مركز عقبة بن نافع للدراسات والأبحاث حول الصحابة والتابعينغير مصنف

قصة سهيل بن عمرو رضي الله عنه، مع الإسلام

 

 

 

إعداد وتقديم: ذ/ نافع الخياطي

سهيل بن عمرو؛ سيِّدٌ من سادات قريش المرموقين([1])، وخطيب من خطباء العرب المفوَّهين([2])، وواحد من أهل الحَلِّ والعَقْد الذين لا يُقطع دُونهم أمر.

كان سُهيلٌ حين صدع([3]) الرَّسول الكريم صلى الله عليه وسلم بدعوة الحق قد اكتمل واكتهل، وقد كان جديراً بعقله الرَّاجح ونظره الثَّاقب([4])، أن يجعلاه أوَّل من يستجيب لدعوة نبيِّ الهدى والرَّحمة…

ولكنَّ سهيلاً لم يُعْرِضْ عن الإسلام فحسْب، وإنَّما طَفِقَ يصدُّ النَّاس عن سبيل الله بكلِّ وسيلة، ويصُبُّ على السَّابقين إلى الإسلام سَوْطَ عذابه، ليفتنهم عن دينهم، ويرُدَّهُم إلى الشِّرْكِ.

لكن سهيل بن عمرو ما لبث أن فوجئ بخبر وقع عليه وقع الصَّاعقة، وذلك حين نُمِيَ([5]) إليه، أنَّ ابنه عبد الله، وابنته أمَّ كلثوم قد تبعا محمَّداً، وفرَّا بدينهما إلى أرض «الحبشة»؛ تخلُّصاً من أذاه وأذى قريش.

ثم شاء الله أن تصل الأخبار كاذبة إلى مهاجري «الحبشة»، بأنَّ قريشاً قد أسلمت، وأن المسلمين باتوا يعيشون بين أهليهم بسلام؛ فعاد فريقٌ منهم إلى مكة، وكان في جملة العائدين، عبد الله بن سُهيل.

لم تكد أقدام عبد الله تطأُ أرض مكة؛ حتى أخذه أبوه، وكبَّله([6]) بالقيود؛ وألقى به في مكان مظلم من بيته…

وجعل يَفْتَنُّ([7]) في تعذيبه، وَيَلِجُّ في إيذائه، حتى أظهر الفتى ارتداده عن دين محمد، وأعلن رجوعه إلى ملَّة آبائه وأجداده…

فسُرِّيَ([8]) عن سُهيل بن عمرو، وقرَّت عينه، وشعر بنشوة([9]) النَّصر على محمَّد.

ثمَّ ما لبث المشركون أن عزموا على منازلة رسول الله صلى الله عليه وسلم في «بدر»؛ فخرج معهم سهيل بن عمرو مصحوبا بابنه عبد الله، متشوِّقاً لأن يرى فتاه يُشْهِرُ([10]) السَّيف في وجه محمد؛ بعد أن كان إلى عهد قريب واحداً من أتباعه.

ولكنَّ الأقدار كانت تُخَبِّئُ لسهيل ما لم يكن يقع له في حساب…

إذ ما كاد يلتقي الجَمعان على أرض «بدر» حتى فرَّ الفتى المسلم المؤمن إلى صفوف المسلمين، ووضع نفسه تحت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وامتشق حُسامه ليُقاتل به أباه ومن معه من أعداء الله.

ولما انتهت «بدر» بذلك النَّصر المؤزَّر الذي مَنَّ الله به على نبيِّه، ووقف الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وصحبه الأخيار يستعرضون أسرى المشركين إذا هم يَجِدون سُهيل بن عمرو أسيراً في أيديهم.

فلما مَثُلَ سُهَيلٌ بين يدي النبيِّ عليه الصلاة والسلام، يريد المُفاداة([11])، نظر إليه عمر بن الخطاب، وقال:

دعني يا رسول الله أنْزَعُ ثَنِيَّتَيْهِ([12]) حتى لا يقوم بعد اليوم خطيبا في محافل([13]) مكة، ينال من الإسلام ونبيِّه.

فقال عليه الصلاة والسلام: «دَعْهُمَا يا عمر، فلعلك ترى منهما ما يَسُرُّك إن شاء الله».

ثم دارت الأيام دورتها، وكان صُلْحُ «الحديبية»؛ فَبَعَثَت قريشٌ سهيل بن عمرو لينوب عنها في إبرام الصُّلح، فتلقَّاه الرسول عليه الصلاة والسلام، ومعه طائفةٌ من صحبه فيهم ابنه عبد الله بن سُهَيْلٍ.

ثم دعا النَّبِيُّ عليه السلام علي بن أبي طالب لكتابة العَقْدِ، وشرع يُملي عليه فقال: (اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم)…

فقال سُهَيْلٌ: نحن لا نعرف هذا، ولكن اكتب باسمك اللهم.

فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم لعليٍّ: (اكتب باسمكَ اللهمَّ).

ثم قال: (اكتب هذا ما صالح عليه محمَّدٌ رسول الله).

فقال سهيل: لو كنّا نشهد أنَّك رسول الله لم نُقاتِلْكَ، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «والله إني لرسول الله وإن كذَّبتموني… اكْتُب محمد بن عبد الله».

ثم أتَمَّ العَقْدَ وعاد سُهَيْلُ بن عَمْرو مَزْهُوّاً بما كان يظنُّ أنَّهُ حقَّقه من نصر لقومه على محمَّد.

ثمَّ دارت الأيام دورتها كَرَّةً أخرى؛ وإذا بقريش تُهْزَمُ هزيمتها السَّاحقة من غير حرب…

وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل مكَّة فاتحا…

وإذا المنادي يُنادي:

يا أهل مكَّة، من دخل بيته فهو آمن، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن، ومن دخل بيت أبي سفيان فهو آمن…

فما إن سمع سُهَيْلٌ النِّداء حتَّى دَبَّ في قلبه الذُّعر([14])، وأغلق على نفسه باب بيته، وسُقِطَ([15]) في يده.

فلنترك الكلام لِسُهَيْلٍ بن عمرو لِيُحَدِّثنا عن هذه اللَّحظات الحاسمات في حياته…قال سُهَيْلٌ:

لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، اقْتَحَمْتُ([16]) بيتي، وأغلقت عَلَيَّ بابي، وأرسلتُ في طلب ابني عبد الله؛ وأنا أستحي أن تقع عَيْنِي على عَيْنِهِ؛ لِمَا كنت قد أسرفت في تعذيبه على الإسلام، فلما دخل عَلَيَّ… قلت له: اطْلُب لي جِوَاراً من محمَّدٍ، فإنِّي لا آمن أن أُقـتَلَ… فذهب عبد الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال:

أبي… أَتُؤَمِّنُهُ يا رسول الله جُعِلْتُ فِدَاكَ؟!.

قال: (نعم… هو آمنٌ بأمان الله، فليَظهر)، ثم الْتَفَتَ إلى أصحابه وقال:

(من لقي منكم سُهيلا فلا يُسئ لقاءه فلعمري إن سهيلا له عقلٌ وشرفٌ، وما مِثْلُ سهيل يَجْهَلُ الإسلام، ولكن قُدِّرَ فكان).

أسلم سهيل بن عمرو بعد ذلك إسلاماً مَلَكَ عليه قلبه ولُبَّهُ، وأحبَّ الرَّسول الكريم صلى الله عليه وسلم، حُبّاً أَحَلَّهُ في السّوَيْدَاءِ([17]) مِنْ فُؤَادِه.

قال الصِّدِّيق رضوان الله عليه:

لقد نظرت إلى سُهيل بن عمرو في حجَّة الوداع قائماً بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يُقَدِّمُ له البُدْنَ([18])، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يَنْحَرُها([19]) بيده الكريمة، ثم دعا النبيُّ صلى الله عليه وسلم الحلاَّق فَحَلَقَ رأسه… فنظرت إلى سهيل، وهو يلتقط الشَّعْرَةَ من شَعْرِ النبي صلى الله عليه وسلم، ويضعُها على عَيْنَيْهِ…

فتذَكَّرْتُ يوم «الحديبية»، وكيف أبى أن يكتب «محمد رسول الله » فَحَمِدْتُ الله على أن هداه.

عَكَفَ([20])  سهيل منذ أسلم على ما يُقَرِّبُهُ من الله، وينْفَعُهُ في أُخْرَاه.

فلم يكن بين مَنْ أَسْلَمُوا بعد الفتح؛ مَنْ هُوَ أكثر منه صلاةً، ولا صوماً ولا صَدَقَةً، ولا رِقَّةَ قلب، ولا كثرة بُكاءٍ من خشية الله([21]).

العبر والدروس المستخلصة من القصة:

1-   العقل الرَّاجح، والنَّظر الثَّاقب في الأمور الحسِّية والمعنوية يؤدِّيان بصاحبهما إلى اكتشاف الحق والتمسُّك به.

2-  قد يكون سلاح المعرفة منهج الضَّالين، وقد يؤدي بهم الأمر إلى أن يصبحوا مُضلّين لغيرهم أيضا.

3-  قد تكون الهجرة من الأذى والمضايقات هي الحل المطلوب في ميزان الشرع الحكيم؛ لقوله تعالى: (وَمَنْ يُهَاجِر فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الاَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَة)[22].

4-   يجب التَّحَرِّي والتَّثَبُّت عند سماع الأخبار الكاذبة؛ لأنها تُفْرز العواقب الوخيمة، وكثيراً من المصائب والضَّغائن والأحقاد؛ امتثالاً للتَّأديب الرَّبَّاني: (يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِين)[23].

5-  شدة التعصب الجاهلي تنتج قساوة القلوب، وتدفع إلى المزيد من اقتراف الذنوب. قال تعالى: (فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ)[24]. وذَمَّ أقواما بقوله: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَة)[25].

6-  الارتداد عن الدِّين الحق كبيرةٌ من الكبائر (إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَان، وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ الله)[26].

7-  التمسُّك بالحق فضيلة من أعظم الفضائل (وَمَا يُلقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيم)[27].

8-  حُرْمَةُ النبي صلى الله عليه وسلم، ومكانته في قلوب صحابته الكرام، رضي الله عنهم أجمعين، مُسْتَخلصة من قوله تعالى: (النَّبِيءُ أَوْلَى بِالمُومِنِينَ مِن أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُم)[28]. وتَدَبَّرُوا معي ما وراء قوله صلى الله عليه وسلم، لسيِّدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «الآنَ يَا عُمَر»[29].

9-  حِلْمُ الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى عمَّن أساءوا إليه وبالغوا في إذايته.. ولولا حِلْمُ النبي صلى الله عليه وسلم، وَصَفْحُه الجميل عن سهيل بن عمرو لأطار عُمَر رضي الله عنه رأسه.

10- مصطلح «باسمك اللهم» كان معروفا عند الجاهليين، ولا شك أنه ممَّا تبقَّى من توحيد الحنيفيَّة. أمَّا (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم) فهو مصطلح قرآني: (آية من آيات سورة «النمل»..)[30].

11- سموُّ أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، حتى مع من يكذِّب به، وبرسالته، ويحاججه كسهيل بن عمرو ومن معه. وصدق الله العظيم: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيم)[31] وهو صلى الله عليه وسلم، يجد اللذة والأنس من الله عز وجل له في مثل قوله: (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيُحْزِنُكَ الَّذِي يَقُولُون، فَإِنَّهُمْ لَا يُكْذِبُونَك وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُون)[32].

12- قد يكون الأولاد أحْلَمَ وأرحَمَ على آبائهم، من الآباء على أبنائهم، وقصة عبد الله بن سُهَيل بن عمرو مع أبيه خير دليل.

13- العفو عند الاقتدار من شيم الأخيار، وخير الأخيار: من خصَّه الله عز وجل بالبشارة، والإنذار. وقال عنه في علاقته مع صحابته الكرام: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْر)[33].

14- من اعتنق الإسلام بنية صادقة، وأقبل على الله عز وجل بِقلب مُومن وصدر منشرح؛ كسُهيل بن عمرو، الذي أصبح الرسول صلى الله عليه وسلم، أحبَّ الناس إليه، وأكثرَ الصحابة الذين أسلموا بعد فتح مكة، صلاةً، وصوما، وصدقة، ورقَّة قلب، وكثرة بكاء من خشية الله عز وجل، (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُون)[34].

                                                                                                               والحمد لله رب العالمين

 


([1]) المرموقين: الذين ينظر الناس إليهم إعجاباً بهم.

([2]) المفوه: البليغ الكلام.

([3]) صدع: أعلن وجهر.

([4]) نظره الثاقب: النظر النَّافذ الذي لا يغيب عنه شيء.

([5]) نُمِي إليه: وصل إليه.

([6]) كَبَّلَهُ: قيَّدَهُ.

([7]) يَفْتَنُّ: يجعل تعذيبه أنواعاً من الفنون.

([8]) فسُرِّي عنه: انكشف همه وانشرح صدره.

([9]) النَّشوة: هَزَّة الطَّرب.

([10]) يشهر سيفه: سله ورفعه.

([11]) يريد المفاداة: يريد أن يفدي نفسه بالمال.

([12]) الثَّنية: سن في مقدم الفم إذا خلعت عجز المرء عن الكلام.

([13]) المحافل: مجامع القوم.

([14]) الذُّعر: الخوف الشديد.

([15])  سُقِطَ في يده: عجز وقلت حيلته.

([16]) اقتحمت بيتي: دخلت بيتي، وسجنت نفسي فيه.

([17]) السّويداء: حبة القلب.

([18]) البُدْنُ: جمع بدنة، وهي الناقة تقدَّم للهدي في الحج والعمرة.

([19]) يَنْحَر: يذبح.

([20]) عكف على الأمر: لزمه وواظب عليه.  

([21])  القصة من كتاب: صور من حياة الصحابة؛ لعبد الرحمن رأفت الباشا، ص: 511- 516.

[22]  سورة: النساء، من آية: 100.

[23]  سورة: الحجرات، آية: 6.

[24]  سورة: الزمر، من آية: 22.

[25]  سورة: البقرة، من آية: 74.

[26]  سورة: النحل، من آية: 106.

[27]  سورة: فُصِّلت، آية: 35.

[28]  سورة: الأحزاب، من آية: 6.

[29]  الحديث بتمامه في: صحيح البخاري، باب كيف كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم، رقم: (6632) 8/ 129.

[30]  سورة: النمل، من آية: 30.

[31]  سورة: القلم، آية: 4.

[32]  سورة: الأنعام، آية: 33.

[33]  سورة: آل عمران، من آية: 159.

[34]  سورة: الانشقاق، من آية: 26.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق