مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةدراسات عامة

آية وعبرة “خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ” “وامر بالعرف” (2)

بسم الله الرحمن الرحيم

            الهداية الآية الثانية من  قوله تعالى:  “خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ” [الأعراف: 199] هي الأمر بالعرف ، والعُرف والمعروف والعارفة سواء؛ وهو ما ارتضاه الناس وتعارفوا علىه،  قال في القاموس: “والعارفة : المعروف، كالعرف بالضم.[1]” وقال في التاج: “يُقال : أَوْلاهُ عارِفَةً : أَي مَعْرُوفاً كما في الصحاحِ، ج : عَوارِفُ، ومنه سَمَّى السّهْرَوَرْدِيُّ كتابه عَوارِفَ المعارِفَ”[2] وأورد ابن منظور لابن الأنباري شاهدا لمعنى الرب بمعنى المصلح ضمنه العرف والمعروف قال فيه:

يَرُبُّ الذي يأْتِي منَ العُرْفِ أَنه … إِذا سُئِلَ المَعْرُوفَ زادَ وتَمَّما

وبمثل الدلالة اللغوية قال المحدثون قال ابن حجر:  “العرف المعروف، وصله عبد الرزاق من طريق هشام بن عروة عن أبيه بهذا وكذا أخرجه الطبري من طريق السدي وقتادة”[3]

    وقد  أخذت الدلالة الاصلاحية للعرف من اللغوية، ذلك أن شهرته بين الناس، وتمالأهم على استحسانه، وتعارفهم على حمد من وصف به، نقلت مسمى كل ما تستحسنه الفطر السوية إلى  المعروف، قال الفخر:  “والعرف والعارفة والمعروف؛  هو كل أمر عرف أنه لا بد من الإتيان به، وأن وجوده خير من عدمه”[4]، قال ابن جني: “لأن المعروف قد غَنِي بتعريفه عن اجتلابه ليفاد من جملة الكلام… ولو رأيتم المعروف رجلا لرأيتموه حسنا”[5]

         فالعرف إذن هو ما يستحسنه أصحاب الأذواق الرفيعة، التي حافظت على فطرها الربانية، ولم تدنسها رياح التغريب، ولم تشبها الأهواء المفسدة للأذواق السليمة، وفي مقابله المنكر؛ فحيث يؤمر بالمعروف، ففي ضمنه نهي عن المنكر ، فهما نقيضان، والنقيضان لا يجتمعان ولايرتفعان، وإنما المتصور فيها التقابل، فحيث يؤمر بالمعروف فهناك منكر يرجى تغييره، وحيث ينهى عن المنكر ففي طيه أمر بمعروف يرجى تنزيله وتوقيعه، ، قال الطاهر بن عاشور:   “والأمر يشمل النهي عن الضد، فإن النهي عن المنكر أمر بالمعروف، والأمر بالمعروف نهي عن المنكر، لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده، فالاجتزاء بالأمر بالعرف عن النهي عن المنكر من الإيجاز، وإنما اقتصر على الأمر بالعرف هنا: لأنه الأهم في دعوة المشركين لأنه يدعوهم إلى أصول المعروف واحدا بعد واحد”[6] .

       لماذا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ ألا يسع الإنسان أن يهتم بخاصته؟ و بتعبير آخر: أأنهى حاملُ مشعل الإصلاح  إصلاحَ ما بيده وما هو تحت تصـرفه ومسؤوليته، ليتجه لإصلاح الغير؟  أليس في ذلك تدخلا في حرمات الآخر؟ وانتهاكا للحريات الشخصية؟ أسئلة يُقصف بها الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر في هذا الأزمنة، وتحتاج لإجابة شافية، تبديدا لِلُبد الوهم والإيهام، والتي من شأنها أن تترك الفهيم حيران، أسئلة مربكة، تحتاج لإجابات مقعدة أصيلة، لكن قبل ذاك ينبغي النظر في خلفية المعترض، وتبين المرجعية التي يبنى عليها الحوار، فإن كان يشاطرك المبدأ والمنطلق فالأمر ميسور، ولا يرده إلا مكابر أو جحود، لكنه يتوقف على إتقان لغة الحوار، وإحسان فن الإقناع، ولا يتأتى منك ذلك إلا إذا كنت ريانا من علم الشريعة، تختار من الحجج أيها مبلغ للمراد.

              وإن كانت المرجعيات متباينة والمنطلقات مختلفة، فتلك مسألة أخرى، وطرح يحتاج لتقويض، لبدء التأصيل و الإعمار، وعتاد هذه غير تلك، نرجئ الحديث عنه للمقال القادم بحول الله.

[1] للفيروزابادي، مادة، ع رف، 1081.

[2] مادة ، ع رف.

[3] فتح الباري،  8/306.

[4] مفاتيح الغيب، 15/434.

[5] الخصائص: 3/233 وما بعدها

[6] التحرير والتنوير، 9/228.

Science

د.عبد الجليل الحوريشي

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق