مظاهر اليسر في الصيام: نظرة من زاوية السنة الشريفة
بقلم الباحثة: دة خديجة أبوري*
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، محمد وآله وصحبه أجمعين.
وبعد: فلا شك أن شريعة الإسلام في جميع أحكامها ومبادئها وتكاليفها، مبنية على التيسير ورفع الحرج، وقد أشار القرآن الكريم في العديد من آياته إلى هذا فقال: ﴿يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر﴾ ([1]) وقال كذلك: ﴿وما جعل عليكم في الدين من حرج﴾ ([2])، وأكدت السنة النبوية ذلك أيضا: مثل قوله ﷺ: «إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا، وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة» ([3])
ومن العبادات العظيمة التي نلحظ فيها جانب التَّيسير ورفع الحرج عن هذه الأمَّة: عبادة الصيام، الذي يعد بحق من أعظم العبادات التي تربي المسلم على الصبر، وقوة الإرادة، والتحكم في نزوات النفس البشرية وشهواتها:
ومظاهر التيسير في الصيام كثيرة ومتنوعة، وقد تكلم عنها العلماء قديماً وحديثاً، وسأذكر بعضا من ذلك وهي كالآتي:
المظهر الأول: إباحة الفطر في السفر والمرض:
قال الله تعالى:﴿فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر﴾ ([4])
وكما جاء ذلك في الحديث الذي رواه ابن عباس رضي الله عنه: «أن رسول الله ﷺ خرج إلى مكة في رمضان، فصام حتى بلغ الكديد أفطر، فأفطر الناس»([5])
والحديث الذي رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: «كان رسول الله ﷺ في سفر، فرأى زحاما ورجلا قد ظلل عليه؛ فقال: ما هذا فقالوا: صائم فقال: ليس من البر الصوم في السفر»([6])
وعن أنس رضي الله عنه، قال: «كنا مع النبي ﷺ، أكثرنا ظلا الذي يستظل بكسائه؛ وأما الذين صاموا فلم يعملوا شيئا، وأما الذين أفطروا فبعثوا الركاب وامتهنوا وعالجوا؛ فقال النبي ﷺ: ذهب المفطرون اليوم بالأجر»([7]).
قال ابن كثير: «إنما رخص لكم في الفطر في حال المرض والسفر مع تحتمه في حق المقيم الصحيح تيسيراً بكم»([8])
المظهر الثاني: تأخير السحور وتعجيل الفطر:
ومما يدل على ذلك: ما رواه زيد بن ثابت -رضي الله عنه- قال: «تسحرنا مع النبي -ﷺ- ثم قام إلى الصلاة قلت: كم كان بين الأذان والسحور ؟قال: قدر خمسين آية»([9])
وعن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -ﷺ-: «إذا أقبل الليل من ها هنا، وأدبر النهار من ها هنا، وغربت الشمس فقد أفطر الصائم»([10]).
وعن سهل بن سعد أن رسول الله -ﷺ- قال: «لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر»([11]).
المظهر الثالث:التيسير على الناسي في الصيام:
ومن التيسير أيضا عدم مؤاخذة الناسي إذا أكل وشرب ناسيا وهو صائم؛ وهو ما يؤكده الحديث الذي رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -ﷺ-: «من نسي وهو صائم فأكل أو شرب، فليتم صومه؛ فإنما أطعمه الله وسقاه»([12])
المظهر الرابع: التيسير على الحامل والمرضع:
ومن مظاهر التيسير في رمضان: التيسير على الحامل والمرضع: لقوله ﷺ-«إنَّ الله وضع عن المسافر نصف الصَّلاة والصَّوم، ورخص للحبلى والمرضع«([13]).
المظهر الخامس: النهي عن الوصال في الصيام:
ومن مظاهر التَّيسير في رمضان: النَّهي عن الوصال رحمةً بالنَّاس، فعن عبد الله -رضي الله عنه-: «أن النبي -ﷺ- واصل فواصل الناس، فشق عليهم فنهاهم قالوا: إنك تواصل! قال: "لست كهيئتكم إني أظل أطعم وأسقى»([14])
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما-: أن النبي -ﷺ- نهى عن الوصال قالوا: إنك تواصل قال:«إني لست كهيئتكم إني أُطعم وأسقى» ([15])
المظهر السادس: التيسير على الجنب:
ومما ورد التيسير فيه أيضا في رمضان؛ عدم فساد الصوم لمن أدركه الفجر وهو جنب، فعن عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما: «أن رسول الله -ﷺ- كان يدركه الفجر وهو جنب من أهله ثم يغتسل ويصوم»([16])
المظهر السابع: التيسير على الزوجين:
ومن مظاهر التيسير في رمضان إباحة اللقاء بين الزوجين من غروب الشمس إلى طلوع الفجر؛ فعن البراء قال: «لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النِّساء رمضان كلّه، وكان رجال يخونون أنفسهم فأنزل الله تعالى: ﴿ علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم ﴾([17])»([18])
ومن ذلك أيضا: عدم فساد الصَّوم بالقبلة شريطة عدم الشهوة؛ فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: «كان رسول الله -ﷺ- يقبل إحدى نسائه وهو صائم ثم تضحك»([19]) .
المظهر الثامن: قضاء الصيام عن الميت:
ومن مظاهر التيسير في رمضان قضاء الصوم عن الميت الذي مات وعليه دين الصيام مصداقا للحديث الذي روته عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله -ﷺ- قال: «من مات وعليه صيام صام عنه وليه»([20]).
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: «جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال يا رسول الله: إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها؟ قال: "نعم"، قال: "فدين الله أحق أن يقضى»([21]).
وغيرها من معالم اليسر ومظاهر التيسير التي تميزت بها شريعتنا الغراء عن بقية الشرائع السابقة.
أسأل الله تعالى أن يتقبل مني ومنكم صيام هذا الشهر الكريم، وأن ينفعني وإياكم بهذا العمل، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات
************************
لائحة المراجع المعتمدة في المقال:
1-تفسير القرآن العظيم. ابن كثير: إسماعيل بن عمر بن كثير. تحقيق: سامي بن محمد سلامة. دار طيبة للنشر والتوزيع. ط2/ 1420- 1999
2-الجامع الصحيح (المسند من حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وسننه وأيامه). البخاري: أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري. قام بشرحه وتصحيح تجاربه وتحقيقه: محب الدين الخطيب- رقم كتبه وأبوابه وأحاديثه واستقصى أطرافه: محمد فؤاد عبد الباقي- نشره وراجعه وقام بإخراجه وأشرف على طبعه: قصي محب الدين الخطيب. المطبعة السلفية القاهرة. ط1- 1400.
3-سنن النسائي. النسائي: أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن علي. علق على أحاديثه وآثاره: محمد ناصر الدين الألباني. اعتنى به: أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان. مكتبة المعارف الرياض. ط1/ 1408-1988.
4-صحيح مسلم. وفي طليعته: غاية الابتهاج لمحمد مرتضى الزبيدي. مسلم: أبو الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري. دار طيبة الرياض ط1/ 1427-2006.
***************
هوامش المقال:
([1]) سورة البقرة من الآية: 185.
([3]) أخرجه البخاري في صحيحه (1 /29) كتاب: الإيمان باب: الدين يسر برقم: (39).
([4]) سورة البقرة من الآية: 184.
([5]) أخرجه البخاري في صحيحه (2 /43) كتاب: الصوم، باب: إذا صام أياما من رمضان ثم سافر برقم: (1944).
([6]) أخرجه البخاري في صحيحه (2 /44) كتاب الصوم، باب: قول النبي ﷺ لمن ظلل عليه واشتد الحر ليس من البر الصوم في السفر برقم: (1946).
([7]) أخرجه البخاري في صحيحه (2 /329) كتاب: الجهاد والسير، باب: فضل الخدمة في الغزو برقم: (2890).
([9]) أخرجه البخاري في صحيحه (2 /35-36) كتاب: الجهاد والسير، باب: فضل الخدمة في الغزو برقم: (1921).
([10]) أخرجه البخاري في صحيحه (2 /46) كتاب: الصوم، باب: متى يحل فطر الصائم؟ وأفطر أبو سعيد الخدري حين غاب قرص الشمس برقم: (1954).
([11]) أخرجه البخاري في صحيحه (2 /47) كتاب: الصوم، باب: تعجيل الإفطار برقم: (1957).
([12]) أخرجه البخاري في صحيحه (2 /39) كتاب: الصوم، باب: الصائم إذا أكل أو شرب ناسيا برقم: (1933)، ومسلم في صحيحه (1 /512) كتاب: الصوم، باب: أكل الناسي وشربه وجماعه لا يفطر، برقم: (1155).
([13]) أخرجه النسائي في سننه (ص: 358)كتاب: الصيام، باب: ذكر اختلاف معاوية بن سلام وعلي بن المبارك في هذا الحديث برقم: (2277) وقال الألباني: حسن.
([14]) أخرجه البخاري في صحيحه (2 /36) كتاب: الصوم، باب: بركة السحور من غير إيجاب لأن النبي ﷺ وأصحابه واصلوا ولم يذكر السحور برقم: (1922.
([15]) أخرجه مسلم في صحيحه (1 /490) كتاب: الصيام، باب: النهي عن الوصال في الصوم برقم: (1102).
([16]) أخرجه البخاري في صحيحه (2 /37) كتاب: الصوم، باب: الصائم يصبح جنبا برقم: (1926).
([17]) سورة البقرة من الآية: (187).
([18]) أخرجه البخاري في صحيحه (3 /198) كتاب: تفسير القرآن، باب: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ﴾ برقم: (4508).
([19]) أخرجه مسلم في صحيحه (1 /492) كتاب: الصيام، باب: بيان أن القبلة في الصوم ليست محرمة على من لم تحرك شهوته برقم: (1106).
([20]) أخرجه البخاري في صحيحه (2 /46) كتاب: الصوم، باب: من مات وعليه صوم برقم: (1952)، ومسلم في صحيحه (1 /509) كتاب: الصيام، باب: قضاء الصيام على الميت ، برقم: (1147).
([21]) أخرجه البخاري في صحيحه (2 /46) كتاب: الصوم، باب: من مات وعليه صوم برقم: (1953).
*راجع المقال الباحث: محمد إليولو