَ الماء منْ سَقَم

ولا يضر التغيير اليسير كما قال القزويني في «الإيضاح»(23).

وقوله(24):

فَلَا تُعَدُّ وَلَا تُحْصَى عَطِيَّتُهُ = وَلَا يَحُولُ عَطَاءُ الْيَوْمِ دُونَ غَدِ

قَرَّتْ بِهِ عَيْنُ مَنْ يَأْوِي (فَقُلْتُ لَهُ: = لَقَدْ ظَفِرْتَ بِحَبْلِ اللَّهِ) فَاعْتَمِدِ

فهذا من قول البوصيري:

قرّت بها عين قاريها، فقلتُ له: = لقد ظفرت بحبل الله فاعتصم

ومن رواد المنحى الثاني – وهو التضمين الكلي – العلامة الشاعر المفلق الشيخ محمد الخليفة انياس (1378هـ/1959م)، صاحب الدواوين الطنانة والقصائد الرنانة، فقد ضمَّن البردة في قصيدة أسماها: «خالص الشهدة في تضمين البردة»، ففيها استغنى عن صدور «البردة»، واقتصر على أعجازها فقط، وأتى بصدور أخرى تناسبها، إلا بيت المطلع المصرّع فلم يستغن عن صدره،  يقول -رحمه الله – في تضمينه(25):[من البسيط]

أَمِنْ تَذكُّرِ جِيرَانٍ بِذِي سَلَمِ = أَسْلَمْتَ نَفْسَكَ لِلْأَشْوَاقِ فِي سَلَمِ

لَمَّا كَتَمْتَ الْهَوَى فَاهْتَاجَ هَائِجُهُ = مَزَجْتَ دَمْعًا جَرَى مِنْ مُقْلَةٍ بِدَمِ

فَكَيْفَ تَصْبِرُ عَنْ حَيٍّ بِذِي سَلَمٍ = إِذْ أَوْمَضَ الْبَرْقُ فِي الظَّلْمَاءِ مِنْ إِضَمِ

فَمَا لِدَمْعِكَ لاَ يَنْفَكُّ وَاكِفُهُ = وَمَا لِقَلْبِكَ إِنْ قُلْتَ اسْتَفِقْ يَهِمِ

لَوْلاَ الْغَرَامُ لَمَا بَكَّيْتَ مَنْزِلَةً = وَلاَ أرِقْتَ لِذِكْرِ الْبَانِ وَالْعَلَمِ

لاَ تُنْكِرِ الْوَجْدَ مِنْ لَيْلَى فَقَدْ شَهِدَتْ = بِهِ عَلَيْكَ عُدُولُ الدَّمْعِ وَالسَّقَمِ

ثم يقول(26):

إِنِّي فَزِعْتُ إلَى مَنْ قَامَ مُحْتَسِبًا = حَتَّى اشْتَكَتْ قَدَمَاهُ الضُّرَّ مِنْ وَرَمِ

طَوَى السَّمَاوَاتِ سَبْعًا إِذْ سَرَى وَطَوَى = تَحْتَ الْحِجَارَةِ كَشْحًا مُتْرَفَ الأدَمِ

شُمُّ الْجِبَالِ تُرَجِّي أَنْ تَكُونَ لَهُ = عَيْنًا وَلَكِنْ أَرَاهَا أَيَّمَا شَمَمِ

فَاللَّهُ مِنْ كُلِّ مَا لَمْ يَرْضَ يَعْصِمُهُ = إِنَّ الضَّرورَةَ لاَ تَعْدُو عَلى الْعِصَمِ

فَكَيْفَ لاَ وَرَسُولُ اللهِ أَحْمَدُنَا = لَوْلاَهُ لَمْ تَخْرُجِ الدُّنْيَا مِنَ الْعَدَمِ

مُحَمَّدٌ دُرَّةُ الأَكْوَانِ جَوْهَرُهَا = خَيْرُ الْبَرِيَّةِ مِنْ عُرْبٍ وَمِنْ عَجَمِ

يَنْهَى وَيَأْمُرُ عَنْ وَحْيِ الإِلَهِ فَلَا = أَبَرَّ فِي قَوْلِ «لاَ» مِنْهُ وَلاَ «نَعَمِ»

وَهْوَ الشَّفِيعُ لِخَلْقِ اللهِ كُلِّهِمُ = لِكُلِّ هَوْلٍ مِنَ الأهْوَالِ مُقْتَحِمِ

بِهِ تَمَسَّكْتُ فَالْمُسْتَمْسِكُونَ بِهِ = مُسْتَمْسِكُونَ بِحَبْلٍ غَيْرِ مُنْفَصِمِ

عَلَى النَّبِيئِينَ رَبُّ الْعَرْشِ فَضَّلَهُ = وَلَمْ يُدَانُوهُ فِي عِلْمٍ وَلاَ كَرَمِ

فَالْكُلُّ مُغْتَرِفٌ مِنْ سَيْبِ فَيْضَتِهِ = غَرْفًا مِنَ الْبَحْرِ أَوْ رَشْفًا مِنَ الدِّيَمِ

وَالْكُلُّ لَمْ يَتَجَاوَزْ مَا يُحَدُّ لَهُ = مِنْ نُقْطَةِ الْعِلْمِ أَوْ مِنْ شَكْلَةِ الْحِكَمِ

اِخْتَارَهُ اللهُ فِي خَلْقٍ وَفِي خُلُقٍ = ثُمَّ اصْطَفَاهُ حَبِيبًا بَارِئُ النَّسَمِ

فَالْحُسْنُ فِي ذَاتِهِ قَدْ حَلَّ مُنْفَرِدًا = فَجَوْهَرُ الْحُسنِ فِيهِ غَيْرُ مُنْقَسِمِ

وَمَا يَقُولُ النَّصَارَى فِي الْمَسِيحِ فَدَعْ = وَاحْكُمْ بِمَا شِئْتَ مَدْحًا فِيهِ وَاحْتَكِمِ

بِكُلِّ وَصْفٍ جَميلٍ ذَاتُهُ اتَّصَفَتْ = فَانْسُبْ إِلى قَدْرِهِ مَا شِئْتَ مِنْ عِظَمِ

تشطير بردة الإمام البوصيري -رحمه الله –:

التشطير ويسمى بالتعجيز والتصدير، وهو فن من الفنون الأدبية التي أكثر منها الشعراء المتأخرون، ويذكر الرافعي في «تاريخه» أنه «لم يرد التشطير في شيء من المأثور عن الأدباء الذين نبغوا في الصناعات، كالصفي ومن في وزنه إلى أواخر القرن الثاني عشر»(27)، وقال: «أما أصل التشطير فلم نقف على كلمةٍ فيه للمتقدمين، ولا نظنهم تكلموا في ذلك، إذ هو مقصور على تعلق الشاعر بكلام غيره، وذلك من صنع المتأخرين، أما المتقدّمون فكانت لهم المُعارضة ونحوها مما لا يضطلع به إلا قويّ جريء، وهو أدل على حقيقة المقارنة والتنظير بين الكلامين»(28).

ويراد بالتشطير أن يعمد الشاعر إلى قصيدةٍ، فيضعَ لأعجازها صدورا، ولصدورها أعجازا، مثال ذلك قولي في تشطير الأبيات المشهورة، وهي:

«يَا خَيْرَ مَنْ دُفِنَتْ بِالقَاعِ أَعْظُمُهُ» = يَا مَنْ بِهِ يَنْجَلِي اللَّأْوَاءُ وَالغُمَمُ

يَا مَنْ لُهَاهُ سَرَتْ فِي الكَوْنِ قَاطِبَةً = «فَطَابَ مِنْ طِيبِهِنَّ القَاعُ وَالأَكَمُ»

«نَفْسِي فِدَاءٌ لِرَوْضٍ أَنْتَ سَاكِنُهُ» = تَهْوِي إِلَيْهِ بَنُو العَرْبَاءِ وَالعَجَمُ

فِيهِ مِنَ اللهِ آيَاتٌ مُبَيَّنَةٌ = «فِيهِ العَفَافُ وَفِيهِ الجُودُ وَالكَرَمُ»

«أَنْتَ الشَّفِيعُ الَّذِي تُرْجَى شَفَاعَتُهُ» = وَأَنْتَ -يَا سَيِّدِي- الغَوْثُ الذُّرَى الْعَلَمُ

وَمَنْ سِوَاكَ يُرَجَّى مَوْئِلاً وَزَراً = «عَلَى الصِّرَاطِ إِذَا مَا زَلَّتِ القَدَمُ»

«وَصَاحِبَاكَ فَلَا أَنْسَاهُمَا أَبَدَا» = وَالخَادِمُ الطُّوبَوِيُّ الْخِضْرِمُ القُثَمُ

أَيَا كِرَامُ الأُلَى هَامَ الفُؤَادِ بِهِمْ = «مِنِّي السَّلَامُ عَلَيْكُمْ مَا جَرَى القَلَمُ»

 وقد شطَّر بردةَ الإمام البوصيري -رحمه الله – جماعة من الشعراء منهم الشيخ عبد القادر سعيد الرافعي الفاروقي الحنفي الطرابلسي -رحمه الله – (ت:1230هـ) صاحب «نيل المراد في تشطير الهمزية والبردة وبانت سعاد»، ومطلعها تشطيره قوله(29):

أَمِنْ تذكّر جيرانٍ بذِي سَلَمِ = هجرت طيب الكرى ليلا فلم تنمِ

أم من هيامٍ ووجد في محبتهمْ = مَزَجْتَ دَمْعًا جَرَى مِنْ مُقْلَةٍ بِدَمِ

أَمْ هَبَّتِ الرِّيحُ مِنْ تِلْقَاءِ كَاظِمَةٍ = وفاح عرف الصبا من عرف طيبهمِ

أم لاح نور زرودٍ واللوى سحرًا = وَأَوْمَضَ الْبَرْقُ فِي الظَّلْمَاءِ مِنْ إِضَمِ

ومنهم الشاعر السنغالي المجيد الشيخ محيي الدين غاساما -رحمه الله – (ت:1975م) المشهور بـالحاج شيخ غاساما، كان «لغويًّا خبيرًا، وعروضيًّا محنكًا، وعالمًا ماهرًا، وشارحًا نحريرًا، وشاعراً موهوباً»(30)، وقد سمّى تشطيره بـ«تاج الجوهر في مدح صاحب الكوثر» أو «اليتيمة الفرْدة في وشي البردة»، ليشاطر أبا عذرها «عارفَ الشّعراء وشاعر العارفين(31)» ثواب ميميته، ومطلع قصيدته: [من البسيط]

أَمِنْ تذكّر جيرانٍ بذِي سَلَمِ = قَدْ بِتَّ تَرْعَى نجومَ الأُفْقِ لَمْ تَنَمِ

أَمْ من ظعين نأت والخوص تحملها = مَزَجْتَ دَمْعًا جَرَى مِنْ مُقْلَةٍ بِدَمِ

أَمْ هَبَّتِ الرِّيحُ مِنْ تِلْقَاءِ كَاظِمَةٍ = فهاجَ شَوْقَك هَوْجَ الرِّيحِ لِلْعَلَمِ

أَمْ جاورت إضمًا سلمى وجيرتُها = وَأَوْمَضَ الْبَرْقُ فِي الظَّلْمَاءِ مِنْ إِضَمِ

إلى أن قال:

مُحَمَّدٌ سَيِّدُ الكَوْنَيْنِ وَالثَّقَلَيْـ = ـنِ مَنْ أَتَى مَدْحُهُ فِي النُّونِ وَالْقَلَمِ

اَلْمُنْتَقَى سَيِّدُ السُّكَّانِ لِلْحَرَمَيْـ = ـنِ وَالْفَرِيقَيْنِ مِنْ عُرْبٍ وَمِنْ عَجَمِ

نَبِيُّنَا الْآمِرُ النَّاهِي فَلَا أَحَدٌ = مِنْ دُونِ تَصْدِيقِهِ يَنْجُو مِنَ النِّقَمِ

قُلْ مَنْ بِهِ أُرْسِلَ الرُّسْلُ الْكِرَامُ، فَلَا = أَبَرَّ فِي قَوْلِ «لَا» مِنْهُ وَلَا «نَعَمِ»

هُوَ الْحَبِيبُ الَّذِي تُرْجَى شَفَاعَتُهُ = إِذَا غَدَا الرُّعْبُ عَمَّ الرُّسْلَ كَالْأُمَمِ

مَا خَابَ قَطُّ الَّذِي قَدِ اسْتَغَاثَ بِهِ = لِكُلِّ هَوْلٍ مِنَ الْأَهْوَالِ مُقْتَحِمِ

دَعَا إِلَى اللهِ فَالْمُسْتَمْسِكُونَ بِهِ = بِالْحَظِّ نَالُوا مُعَلَّى مَيْسِرِ الْكَرَمِ

يَا فَوْزَ قَوْمٍ قَفَوْا آثَارَهُ فَهُمُ = مُسْتَمْسِكُونَ بِحَبْلٍ غَيْرِ مُنْفَصِمِ

فَاقَ النَّبِيئِينَ فِي خَلْقٍ وَفِي خُلُقٍ = وَفَاقَ مِنْهُمْ ثُبُوتًا كُلَّ ذِي قَدَمِ

فَلَا يُرَى مِنْهُمُ فِي الْجُودِ مُشْبِهُهُ = وَلَمْ يُدَانُوهُ فِي عِلْمٍ وَلَا كَرَمِ

إلى أن قال – وقد أحسن في التضمين والسبك-:

وَمَنْ تَكُنْ بِرَسُولِ اللهِ نُصْرَتُهُ = يَأْمَنْ بِهِ مِنْ أَذَى الْأَخْلَاقِ كُلِّهِمِ

فَلْيَمْضِ خَالِيَ بَالٍ فِي الْمَفَازَةِ إِذْ = إِنْ تَلْقَهُ الْأُسْدُ فِي آجَامِهَا تَجِمِ

فهذا التشطير ينم عن شاعريته، وقدرته الفائقة على صناعة الشعر، إلى ذكاء حادّ وأخذ بتلابيب اللغة وفنونها.

خاتمة:

هذه سطور في حسر الخمار عن قصيدة «البردة» للإمام شرف الدين محمد بن سعيد بن حماد الصنهاجيّ البوصيريّ (ت: 696هـ)، وعن مكانتها في مشارق الأرض ومغاربها، وعن اهتمام السنغاليين بها حفظاً وتحفيظا ودراسة وتدريساً، وحرص شعرائهم عليها، واحتذائهم لها معارضة وتضمينا وتشطيرا، ما يدل على رفعة القصيدة وجزالة ألفاظها ورقة معانيها، فكأن كر الملوين لا يزيدها إلا حسناً وبهاءً، وكأن حسن ديباجتها أسحر من هاروت وماروت.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق