مركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصةشذور

تغليط ابن عبد الملك المراكشي لمن جمع كلمة «دَعْوَى» على «دَعَاوِي»

الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على الحبيب المصطفى، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.

وبعد:

رأينا في مقال سابق استطرادَ ابنِ عبد الملك في كتابه الذيل والتكملة في شأن المصحف الذي كان بالأندلس، والذي كان ينسب إلى عثمان رضي الله عنه، ورأينا كيف توسع في الكلام على ذلك المصحف بما لا تكاد تجده في غيره من الكتب، وهذا استطراد آخر له رحمه الله، تكلم فيه على جمع كلمة «دعوى» ورجح أنها تجمع على «دَعَاوَى» بفتح الواو، وخطّأ من ذهب إلى أنها تجمع على «دَعَاوِي» بكسر الواو.

قال رحمه الله(1): «تَنْكيت: وقعَ فيما تقَدَّم أنّ اسمَ إحدى أرجوزتَيْه في السبع مجموعةً: «حاسمةُ الدَّعاوي»، وقد ذكَرَ ذلك في صَدرِها فقال [الرجز]:

سَمَّيتُها حاسمةَ الدَّعاوي … وقلتُها زَجْرًا لكلِّ عاوي

وترجمَها بقطعة، منها [مجزوء الكامل المرفَّل]:

حَسمتْ دَعاوِيهِ كما … حَسمَ الضَّريبةَ ذو الفَقَارِ

ويريدُ بالدَّعاوِي: جمْعَ دَعْوى، وهو غلَطٌ جَرى عليه كما جَرى على كثيرٍ من الشعراءِ والكتّاب قديمًا وحديثًا، فقال أبو محمد عبدُ الجَبّار بن أبي بكر بن حَمْدِيسَ الصقِلِّي من أبياتٍ في صفة الخمر صَدَّرَ بها قصيدةً يمدَحُ بها المعتمِدَ أبا القاسم محمدَ بن عَبّاد [بسيط]:

لا يسمَعُ الأنفُ من نجوى تأرُّجِها … إلا دعاوِيَ بين الطِّيبِ والزَّهَرِ

وقال شرَفُ الدّولة أبو الحَسَنُ عليُّ بن أبي الخَيْر سلامةَ بن يوسُف الدِّمشْقي [المجتثّ]:

وإنّ غيري على جهـ … ـلهِ كثيرُ الدَّعاوِي

وهذا البيتُ من قصيدةٍ يمدَحُ بها تاجَ الملوكِ مجدَ الدّين أبا سَعيد يُوري بن أيوبَ أخي السُّلطان صلاح الدِّين أبي المظفَّر يوسُف بن أيوبَ. وقد طَرَدَ قانونَ هذا الجمعِ في ما كان على مثالِ «فَعْلى» فقال في مطلَعِها [المجتثّ]:

مَنِ الطبيبُ المُداوِي … مِن طُولِ هذي الشَّكاوِي؟

وكرَّره فقال في مدحه [المجتثّ]:

يا مَن بإنعامِه طا … لَمّا أُزيلَتْ شَكاوِي

وقال [المجتثّ]:

تحكي الجداولُ فَيْضًا … من راحتَيْهِ الجَداوِي

وقال شَرفُ الدِّين أبو حَفْص عُمرُ بن محمد بن الفارِض من قصيدة

[الطويل]:

وعادِ دواعي القيلِ والقالِ وانْجُ مِن … عَوادي دعاوٍ صِدْقُها قَصدُ سُمعةِ

وقال أبو محمدٍ عبدُ الله بن عَتِيق الرَّبَعيُّ المَهْدَويُّ المعروفُ بابن الطّلّاءِ في رسالةِ «الإشعار بسرقات الأشعار» التي خاطَبَ بها أبا الفَضْل بنَ شَرَف: وْيلَك! حطَطْتَ لِثامَ الحياء، وهبَبْتَ هبوبَ النَّكْباء، فكشَفْتَ غطاءَ مساوِيك، وأخمَدتَ نارَ دَعاوِيك.

وقال فيها: أن تُبرِزَ أشعارَ أبيك، فتصحَّ أو تَسقُمَ دَعاوِيك.

وللكاتب أبي محمدٍ عبد البَرِّ بنْ فُرسان من رسالةِ خاطَب بها الخليفةَ العبّاسيَّ عن أبي زكريّا يحيى بن غانِيَة المسوفي: وهذه النُّبَذُ المأثورة من مساويهم، واللُّمعُ المذكورةُ من دَعاوِيهم، ما استأثَرَ بها الخواصُّ دون العوامّ، ولا جَهِلَتْها فرقةُ اليهود والنَّصارى إذْ علِمَتْها أهلُ مِلّة الإِسلام.

وقال الإمامُ أبو الفَرَج ابنُ الجَوْزيِّ رضي اللهُ عنه في الفصل الأوّل من القسم الأوّل من المَواعظِ من الباب الخامس من كتابِ «المُدهِش» في قصّة آدمَ وفي ذكر الملائكة منها: فأبوْا للجُرأة إلا جرَّ جريرِ الدّعاوِي، وحدَّثوا أنفُسَهم بالتُّقى بالتَّقاوِي. فالتَّقاوِي جاءت على ما جاء عليه نظائرُها، وقد أتى بها فقرةً للدّعاوِي.

وقال الإمامُ عمادُ الدِّين أبو عبد الله محمدُ بن محمد بن حامِد بن محمد بن عبد الله بن عليّ بن محمود بن هِبةِ الله ابن أُله الأصبَهانيُّ في ذكْرِ القاضي كمال الدِّين الشَّهْرَزُورِيِّ من حوادثِ شهر رمضانِ سبع وستينَ، حاكياً بعضَ أفعال نُور الدِّين ما نصُّه: وقال للحاكم: انظُر أنت في العوادي وما يَجري فيها من الدّعاوِي، وميِّزْ بين المحاسنِ والمساوِي، والمُوالي والمُناوِي. فقد استعمَلَها كما ترى فقرةً للمَساوِي والمُناوِي الجاريينِ على قانونِهما.

وقال أبو القاسم عبدُ الكريم بن عِمْران [البسيط]:

دع الدَّعاوِيَ إنَّ الحِبْرَ يفضحُها … وهاكَ ما شِئْتَ عندي من براهينِ

وقد كان له أن يقولَ:

دعِ الدَّعاوَى فإنّ الحِبْرَ يفضحُها

ولكنّه غابَ عنه حُكمُ هذا الجَمْع.

وقال الأستاذُ أبو العلاء إدريسُ بن محمد القُرطُبيُّ في فَصْل من رسالتِه التي ترجَمَتُها: «رسالةُ تفضيل العَرَب وتمييزِ النَّبع من الغَرَب»، وهي المسَمّاة. صَمْصامَ التأهُّب للانتصاف، ومَصامَّ شُهُبِ الأوصاف، الكافيةَ في تعفيرِ خدِّ الباغي، الكافلة بتغيير جَدِّ اللّاغي، مما انتَهضَ بإحكامِها، وإبرام أحكامِها: إدريسُ بن محمد بن محمد بن موسى الأنصاريُّ من أهل قُرطُبةَ وفّقه اللهُ وحرَسَها، فجاءت فائدةَ انتجاع الطالب المُقيم والمرتحِل، وفائدةَ أشياع ابن سيدةَ الناحِل وابن غَرسيّةَ المنتحِل، صادقةَ الجَدِّ في أنّ حبَّ النبيِّ العَرَبيّ من آكدِ مفترَض، مُرهَفةً عن كدِّ التعرُّض لعَرَض، مُنَزَّهةً عن نقد التأرُّض لغَرَض، موجَّهةَ القصدِ لوَجْه خالقِ الجوهَر والعَرَض، سبحانَه لا إلهَ إلا هو، يرُدُّ بها على أبي عامِرٍ أحمدَ ابن غَرسِيّةَ في رسالتِه الشُّعوبية: يا جَدْعاوِي، بالدَّعاوِي، فإذا الدّعاوِي والشَّكاوِي والجَداوِي في جَمْع: دَعوى وشَكْوى وجَدْوى من وادٍ واحدٍ ضَلَّ فيه هؤلاءِ الجِلّةُ طريقَ القياس في جَمْع هذه الكَلِم، وإنّما تُجمَعُ على فَعالَى قياسًا.

قال الإمامُ أبو بِشْر سيبوَيْه: وأمَّا ما كان على أربعةِ أحرُف، وكان آخِرُه ألفَ التأنيث، فإنْ أردتَ أن تكسِرَه فإنكَ لا تحذِفُ الزّيادةَ التي هي للتأنيث وُيبنَى على فَعالَى وتُبدَلُ من الياءِ الألف، وذلك قولُك في حُبلى: حَبالَى، وذَفْرى ذَفَارَى، وقال: وقالوا بَرْقاءُ وبَرَاقٍ كقولهِم شاةٌ حَرْمى وحِرَامٌ وحَرَامَى.

وقال أبو بكرٍ محمدُ بن الحَسَنُ بن دُريد بن عَتاهِيةَ بن حَنتم بن الحَسَنُ بن حماميِّ بن جَروِ بن واسع بن سَلَمةَ بن حاضِر بن جُشَمَ بن ظالم بن حاضِر بن أسَد بن عَدِيِّ بن عَمْرِو بن مالك بن فَهْم بن غُنْم بن دَوْس بن عدنان بن عبد الله ابن زَهْرانَ بن كَعْبِ بن الحارِث بن كَعْب بن عبد الله بن مالِك بن نَضر بن الأَزْدِ بن الغَوْث بن نَبْتِ بن مالكِ بن زيد بن كَهْلانَ بن سبإ بن يَشجُبَ بن يَعرُبَ بن قَحطانَ في كتابِه «الجَمْهرة»:

والحَلْواءُ معروف يُمَدُّ وُيقصَر، فمَن قَصَرَ قال: حَلْوَى مثلَ دَعْوَى والجمعُ حَلاوَى مثلَ دَعاوَى، ومن مَدَّ قال: حَلْواءُ، والجمعُ: حَلْواواتٌ مثلَ حَمْراوات.

وقال أبو عبد الله محمّدُ بن جعفرٍ التَّميميُّ القَيْروانيُّ القَزّازُ في «جامعِه»: والحَلْواءُ من الطعام يُمَدُّ ويُقصَرُ، وجمعُ المقصورِ: حَلاوَى، والممدودِ: حَلْواوات، ورأيتُ لأبي الفَتْح عثمانَ بن جِنّي خلافَ هذا، فإنه قال في «المُغرِب»: ويقولونَ أيضًا: حُبْلى ثم يقولونَ في الجَمْع حَبالَى، وأصلُها حَبالٍ كدَعوى ودَعاوٍ ثم يُبدِلونَ من ياءِ حَبالٍ ألفًا ويُميلونَها فيقولونَ: حَبالَى لتكونَ الألفُ على لفظِ ألفِ حُبْلى. وقال فيه: قالوا: دَعْوى ودَعاوٍ وشَهْوى وشَهاوٍ وذَفْرى. الفصْلَ.

قال المصنِّفُ عَفا اللهُ عنه: أظنُّ شَهْوى مصَحَّفًا من مَهْوى فزد فيه بحثًا.

وقد انجَرَّ بنا نقْدُ الدّعاوِي الواقعة في تسميةِ أبي العبّاس بن غَزْوانَ إحدى أُرجُوزتَيْه إلى ذكْرِ شيءٍ ليس من غَرَض هذا الكتاب، ولكنّها نُكتةٌ أودَعْناها هذا الموضعَ إفادةً بها، ولا ينبغي أن يُظَنَّ بها أنَّها قليلةُ الجَدْوى، فقد وقَعَتْ هذه المسألةُ بمَرّاكُشَ سنةَ عشرين وست مئة في مجلس ضَمَّ لِمّةً من أعلام العلماء أثارها كَتْبُ عاقدي الشّروط: أبرَأه من جميع الدَّعاوِي، وكان فيهم القاضي الأديبُ الناقد المجتهد أبو عبد الله بنُ عيسى ابن المُناصِف الآتي ذكْرُه في موضعِه من هذا المجموع بحَوْلِ الله تعالى، فأنكَرَ جمع الدَّعوى على هذا الحدّ وقال: إنّما يقال: الدَّعْوَياتُ، فسَلَّمَ له الحاضِرون ولم يقُلْ هُو ولا أحدٌ ممّن اشتملَ عليه ذلك المحفِلُ: الدَّعاوَى، وهو أقربُ نسبةً إلى إصلاح اللفظ به، إذ هُوَ جمْعُ تكسيرٍ مثلُه، على توَهُّم العاقدينَ فيه، وأنَصُّ في المقصود، فالدَّعاوَى إذ كان المعنيُّ به عندَهم جمع الكثرة المُقتضيَ بَتَّ أسبابِ الطلبِ وحَسْمَ موادّ الشغَب، فأمَّا ما ذكَرَه أبو عبد الله ابن المُناصِف ووافَقَه عليه جُلَساؤه فإنه جَمْعُ سلامةٍ وموضوعُه القِلّة.

قال سيبَويْه آخِرَ الفصل الذي نَقلْنا قبلُ أوّلَه: وإن أردتَ أدنَى العدَد جمَعْتَ بالتاء، تقول: ذَفْرَيات وحُبْلَيات. وقال في باب تحقير ما كُسِر عليه الواحد للجَمْع: ولو حقَّرت الجَفِنات وقد جاوَزْنَ العَشْرَ لقلتَ: جُفَيْناتٌ لا تُجاوِزُ؛ لأنّها بناءُ أقل العدد. ثمَّ قال: إذا حَقّرتَ الفِتْيانَ قلت: فِتْية، فإن لم تقُلْ ذلك قلتَ: فَتِيّون، قالوا: والنّونُ بمنزلة التاء في المؤنَّث. ثم قال: وإنّما صارتِ التاءُ والواو والنّونُ لتثليثِ أقلِّ أدنَى العدَد إلى تعشيره وهو الواحدُ كما صارتِ الألفُ والنون للتثنية ومُثَنّاهُ أقلّ من مثلَّثِه، ألا ترى أنّ جرَّ التاءِ ونصبَها سواء، وجَرَ الاثنينِ والثلاثة الذين هم على حدّ التثنية ونَصبَهم سواء؟ فهذا يُقرِّبُ أنّ التّاءَ والواوَ والنّونَ لأدنَى العدَد؛ لأنه وافَقَ المثَنّى.

تكميل: وإلى ذلك فقد قال سيبويهِ إثْرَ الفصل الأوّل الذي نقَلْناه من كلامِه: وقالوا: ذَفْرى ذَفارَى ولم يُنوِّنوا ذَفْرى. انتهى. ومُرادُه بهذا القول التعريفُ بشذوذ ذَفَارٍ جَمع ذَفْرى غيرَ منَوَّن على القياس المطَّرِد في جمع نظائرِه حسبما قُدِّم أولَ الفَصْل، فلا ينبغي أن يُقاسَ عليه. ووراءَ قولِه: «ولم يُنوِّنوا ذَفْرى» معنًى لطيفٌ سِرُّه التنبيهُ على تفرِقة العربِ بين ما ألفُه للتأنيث فلا يُنَوَّن ويُجمَعُ قياسًا على فَعالى، وشَذَّ منه ذَفارى في جمع ذَفْرى، وما ألِفُه الرابعةُ مُنقلبةٌ عن أصل وعن زائدٍ للإلحاق به كأضحى جمْعَ أضْحاة ومَرمى ومَهْوى وأَرطى وذَفْرى في لُغة مَن نَوَّنها، فإنّ ذلك كلَّه يُجمَعُ بكسرِ ما بعدَ الألف نحوَ أضاحٍ ومَرامٍ ومَهاوٍ وأراطٍ وذَفارٍ وشِبهِها.

وقد آنَ لنا أن نقفَ من بَسْطِ القول في هذه المسألة عند هذه الغاية ونرجعَ إلى تمام ذكْرِ أبي العبّاس بن غَزْوان، فنقول ..».

  • الذيل والتكملة 1/426-432.
Science

ذ.سمير بلعشية

  • باحث بمركز الإمام أبي عمرو الداني للدراسات والبحوث القرائية المتخصصة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق