مركز ابن أبي الربيع السبتي للدراسات اللغوية والأدبيةدراسات عامة

نيران العرب (الحلقة السابعة)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه إلى يوم الدين، وبعدُ:

فقد كنا فرغنا من القول في نيران العرب التي أوقدوها حقيقةً، وقامت بأمرها الأخبارُ، ورُويت فيها الأشعار، ونُورد ههنا ما ذكروا من النيران التي أتت في كلامهم على المجاز ولا تُراد حقيقتها، قلت:

وَعِنْدَهُمْ عَلَى الْمَجَازِ أَنْوُرُ === يُرَادُ حَرُّهَا وَلَيْسَتْ تُحْصَرُ

مِنْ ذَاكَ نَارُ الْحَرْبِ وَالشَّبَابِ === وَالشَّرِّ وَالْحَيَاةِ وَالشَّرَابِ

وَالْبَرْقِ وَالشَّوْقِ وَمَا يُقَاسُ === عَلَيْهِ مِمَّا قَدْ أَتَاهُ الناسُ

قوام معرفة معاني هذه النيران أنهم يُريدون حَرَّها وما يجدون في صدورهم منها، فهي وإن كانت لا تُوقَد حقيقة، إلا أن أثرها يصل إلى أصحابها، فلذلك لا يكاد يُمكن حصرُ هذه النيران واستيفاءُ الحديث عنها، فقد تختلف بين كل اثنين، فمَن يجد نار الحرب ويصلَى بحرها، قد لا يجد نار الشوق، ولأجل ذلك لم يتكلموا فيها كثيرا، ولا أنشدوا شيئا في بعضها، وإنما قد ذكروها بالإشارة اليسيرة واللمحة الدالّة فقط. وفيما يأتي بيانُ بعض ذلك:

1- نار الحرب:

هذه أشهر النيران المجازية مع نار الشوق، وهي غيرُ التي تقدم ذكرُها، فتلك نار الحرب الحقيقية، وتُسمى أيضا نار الإنذار ونار الأهبة. أما هذه فهي نار الحرب المجازية، وهي التي قال الله تعالى فيها: {كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله} [المائدة: 66]، أي: كلما أجمعوا أمرهم على شيء فرقه الله(1)، وتُراد بها الفتنة والتحريش بين الناس أيضا.

وذكر الزمخشري من مجازات النار قولهم: «وهو مِسعر حرب، وهم مَساعر حرب»، وقولهم: «أَوقدُوا نارا للحَرب»(2).

ومنها قولُ الحارث بن عُبَادٍ في حرب البَسُوس(3):

لَمْ أَكُنْ مِنْ جُنَاتِهَا عَلِمَ اللَّـــــــــــــــــــهُ وَإِنِّي بِحَرِّهَا الْيَوْمَ صَالِ

يُريد أنه لم تكن له يَدٌ في هذه الحرب، وإنما دخل فيها وصَلِيَ بحرها لمّا أن قُتل بُجير، قتله مهلهل بشِسع نعل أخيه كُليب، والرواية مشهورة في ذلك.

وجعل الجاحظ هذه النار على طريق المثل لا الحقيقة(4).

2- نار الشباب:

أنشد فيها الثعالبي قولَ أبي الفتح البُستي(5):

عَلَيَّ بِهَا لَا كَنَارِ الْخَلِيلِ === فَبَرْدُ الْمُدَامِ يَزِيدُ الْفُتُورَا

وَلَكِنْ كَنَارِ الشَّبَابِ الَّتِي === تُحَيِّي النُّفُوسَ وَتُحْيِي السُّرُورَا

إِذَا شَرِبَ الْمَرْءُ مِنْهَا ثَلَاثًا === رَأَى النَّارَ مِنْ فَوْقِ خَدَّيْهِ نُورَا

ولعلهم يُريدون بها الفَتاء وفَوْرَةَ الشباب ونشاطه، وهو ما يجده المرء في ذلك السن.

3- نار الشرّ:

وهي مما ذكروه عَرَضا في كلامهم عن نيران العرب ولم يُفيضوا فيه، ويستعيرونها للفتنة والتحريض، قال الثعالبي: «النارُ قد تُستعار في الشرّ، كقولهم: مَن قدح نارَ الفتنة صار طعامها»(6).

4- نار الحياة:

قال الثعالبي أيضا: «هي الحرارة الغريزية، ومنها الجماع، فإنه مقتَبس من نار الحياة»(7).

ولم أجد فيها كثيرَ تفصيل.

5- نار الشراب:

ويقصدون بها حِدَّتها وسَوْرَتها وما يكون منها في عقل شاربها، وقد أنشدوا فيها(8):

فَلَا تَجْمَعَنَّ عَلَيَّ الضَّنَى === بِنَارِ الْمِزَاجِ وَنَارِ الْمُدَامِ

فَإِنْ تَكُنِ الرَّاحُ تَنْفِي الْهُمَومَ === فَرُبَّتَمَا عَرَّضَتْ لِلسَّقَامِ

والمُدام والراح مِن أسماء الخمر.

6- نار البرق:

وهذه النار أشبه شيء بالنيران الحقيقية، فقد أنشدوا فيها لأعرابيّ يذكرها(9):

نَارٌ تَعُودُ بِهِ لِلْعُودِ جِدَّتُهُ=== وَالنَّارُ تُشْعِلُ نِيرَانًا فَتَحْتَرِقُ

وقد علّق الجاحظ على هذا البيت بقوله: «يقول: كلّ نار في الدّنيا فهي تحرِق العيدان وتُبطلها وتُهلكها، إلّا نار البرق، فإنّها تَجِيءُ بالغيث. وإذا غِيثَتِ الأرضُ ومُطِرَتْ أحدثَ اللهُ للعِيدَانِ جِدَّةً، وللأشجار أغصانا لم تكن»(10).

7- نار الشوق:

وهي النار التي تُستعار لِما يجده المُحب من النِّزاع إلى لقاء محبوبه، وهي مُستعارة في كلامهم لكل نزاع إلى ما ترغب فيه النفس، ويُنشدون فيها قول بَشّار(11):

مَاءُ الصَّبَابَةِ نَارُ الشَّوْقِ تَحْدِرُهُ === فَهَلْ سَمِعْتُمْ بِمَاءٍ فَاضَ مِنْ نَارِ؟

وأنشد الثعالبي لأحمد بن أبي طاهر يهجو المُبَرِّد(12):

وَيَوْمٍ كَنَارِ الشَّوْقِ فِي قَلْبِ عَاشِقٍ === عَلَى أَنَّهُ مِنْهَا أَحَرُّ وَأَوْقَدُ

ظَلِلْتُ بِهِ عِنْدَ الْمُبَرِّدِ قَائِظًا === فَمَا زِلْتُ مِنْ أَلْفَاظِهِ أَتَبَرَّدُ

أراد شدةَ ما يجده في صدره من ذلك، وكل ما كان على هذه السبيل فهو من هذا الباب، وإنما يعنون به اشتداد وَقْعِه في صدورهم وشدةَ ما يَلقونه منه، ولذلك قال الثعالبي في نار الشوق: «هي مذكورة على الاستعارة، وكذلك نار الوجد ونار اللوعة ونار الغرام وما أشبهها»(13).

فلأجل ذلك عَسُر أن يُحاط بها ويُستقصى أمرُها جميعا، وإنما يُقاس الشبيه بالشبيه، وفي ذلك قَوْلي في بيت النظم:

وَالْبَرْقِ وَالشَّوْقِ وَمَا يُقَاسُ === عَلَيْهِ مِمَّا قَدْ أَتَاهُ الناسُ

ومن ذلك: نار اليَراعة، ونار المعدة، ونار الغرام، ونار الوجد، ونار الحُمى، وغيرها كثير جدا.

انتهى ما تيسّر الكلام فيه من النيران المجازية، ويليه ما وُقِفَ عليه من النيران التي ضربت العربُ بها المثل.

والحمد لله العليّ العظيم، والصلاة والسلام على النبيّ الكريم، محمدٍ الخاتم الأمين، وعلى آله وصَحبه الكِرام الطيّبين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

(1) تفسير الطبري (8/561).

(2) أساس البلاغة (سعر) و(نور).

(3) الأصمعيات (ص: 71).

(4) الحيوان (5/133).

(5) ثمار القلوب (ص: 585).

(6) ثمار القلوب (ص: 584).

(7) ثمار القلوب (ص: 584).

(8) ثمار القلوب (ص: 585).

(9) هذه رواية الجاحظ في الحيوان (4/487)، ورواية الثعالبي في ثمار القلوب (ص:582):

نَارٌ تُجَدِّدُ لِلْعِيدَانِ نَضْرَتَهَا === وَالنَّارُ تُشْعَلُ أَحْيَانًا فَتَحْتَرِقُ

(10) الحيوان (4/488)

(11) ملحقات ديوانه (ص: 75) عن ديوان المعاني ونهاية الأرب.

(12) ثمار القلوب (ص: 583).

(13) ثمار القلوب (ص: 583).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المراجع والمصادر:

  • القرآن الكريم برواية ورش عن نافع.
  • أساس البلاغة، لجار الله محمود الزمخشري، تحقيق محمد نبيل طريفي، دار صادر.
  • الأصمعيات، للأصمعي، تحقيق أحمد محمد شاكر وعبد السلام هارون، دار المعارف.
  • ثمار القلوب في المضاف والمنسوب، لأبي منصور الثعالبي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف.
  • جامع البيان عن تأويل آي القرآن، للإمام الطبري، تحقيق عبد الله بن عبد المحسن التركي دار هجر.
  • الحيوان للجاحظ، تحقيق عبد السلام هارون، دار الجيل.
  • ديوان بشار بن بُرد، تحقيق الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور، دار السلام.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق