بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على نبينا وآله وصحبه
ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
بقلم الباحث: يوسف أزهار*
أما بعد؛
فإن الأيام ذاكرة للأحداث التاريخية للأمم خيرها وشرها، وقيمة هذه الأمم الحضارية تُكْتَسَبُ من قيمة الأحداث التي مرت بها، فتبقى محفورة في الذاكرة التاريخية، إما اعتزازا بها، كأحداث السيرة النبوية الشريفة، أو تذكرة وموعظة كهلاك أقوام طغوا وتجبروا. وكل هذه الوقائع التاريخية منها: ما قصه الله عز وجل في كتابه العزيز، ومنها: ما جاء على لسان نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم، ومنها: ما نجده مبثوثة في كتب التاريخ.
إن الحدث التاريخي الذي يستوقفنا بمناسبة حلول شهر الله المحرم من كل سنة من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، هو ذالك الحدث الذي وقع في زمن نبي الله موسى عليه السلام؛ إذ نجاه الله عز وجل وقومه، وأغرق من كان يبطش بهم: فرعون وجنده، قال تعالى: ﴿ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين، من فرعون إنه كان عاليا من المسرفين﴾[1]، وقال عز من قائل: ﴿وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين، آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين﴾[2].
وإن أفضل شكر يقدمه الإنسان للمنعم هو فعل ما يحبه دون أمر، ويكون الشكر بالفعل كما يكون بالقول، فقد صام موسى عليه السلام ذالك اليوم شكراً لربه سبحانه، وهذا منهج الأنبياء عليهم السلام مع خالقهم، فهذا داود عليه السلام سجد لله تعالى، قال سبحانه: ﴿وظن داوود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب﴾[3]، وهذا نبينا صلى الله عليه وسلم يقوم الليل حتى تتورم قدماه، فلما سئل عن سبب ذلك، رغم أنه غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقال: (أفلا أكون عبداً شكوراً)[4].
ومذ ذلك الزمان أصبح اليهود يصومون هذا اليوم، وهو العاشر من شهر الله المحرم، شاء الله سبحانه لهذا اليوم أن يظل بارزاً، محفوظا في الذاكرة التاريخية، وما ذالك إلا عبرة للظالمين، وبشرى للصابرين، فيه توحد أهل الإيمان أمام بطش أهل الكفر، فكان النصر على الأعداء بهلاكهم، وكفاية المؤمنين المستضعفين من شرهم.
ولذا ظل هذا اليوم معظماً عند اليهود، فقد "كان أهل خيبر يصومون عاشوراء ويتخذونه عيداً، ويلبسون نساءهم فيه حليهم وشارتهم"[5]. وكانت قريش كذلك تصومه[6]، وعندما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وجد اليهود صياما يوم عاشوراء، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما هذا اليوم الذي تصومونه)؟ فقالوا: هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه، وغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكرا، فنحن نصومه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فنحن أحق وأولى بموسى منكم)[7].
فنحن معاشر المسلمين أحق وأولى بموسى على نبينا وعليه السلام من أهل الكتاب؛ ذلك أننا آمنا به وصدقنا بما جاء به. فصامه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه، فلما فرض الله تعالى صيام شهر رمضان كان من شاء صامه ومن شاء لا يصومه[8]، وهذا فيه دليل على إثبات النسخ في صيام يوم عاشوراء أو غيره من الأحكام، وأنه سبحانه يمحو ما يشاء ويثبت، ويخلق ما يشاء ويختار، وهذا من يسر الشريعة، كما فيه تربية للناس على اختلاف الأفعال مع عدم إنكارهم على بعضهم البعض؛ ما دام أن الأمر فيه متسع، ولذلك كان بعض الصحابة يصومه والبعض لا يصومه، ولم ينقل تخطئة بعضهم البعض، أو اتهام بنقص الإيمان أو غيره، بل كان يسود بينهم حسن الظن، وهذا هو الأصل في المسلم.
والمسلمون خالفوا أهل الكتاب في عديد من الأمور، لأنهم حرفوا الأصل الذي جاء به الأنبياء عليهم السلام، ومنها الأمور التعبدية، وصيام عاشوراء عبادة تعبد بها اليهود من قبلنا، وتَقَرَّبْنَا نحن معاشر المسلمين لله عز وجل بصيامه؛ ذلك أن شرع من قبلنا شرع لنا، فنحن إذن مخاطبون به إلا أن يأتي في شرعنا ما ينسخه[9]. وشرعنا نذب إلينا صيام يوم قبل عاشوراء أو يوم بعده، إذ أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد مخالفة اليهود، فقال صلى الله عليه وسلم: (لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع) [10]، فلم يأت العام المقبل حتى فوجعت الأمة بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إن اليوم العاشر من محرم عبادة، وذكرى، وعبرة، فهي عبادة يتقرب بها المسلم من ربه سيرا على خطى الحبيب صلى الله عليه وسلم بإتيان ما سنه، وإن لم يأمر به، ابتغاء ثواب الله عز وجل، قال صلى الله عليه وسلم: (لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع) [11]. وذكرى لثبات المؤمنين على الحق، لا يزحزحهم عن ذلك بطش المتكبرين، ولا عداوة الكافرين، كيف لا وهم بمعية الله سبحانه وتعالى، قال سبحانه: ﴿فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون، قال كلا إن معي ربي سيهدين، فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم، وأزلفنا ثم الآخرين، وأنجينا موسى ومن معه أجمعين، ثم أغرقنا الآخرين، إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين﴾[12]. وعبرة لكل ظالم متكبر، فإن عقابه في الدنيا وشيك، ومآله في الآخرة نار السعير، قال تعالى: ﴿ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار مهطعين مقنعي رءوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء ﴾[13]، وقال صلى الله عليه وسلم: (الظلم ظلمات يوم القيامة) [14].
هوامش المقال
*************************
[1]) سورة الدخان، الآيتان: 30-31.
[2]) سورة يونس، الآيتان: 90-91.
[3]) سورة ص، الآية: 24.
[4]) رواه من حديث المغيرة بن شعبة: البخاري (تحقيق: محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة -مصورة عن السلطانية بإضافة ترقيم محمد فؤاد عبد الباقي-، ط1: 1422): كتاب التهجد، باب: قيام النبي صلى الله عليه وسلم الليل حتى ترم قدماه، 2 /50، رقم: 1130، ومسلم (تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، بدون تاريخ): كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب إكثار الأعمال والاجتهاد في العبادة، 4 /2171، رقم: 2819.
[5]) رواه عن أبي موسى موقوفا: البخاري: كتاب الصوم، باب صيام يوم عاشوراء، 3 /44، رقم: 2002، ومسلم: كتاب الصيام، باب صوم يوم عاشوراء، 2 /792، رقم: 1125. واللفظ لمسلم.
[6]) رواه من حديث عائشة: البخاري: كتاب الصوم، باب صيام يوم عاشوراء، 3 /44، رقم: 2005، ومسلم: كتاب الصيام، باب صوم يوم عاشوراء، 2 /796، رقم: 1131.
[7]) رواه من حديث ابن عباس: البخاري: كتاب التفسير، باب ﴿وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده﴾، 6 /72، رقم: 4680، ومسلم: كتاب الصيام، باب صوم يوم عاشوراء، 2 /792، رقم: 1125.
[8]) رواه من حديث ابن عباس: البخاري: كتاب التفسير، باب ﴿وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده﴾، 6 /72، رقم: 4680، ومسلم: كتاب الصيام، باب صوم يوم عاشوراء، 2 /792، رقم: 1125.
[9]) النسخ وقع في الحكم؛ إذ أن صيام عاشوراء كان واجبا، فصار مستحبا عندما فرض الله سبحانه وتعالى صيام شهر رمضان.
[10]) رواه من حديث ابن عباس: مسلم: كتاب الصيام، باب أي يوم يصام في عاشوراء، 2 /798، رقم: 1134، وأبو داود في سننه (تحقيق: شعيب الأرناؤوط، محمد كامل قره بللي، دار الرسالة العالمية، دمشق، بيروت، ط1: 1430 /2009): كتاب الصوم، باب ما روي أن عاشوراء اليوم التاسع، 4 /106، رقم: 2443.
[11]) رواه من حديث ابن عباس: مسلم كتاب الصيام، باب أي يوم يصام في عاشوراء، 2 /798، رقم: 1134، وأبو داود في سننه: كتاب الصوم، باب ما روي أن عاشوراء اليوم التاسع، 4 /106، رقم: 2443.
[12]) سورة الشعراء، الآيات: 61_67.
[13]) سورة إبراهيم، الآيتان: 42-43.
[14]) رواه من حديث عبد الله بن عمر: البخاري كتاب المظالم والغصب، باب الظلم ظلمات يوم القيامة، 3 /129، رقم: 2447، ومسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، 4 /1996، رقم: 2579.
* راجعت هذا المقال بتكليف من رئيس المركز، لجنة مكونة من: محمد إليولو، فطيمة الزهرة المساري، خديجة أبوري.