مركز عقبة بن نافع للدراسات والأبحاث حول الصحابة والتابعينغير مصنف

بلال بن رَبَاح إمام المؤذِّنِين، وقدوة المؤمنين في الصبر والثَّبَات.

 

 

 

إعداد وتقديم: ذ/ نافع الخياطي

لبلال بن رباح مؤذن الرسول، صلوات الله وسلامه عليه، سيرةٌ من أروع سير النِّضال في سبيل العقيدة…وقصَّةٌ لا يملُّ الزَّمان مِنْ ترديدها…ولا تشبع الآذان من سِحْرِ نشيدها.

ولد بلالٌ في: (لسَّرَاةِ)([1]) قَبْلَ الهجرة بنحو ثلاثٍ وأربعين سنةً لأبٍ كان يُدعى: >رباحاً<، أَمَّا أُمُّهُ فكانت تُسَمَّى: (حمامة)…وهي أمةٌ([2]) سوداء مِنْ إماء مَكَّة…ولذا كان بعضُ النَّاس يَدْعُونهُ بابن السَّوْداء.

نشأ بلالٌ في: (أُمِّ القُرى)([3])، وكان مملوكاً لأيتامٍ من بني (عَبْدِ الدَّار) أَوْصَى بهم أَبُوهُم إلى أُمَيَّةَ ابن خَلَفٍ أحد رؤوس الكُفر.

ولمَّا أَشْرَقَتْ مكَّةُ بأنوار الدِّين الجديد…وَهَتَفَ الرَّسول الأكرم، صلى الله عليه وسلم، بكلمة التَّوحيد…كان بلالٌ من السَّابقين الأوَّلين إلى الإسلام؛ فقد أسلم، ولم يكن على ظَهْرِ الأرض مِنْ مُسْلِمٍ إلاَّ هُوَ وَبِضْعَةُ نَفَرٍ([4]) من السَّابقين الأوَّلين. على رأسهم خديجة بنت خُويلدٍ أمُّ المؤمنين. وأبو بكر الصِّدِّيق، وعَلِيُّ بن أبي طالب. وعمَّار بن ياسر، وأُمُّه سُمَيَّة بنت خياط. وَصُهَيْبٌ الرُّومِيُّ، والمِقْدادُ بن الأسود([5]).

وقد لَقِيَ بِلاَلٌ مِنْ أَذى المُشْرِكِينَ ما لم يَلْقَهُ سِواه…وَعَانَى مِنْ قَسْوَتِهِمْ، وبَطْشِهِمْ، وَغِلَظِ قُلُوبهم ما لَمْ يُعَانِهِ غَيْرُهُ…وصَبَرَ هُو ومَنْ معه مِنَ المُستضعفين على الابتلاء في سبيل الله كما لَمْ يَصْبِرْ أَحَدٌ.

فلقد كانت لأبي بكر الصِّدِّيق، وعلي بن أبي طالبٍ، عَصَبِيَّةٌ تَمْنَعُهُمَا، وَقَوْمٌ يَحْمُونَهُمَا، أمَّا أولئك المُستضعفون مِنَ الأَرِقَّاءِ والإِمَاءِ([6])؛ فقد نَكَّلَتْ([7]) بهم قُريشٌ أشدَّ التَّنْكيل…فَلَقَدْ أرادت أن تَجْعَلهم عِبْرَةً لِمَنْ تُحَدِّثُهُ نفسه بِنَبْذِ آلِهَتِهِمْ واتِّباع مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.

وقد تَصَدَّى لِتَعْذِيب هؤلاء طائفةٌ مِنْ أَغْلَظِ كُفَّار قُرَيْشٍ كَبِداً، وأَقْسَاهُم قَلْباً…فلقد بَاء أبو جَهْلٍ – أخْزاه الله- بإِثْمِ (سُمَيَّة بنت خياط) فَوَقَفَ عليها يَسُبُّ وَيَرْفُثُ([8])، ثُمَّ طَعَنَهَا بِرُمْحِهِ طعنةً دخلتْ مِنْ أَسْفَلِ بَطْنِهَا وَخَرَجَتْ مِنْ ظَهْرِهَا…فكانت أوَّلَ شهيدةٍ في الإسلام…

وأمَّا الآخرون مِنْ إخوتها في الله، وعلى رَأْسِهِمْ بلالُ بنُ رَبَاحٍ، فقد أَطَالَتْ قُرَيْشٌ تَعْذِيبهم…كانوا إذا تَوَسَّطَتِ الشَّمس كَبِدَ السَّمَاء، والْتَهَبتْ رِمَالُ مكَّة بالرَّمْضَاءِ([9])…يَنْزِعُونَ عنهم ثِيَابَهُمْ، ويُلْبِسُونهم دُروع الحديد([10])، ويَصْهَرُونَهُم([11]) بأشعَّة الشَّمْس المُتَّقِدة…وَيُلْهِبُون ظُهُورهم بالسِّيَاطِ([12])، ويأْمُرُونهم بأنْ يَسُبُّوا مُحَمَّداً.

فكانُوا إذا اشْتَدَّ عليهم التَّعْذيب، وعجزتْ طاقاتُهُم عَنْ تَحَمُّلِهِ يَسْتجيبون لهم فيما يُريدونه منهم، وقلوبُهم مُعَلَّقَةٌ بالله ورسوله إلاَّ بلالاً، رضي الله عنه وأرضاه؛ فقد كانت نفسه تَهُونُ عليه في الله عزَّ وجلَّ.

وكان الذي يتولَّى كِبْرَ تَعْذِيبه أُمَيَّةُ بنُ خَلَفٍ وزبانيتُه([13]). لقد كانوا يُلْهِبُونَ ظَهْرَهُ بالسِّيَاط؛ فيقول: أحدٌ أحدٌ…ويُطْبِقُون على صَدْرِهِ الصُّخُور؛ فيُنادي: أحدٌ أحدٌ…وَيَشْتَدُّونَ عليه في النَّكَالِ؛ فَيَهْتِفُ: أحدٌ أحدٌ…كانوا يَحْمِلُونه على ذِكْرِ اللاَّتِ والعُزَّى([14])؛ فَيَذْكُرُ الله ورسوله…ويقُولُون له: قُلْ كما نَقُول…فَيُجيبهُم: إنَّ لِسَانِي لا يُحْسِنُه…فَيَلِجُّونَ([15]) في إيذائه، ويُمْعِنُونَ في تعذيبه…

وكان الطَّاغيةُ الجَبَّارُ أميَّةُ بنُ خَلَفٍ إذا مَلَّ مِنْ تعذيبه طَوَّقَ عُنُقَهُ بِحَبْلٍ غليظ، وأسْلَمَهُ إلى السُّفَهَاء والوِلْدَان، وأمَرَهُم أن يَطُوفُوا به في شِعَابِ مَكَّة، وأنْ يَجُرُّوهُ في أَباطِحِها…فكان بِلالٌ رضوان الله عليه يَسْتَعْذِبُ([16]) العَذَابَ في سبيل الله ورسوله، وَيُرَدِّدُ على الدَّوام نشيده العُلْوِي: أحَدٌ أحدٌ…أحدٌ أحدٌ…فلا يَمَلُّ مِنْ تَرْدَادِه، ولا يَشْبَعُ مِنْ إِنْشَادِه.

وقد عَرَضَ أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ رضوان الله عليه على أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ أنْ يَشْتَرِيَهُ مِنْهُ بِتِسْعِ أَوَاقٍ مِنَ الذَّهَب…فقال له أُمَيَّةُ بَعْدَ أن تَمَّتِ الصَّفقة: لو أَبَيْتَ أَخْذَهُ إلاَّ بِأُوقيَّةٍ لَبِعْتُهُ. فقال له الصِّدِّيق: لو أَبَيْتَ بَيْعَهُ إلاَّ بمائةٍ لاشْتَرَيْتُه…

ولمَّا أَخْبَرَ الصِّدِّيقُ الرَّسُولَ صلوات الله وَسَلاَمُهُ عليه باشترائه بلالاً، وإنْقَاذِه مِنْ أَيْدِي مُعَذِّبِيه، قال له النبيُّ عليه الصلاَّة والسَّلام: (الشَّرِكَةَ([17]) يا أبا بكر). فقال له الصِّدِّيق رضوان الله عليه: (لقد أَعْتَقْتُهُ يا رسول الله).

ولمَّا أَذِنَ الله لنبيِّهِ، صلى الله عليه وسلم، بالهجرة إلى المدينة…هَاجَرَ بلالٌ رضوان الله عليه في جُمْلَةِ مَنْ هَاجَر…ونَزَلَ هُوَ والصِّدِّيقُ وعامِرُ بْنُ فَهِيرَة([18]) في بيتٍ واحدٍ، فَأُصِيبُوا بالحُمَّى جَمِيعاً فَكَانَ بلالٌ إذا أَقْلَعَتْ عَنْهُ([19]) الحُمَّى رَفَعَ عَقِيرَتَهُ([20])، وجَعَلَ يترنَّمُ بصوته العذْبِ قائلاً:

أَلاَ لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً  **  (بِفَخٍّ)([21]) وَحَوْلِي (إِذْخِرٌ)([22]) و(جَلِيلُ)([23]).

وَهَلْ أَرِدَنْ يَوْماً مِيَاهَ (مَجَنَّةٍ)([24])  **  وَهَلْ يَبْدُوَنْ لِي (شَامَةٌ)([25]) وَ)طَفِيلُ(([26]).

ولا عَجَبَ إذا حَنَّ بلالٌ إلى مكَّة وشِعابها، واشْتاقَ وِدْيَانَهَا وَجِبَالَهَا…فَهُنَاك ذَاقَ حَلاَوَةَ الإيمان…وهُناك اسْتَعْذَبَ العَذَاب في جَنْبِ الله([27])…وهُناك انتصر على نفسه وعلى الشَّيْطان…

استَقَرَّ بلالٌ في (يَثْرِب) بعيداً عَنْ أَذَى قُريشٍ، وتفرَّغَ لنبيِّه وحبيبه مُحَمَّدٍ صلوات الله وسلامه عليه.

فكان يَغْدو معه إذَا غَدَا، ويعُود معه إذا عَادَ…ويُصَلِّي مَعَهُ إذا صَلَّى، وَيَغْزُو معه إذا غَزَا…حتَّى أَصْبَحَ أَلْزَمَ لَهُ مِنْ ظِلِّه([28]).

وَلَمَّا شَيَّدَ الرسول، صلوات الله وسلامه عليه، مَسْجِدَهُ في المدينة، وَشُرِعَ الأذان…كان بلالٌ أوَّلَ مُؤَذِّنٍ في الإسلام.

وكان إذا فرغ من الأذان وَقَفَ على باب بَيْتِ الرَّسُول عليه الصلاة والسَّلام، وقال: حيَّ على الصَّلاة، حيَّ على الفلاح…

فإذا خَرَجَ الرَّسول، صلى الله عليه وسلم، مِنْ حُجْرَتِهِ ورآهُ بلالٌ مُقْبِلاً ابْتَدَأَ بالإقامة.

وقد أهدى (>النَّجاشي) مَلِكُ (الحبشة) الرَّسُول الأكرم، صلى الله عليه وسلم، ثلاثةَ رماح قصيرة من نفائس ما يقتنيه المُلُوك، فاحتفظ لنفسه بواحدٍ منها، وأعْطَى عليّ بن أبي طالبٍ واحداً، وأعطى عُمَر بن الخطاب واحداً…

ثُمَّ اختصَّ بِرُمْحِهِ بِلاَلاً، فجعلَ بِلاَلٌ يسعى به بين يَدَيْهِ أَيَّام حياته كُلَّهَا…فكان يَحْمِلُهُ في العيدين، وفي صلوات الاستسقاء، وَيَرْكُزُهُ أمامه إذا أُقيمتِ الصَّلاةُ في غير المسجد.

ولقد شَهِدَ بِلاَلٌ مع نبيِّه >بدراً<؛ فرأى بِعَيْنَيْهِ كيف أَنْجَزَ([29]) الله وَعْدَهُ، وَنَصَرَ جُنْدَهُ، وشهد مَصَارِعَ الطُّغَاةِ الذين كانوا يُعَذِّبُونَه سُوءَ العذاب…وَأَبْصَرَ أَبَا جَهْلٍ، وأُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ صَرِيعَيْنِ تَنُوشُهُمَا([30]) سُيُوفُ المُسلمين، وَتَنْهَلُ مِنْ دِمَائِهِمَا رِمَاحُ المُعَذَّبِين.

ولمَّا دَخَلَ الرَّسول، صلى الله عليه وسلم، مَكَّة فاتحاً على رَأْسِ كَتِيبَتِهِ الخضراء كان معه دَاعِي السَّمَاءِ بِلاَلُ بْنُ رَبَاحٍ. وحين دَخَلَ الكعبة المُعَظَّمَة لم يكُنْ في صُحْبَتِهِ إلاَّ ثلاثةُ رجالٍ هُمْ: عُثْمَان بْنُ طَلْحَةَ([31]) حَامِلُ مَفَاتيح الكعبة المُشَرَّفَة. وأُسامةُ بنُ زيْدٍ حِبُّ رسول الله وابن حِبِّه. وبلالُ بن رباحٍ مُؤَذِّنُ رسول الله.

ولمَّا حانتْ صلاةُ الظُّهْرِ كانت الأُلُوف المُؤَلَّفَةُ تُحِيطُ بالرَّسُول الأكرم صلوات الله عليه وسلامه.

وكان الذين أسلموا مِن كُفَّار قُريشٍ طَوْعاً أوْ كَرْهاً؛ يَشْهَدُونَ ذلك المَشْهَدَ الكبير…عند ذلك دعا الرَّسول، صلى الله عليه وسلم، بلالَ بنَ رَباحٍ، وَأَمَرَهُ أنْ يَصْعَدَ على ظَهْرِ الكعبة…وأنْ يُعْلِنَ مِنْ فَوْقِهَا كَلِمَةَ التَّوْحيد، فَصَدَعَ بلالٌ بالأمْر…وأرسل صَوْتَهُ الجَهِيرَ بالأَذَان.

فامتَدَّتْ آلافُ الأَعْنَاقِ نحوه تَنْظُرُ إليه، وَانْطَلَقَتْ آلافُ الأَلْسُنِ تُرَدِّدُ وراءه في خُشُوعٍ.

أمَّا الذين في قُلوبهم مَرَضٌ([32])؛ فقد أخَذَ الحَسَدُ يَنْهَشُ قُلُوبهم نَهْشاً، وجعلتِ الضَّغِينةُ([33]) تُمَزِّقُ قلوبهم تمْزيقاً. فما إِنْ وَصَلَ بلالٌ في الأذانِ إلى قوله: >أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً رسول الله< حتى قالت>جُوَيْرِيَةُ بِنْتُ أَبِي جَهْلٍ<: لَعَمْرِي لَقَدْ رَفَعَ الله لَكَ ذِكْرَك…أمَّا الصَّلاةُ فَنُصَلِّي ولكِنَّنَا- والله- ما نُحِبُّ مَنْ قَتَلَ الأَحِبَّةَ. وكان أبوها قد قُتِلَ في (بَدْرٍ).

وقال خالد بنُ أُسَيْدٍ: الحمد لله الذي أَكْرَمَ أَبِي فَلَمْ يَشْهَدْ هذا اليومَ، وكان أبُوه قد مات قَبْلَ الفتح بِيَوْمٍ واحد…وقال الحارث بن هشامٍ: وَاثُكْلاَه…لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ أَنْ أَرَى بلالاً فَوْقَ الكعبة. وقال الحكم بن أَبِي العاص: هذا- والله- الخَطْبُ الجَلَلُ أن يُصْبِحَ عَبْدُ بَنِي >جُمَحٍ< يَنْهَقُ على هذه البَنِيِّة([34]).

وكان معهم أبو سفيانَ بْنُ حَرْبٍ، فقال: أمَّا أنا فلا أقولُ شيئاً…فَإِنِّي لو فُهْتُ([35]) بكلمةٍ؛ لَنَقَلَتْها هذه الحصاةُ إلى محمَّد بن عبد الله.

ولقد ظَلَّ بلالٌ يُؤَذِّنُ للرسول صلوات الله وسلامه عليه طوال حياته. وظَلَّ الرسول الكريم، صلى الله عليه وسلم، يَأْنَسُ إلى هذا الصَّوْتِ الذي عُذِّبَ في الله أَشَدَّ العذاب وهو يُرَدِّدُ: أَحَدٌ…أحدٌ.

ولما انتقل الرَّسول الأكرم، صلى الله عليه وسلم، إلى الرَّفيق الأعلى، وحان وَقْتُ الصَّلاة…قام بلالٌ يُؤَذِّنُ في الناس- والنبي الكريم، صلى الله عليه وسلم، مُسَجًّى([36]) لَمْ يُدْفَنْ بَعْدُ- فلمَّا وَصَلَ إلى قوله: (أشهد أن محمداً رسول الله)…خَنَقَتْهُ العَبَرَاتُ…واحْتُبِسَ([37]) صَوْتُهُ في حَلْقِهِ…وأجهش المُسلمون في البكاء، وأَغْرَقُوا في النَّحِيب. ثُمَّ أَذَّنَ بَعْدَ ذلك ثلاثةَ أَيَّامٍ.

فكان كُلَّمَا وَصَلَ إلى قوله: (أَشْهَدُ أنَّ محمَّداً رسول الله)؛ بَكَى وَأَبْكَى…عِنْدَ ذلك طَلَبَ مِنْ أَبِي بكرٍ خليفة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أَنْ يُعْفِيَهُ مِنَ الأَذان بعد أن أَصْبَحَ لا يَحْتَمِلُهُ([38]).

وَاسْتَأْذَنَهُ في الخروج إلى الجهاد في سبيل الله، والمُرَابَطَةِ([39]) في بلاد الشَّام…فَتَرَدَّدَ الصِّدِّيقُ رضوان الله عليه في الاستجابة لِطَلَبِه، والإِذْنِ لَهُ بِمُغادرة المدينة…فقال له بلالٌ: إن كُنْتَ اشْتَرَيْتَنِي لِنَفْسِكَ فَأَمْسِكْنِي…وإن كُنْتَ قد أَعتَقْتَنِي لله فَخَلِّني لِمَنْ أَعْتَقْتَنِي له. فقال أبو بكر: والله ما اشْتَرَيْتُكَ إلاَّ لله…وما أَعْتَقْتُكَ إلاَّ في سبيله.

فقال بلالٌ: إِنِّي لاَ أُؤَذِّنُ لأحدٍ بعد رسول الله. فقال أبو بكر: لك ذلك.

رَحَلَ بلالٌ عن المدينة المُنَوَّرة مَعَ أوَّل بَعْثٍ مِنْ بُعُوثِ المُسْلمين، وأقامَ في: (داريَّا) بالقرب مِنْ (دمشق).

ولقد ظَلَّ مُمْسِكاً عَنِ الأذان حتى قَدِمَ عُمَرُ بن الخطَّاب بلاد الشَّام…فَلَقِيَ بِلالاً رضوان الله عليه بعد غِيَابٍ طويلٍ…

وكان عُمَرُ شديدَ الشَّوْقِ إليه، عَظِيمَ الإجْلال له، حتَّى إنَّهُ كان إذا ذُكِرَ الصِّدِّيقُ أَمَامَهُ يقول: >إنَّ أبا بكرٍ سيِّدُنا، وهو الذي أَعْتَقَ سَيِّدَنَا<؛ يعني: [بلالاً رضوان الله عليه].

وهناك عَزَمَ الصَّحابةُ على بلالٍ أَنْ يُؤَذِّنَ في حَضْرَةِ الفارُوق…فما إِنْ ارْتَفَعَ صوتُهُ بالأذان حتَّى بكى عُمَر، وبكى معه الصَّحَابةُ حتَّى اخْضَلَّتِ اللِّحَى([40]) بالدُّمُوع.

فلقد أَهَاجَ بلالٌ أَشْوَاقَهُمْ إلى عُهُودِ المدينة المنوَّرة، سُقْياً لها مِنْ عُهُودٍ…ولقد ظلَّ دَاعِي السَّماء يُقيمُ في منطقة دمشق حتَّى وَافَاهُ الأجلُ المَحْتُومُ([41])؛ فكانتِ امرأتهُ تُعْوِلُ إلى جَانِبِهِ في مَرَضِ الموتِ، وَتَصيحُ قائلةً: وَاحَزَنَاهُ…وكان هو يَفْتَحُ عَيْنَهُ في كُلِّ مَرَّةٍ وَيُجِيبُهَا قائلاً: وَافَرَحَاه…ثُمَّ لَفَظَ أنفاسَهُ الأخيرة وهو يُرَدِّدُ:

غَداً نَلْقَى الأَحِبَّهْ…مُحَمَّداً وَصَحْبَهْ

غَداً نَلْقَى الأَحِبَّهْ…مُحَمَّداً وَصَحْبَهْ([42]).

الدروس والعبر المستخلصة من القصة:

1-  قصة حياة (بلال بن رباح) مؤذن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قصَّةٌ مُشَوِّقَةٌ، وحقَّ للأجيال من السَّلَف والخَلَف، أن تأخذ منها أعظم العِبَر، أغْلى من اللآلئ والدُّرر.

2-  أثنى الله، عز وجل، على السابقين إلى الخيرات، ثناء عطِراً، ووعَدَهم خير الدنيا والآخرة.

3-  خديجة بنت خُوَيْلِد: أم المؤمنين، رضي الله عنها، قدوة كل امرأة مسلمة مؤمنة، باعتبارها أول من قال: أشهد أن لا إله إلاَّ الله، وأن محمداً رسول الله، وباعتبار مواقفها العظيمة من النبي، صلى الله عليه وسلم.

4-  و>سُمية بنت خياط< أوَّل شهيدة في الإسلام، ضربت أروع الأمثلة في الثبات على الدين، وتحمَّلت مع كافة أُسْرتها ألواناً من العذاب المُهِين، ابتغاء مرضاة الله التي وعَد بها الصابرين المتَّقين.

5-  قُساة القلوب- كحال كُفار قريش- يسومُون الضعفاء ألواناً من المَهَانة والعذاب. والمسلمون الأوَّلون تَحَمَّلُوا مسؤولية نَشْرِ الإسلام في بقاع الأرض، عسى أن تحافظ الأجيال المتعاقبة على هذا الخير العميم، والفضل العظيم.

6-  جاء الإسلام بتحرير العبيد، ومحْو آثار الرِّقِّ والعبودية، حتَّى أدخل ذلك في أنواع من الكفارات.

7-  مَن أُكْرِهَ على النطق والإشهاد بغير الحق له الرخصة من الله، عز وجل، في ذلك: (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنُ اكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالاِيمَان)([43]).

8-  هذا النَّمط من التَّمنِّي الشعري: >ألا ليْت شِعري< صار تقليداً معروفاً عند كثير من الشعراء.

9-  الرمح النبوي، اختص به النبي، صلى الله عليه وسلم، بلالاً؛ ليحمله في كثير من المهام الدينية، ولا يزال رمزاً عند وُلاة الأمور إلى الآن.

10- التفاخُر بالأحساب، والأنساب من شِيَمِ الجاهلية، أما الإسلام فقد جاء بنقيضها، واعتبر الناس كلهم إخوة، لا فَضْل لأحد على آخر إلاَّ بالتَّقْوَى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ الله عَلِيمٌ خَبِير)([44]).

11-  ونتساءل: مَنْ مِنَّا يُحِّبُّ النبي، صلى الله عليه وسلم، كما كان يُحِبُّهُ الصَّحابة الكرام، وفي مُقدِّمتهم: مُؤَذِّنُهُ، ومُحِبُّه >بلال< الذي أصبح بعد موت النبي، صلى الله عليه وسلم، وهو في الأذان يكاد يَخْتَنِقُ بِالعَبَرَاتِ، وَيَحْتَرِقُ قَلْبُهُ بِالزَّفَرَات؟! تَأَوُّهاً وحزنا على فِرَاقِ سيِّد الوجود، والسبب في كل موجود: (الرَّحْمَةِ المُهْدَاةِ): (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً للعَالَمِين)([45]).

 والحمد لله رب العالمين

 


([1]) قال الواقدي: كان بلال من مولدي (السَّرَاةِ) فيما بين اليمن والطائف. انظر: المعارف؛ لابن قتيبة: 1/ 176.وقال ابن كثير في: البداية والنهاية: (السَّرَاةُ) مكان بين مكة واليمن: 5/ 335. وقيل: هو أعظم جبال العرب، وهو ما بين جرش والطائف، وقيل: هو جبل الأزد الذين هم به يقال لهم: (السَّرَاة): انظر: الروض المعطار في خبر الأقطار؛ لمحمد بن عبد المنعم الحِميري: 1/ 311. وفي معجم البلدان؛ لياقوت الحموي: (قال الأصمعي: الطَّوْدُ جبل مُشْرِفٌ على عَرَفة يَنْقَادُ إلى صنعاء، يقال له: (السَّرَاةُوإنما سمي بذلك لعلوه. وسراةُ كل شيء: ظهره، يقال: سَرَاةُ ثَقِيفٍ، ثم سَرَاةُ فَهْمٍ وعَدْوان، ثم سَرَاةُ الأزد.): 3/ 204.

([2]) الأَمَةُ: الجارية المملوكة لسيدها.

([3]) أُمّ القُرى: مكة المكرَّمة.

([4]) بِضْعَةُ نفر: جماعةٌ قليلةٌ لا تزيد عن عشرة.

([5]) المِقْداد بنُ الأسْوَد: هو المقداد بن عمرو، قديم الإسلام، هاجر إلى الحبشة والمدينة، وشهد بدراً وغيرها. مات سنة: 33هـ في خلافة عثمان.

([6]) الأَرِقَّاء والإماء: العبيد المملوكون رجالاً ونساءً.

([7]) نَكَّلَتْ بهم: عَذَّبَتْهُمْ وجعلتهم عِبْرَةً لغيرهم.

([8]) يَرْفُثُ: يَشْتُمُ شتماً قبيحاً.

([9]) الرَّمْضَاء: الرِّمال الملتهبة بحرارة الشَّمس.

([10]) دروع الحديد: ثياب من حديد تحمي صدر الفارس.

([11]) يصهرونهم: يحرقونهم بالشمس.

([12]) السَّوْط: جلد مضفور يضرب به.

([13]) زَبَانِيَتُهُ: جنوده الغلاظ القلوب.

([14]) اللاَّت والعُزَّى: وهي أصنام ذكرت في القرآن الكريم: {أَفَرَايْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْاُخْرَى}. سورة: النجم، الآيتان: 19، 20.

([15]) يَلِجُّون: يتعمقون في الإيذاء.

([16])يَسْتَعْذِبُ: العذاب: يجد العذاب عذاباً.

([17]) الشَّرِكة يا أبا بكر: أي: شاركني فيه.

([18]) عامر بن فَهِيرَة: من بني تميم أحد السَّابقين إلى الإسلام، وكان مِمَّنْ يُعَذَّب في الله، اشتراه أبُو بكر وأعتقه، استشهد في بئر معونة، سنة: 4 هجرية.

([19]) أَقْلَعَتْ عنه: تركته.

([20]) رَفَعَ عَقِيرَتَهُ: رفع صوته.

([21]) كما هي في مسند أحمد: 43/ 51، وأخبار مكة؛ للأزرقي: 1/ 179،  ومعجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع؛ لأبي عُبيد البكري الأندلسي: 3/ 1015، ومعجم البلدان؛ لياقوت الحموي: 3/ 315. وفي رواية: (بِوَادٍ)؛ كما هي في: موطأ مالك: 2/ 890، ومصنف ابن أبي شيبة: 5/ 275، وصحيح البخاري: 3/ 23، وغير ذلك. والكلمتان: (بفخ)، و(بواد): الوزن فيهما معاً صحيح. و(فخ): موضع بمكة. انظر: معجم ما استعجم؛ لأبي عبيد البكري: 4/1351.

([22]) الإذخر: نباتٌ طَيِّبُ الرَّائحة.

([23]) جَلِيلُ: بفتح الجيم، وكسر اللاَّم الأولى، نَبْتٌ ضعيف؛ وهو الثُّمَامُ. انظر: فتح المُبْدي بشرح مختصر الزَّبيدي؛ لابن حجازي الشرقاوي: 2/ 249.

([24]) مَجَنَّة: بفتح أوَّله وثانيه، بعده نونٌ مُشدَّدة، اسْمُ سُوقٍ من أسواق العرب في الجاهلية، على مسافة بريد من مكة. انظر: معجم البلدان؛ لياقوت الحموي: 5/ 58.

([25]) شامة وطفيل: جبلان بمكة.

([26]) البيتان من البحر الطويل.

([27]) في جَنْبِ الله: ابتغاء وجه الله.

([28]) أَلْزَمَ له مِن ظِلِّه: ملازم له لا يتركه.

([29]) أنجز: أوفى بوعده.

([30]) تَنُوشُهُما: تُصِيبُهُمَا.

([31]) عثمان بن طلحة: حاجب البيت، أسلم في صلح الحديبية، وهاجر مع خالد بن الوليد، وقد رافق أم سلمة في هجرتها إلى المدينة قبل إسلامه.

([32]) في قلوبهم مرضٌ: غير خالصي الإيمان.

([33]) الضَّغِينة: الحِقْدُ، وإضمار السُّوء.

([34]) البَنِيَّة: المقصود: الكعبة المشرَّفة. انظر: تاريخ الطبري: 2/ 360، تاريخ دمشق؛ لابن عساكر: 40/ 329، وضبطها ياقوت الحموي في: معجم البلدان بباء موحدة ونون وياء مثناة من تحت مشددة: (البَنِيَّة)، وقال: (البَنِيَّةُ من أسماء مكة، حرسها الله تعالى): 1/ 502. وكانت تُدْعَى: بَنِيَّة إبراهيم عليه السلام؛ لأنه بناها. النهاية في غريب الحديث والأثر؛ لابن الأثير الجزري: 1/ 158.

([35]) لو فُهْتُ: لو خرجت كلمة من فمي.

([36]) مُسَجَّى: مُغَطَّى.

([37]) احتَبَسَ صَوْتُهُ في حَلْقِهِ: لم يستطع الكلام.

([38]) لا يَحْتَمِلُهُ: لا يطيق أن يؤذن في غياب رسول الله، صلى الله عليه وسلم.

([39]) المُرَابَطَة: الملازَمة لثغور الأَعْدَاء.

([40]) اخْضَلَّت اللِّحى: ابتلَّت.

([41]) توفي بلال، رضي الله عنه، بدمشق، وقيل: بحلب سنة: عشرين هجرية. وقيل: ثمان عشرة، ودفن هُنالك. انظر: تلقيح فهوم أهل الأثر في عيون التاريخ والسير؛ لأبي الفرج بن الجوزي، ص: 91. وقيل: كان موته بداريا من أرض الشام، وقيل: بدمشق، ودفن عند الباب الصغير وعمره ثلاث وستون سنة. انظر: شذرات الذهب في أخبار من ذهب؛ لعبد الحي بن أحمد بن محمد العكري الحنبلي: 1/ 31. والنجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة؛ لابن تغري بردي: 1/ 75.

([42]) القصة من كتاب: صور من حياة الصحابة؛ للدكتور عبد الرحمن رأفت الباشا، ص: 303- 312.

([43]) سورة: النحل، من آية: 106.

([44]) سورة: الحجرات، آية: 13.

([45]) سورة: الأنبياء، آية: 107.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق