مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةغير مصنف

الدَّعْوةُ الإِسْلامِية بَيْنَ العَهْد المَكِّي وَالمَدَني: خَصَائِصٌ وَمُمَيِّزَات

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.

 

 

بقلم الباحث: د/محمد علي اليُولو الجزولي*

تمهيد: 

      الحَمْدُ لله الَّذي أَنْعَم فَأَزْجَل العَطَاء وتَكَرَّم، وبَعث نبياً بلِسَانٍ عَربي مُبين فَأفْحَم، وسَخَّر لَه أصْحَاباً يَحُوطونه بُكل مُرْهَفٍ مُصَمْصَم،   فكانت دعوته في مكة تَسْرِي في الوِجْدَان كالنُّور الأَقْوَم، فانبرى صناديدِ قُريشٍ يدفعون هذا الحق بكل ما أتوه من قوة، وهُم فِي قَرَارة أَنْفُسِهم يَعْلَمُون صِدْقَ النَّبي الأَعْظَم، قال تعالى: (فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ؛ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) [1].  

وقد صدق فيهم قول البوصيري:

كـيف يهـدي الله منهـم عنيـدًا***كـلما أَبْـصَـرَ حـقّـًا تَـغَـابــى

وَإذا جِـئْــتَ بـآيـاتِ صــدْقٍ***لم تَـزِدْهـم بِـكَ إلاَّ ارْتـيـابــا

    ولقد مرت الدعوة الإسلامية بمرحلتين فاصلتين من تاريخها المجيد، تقتضيها الحكمة الربانية، وتحوطها العناية الإلهية، وهي مرحلة الدعوة المكية، ومرحلة الدعوة المدنية، حيث تتميز كل مرحلة من هذه المراحل بخصائص وسمات متباينة، وسيتناول هذا المقال بيان بعض من هذه الخصائص من خلال النقاط الآتية:

1 ـ الدعوة الإسلامية في العهد المكي ترتكز على ترسيخ مبادئ الإيمان في النفوس:

وذلك من خلال تصحيح كثير من المفاهيم الجاهلية المتعلقة بالألوهية والربوبية، ولهذا نزل القرآن المكي لهذه الأغراض بالذات: حيث نسمع حديث القرآن عن: الألوهية، والربوبية، والنبوة، والجنة، والنار،..الخ.

بينما الدعوة الإسلامية في عهدها المدني اهتمت بالجانب التشريعي، وأصول بناء الدولة المسلمة، حيث نزلت أحكام العبادات الكبرى: الصلاة، الزكاة، الحج، الصوم، الجهاد، الغنائم، الأموال، أحكام أهل الذمة، البيعة والشورى…الخ.

2 ـ الدعوة الإسلامية في العهد المكي تتميز بأسلوب اللين وضبط النفس:

 من خلال الدعوة بالحسنى، والصبر على الأذى، بينما الدعوة في العهد المدني مبنية على أساس المدافعة والمجاهدة، والمصاولة للباطل وأهله، حيث انطلقت جحافل الإيمان، وجيوش الرحمن تدك معاقل الشرك والطغيان، بعد إقامة الحجة والبرهان، ولهذا نزلت آيات القرآن المدني قوية في معناها، واضحة في مبناها قال تعالى: ( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كلّ مرصد) [2]، بعدما كان يأمر بالصفح عنهم في القرآن المكي قال تعالى : (وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا  جَمِيلًا) [3] ، (واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون) [4] ، (فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون) [5].

 3 ـ الدعوة الإسلامية في العهدين المكي والمدني، تتميز ببيان فئة من الناس، وفضح نحلتهم:

فالمنافقون واليهود لم يعرف لهم كيان حقيقي إلا في المدينة النبوية، والنفاق وخسة الطبع إنما يفشو في بيئة يكون فيها للحق صولة، فتظل الرؤوس العفنة متوارية عن الأنظار تتحين الفرص، لذا لم يكن للمنافقين واليهود أثر يذكر في العهد المكي؛ لأن المؤمنين كانوا حينئذ قلة مستضعفين في الأرض، مع جبروت المشركين وسطوتهم، ومن كان هذا حاله لا ينافق الناس؛ أما لما تمكن المسلمون من تأسيس دولتهم بالمدينة، وانتصارهم على المشركين ببدر، وعلى معاقل اليهود نجم إذ ذاك النفاق، وسطع نجمه، وقد كشفهم الله تبارك وتعالى وهتك سترهم في سورة المنافقين فقال: (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ. اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ. ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ . وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) [6].

4 ـ الدعوة الإسلامية في العهد المكي كانت دعوة حجاج، ولجاج:

وذلك بمقارعة الحجة بالحجة، وبيان فساد مناهج المشركين في تصورهم لله  والحياة والإنسان؛ في حين كانت الدعوة الإسلامية في المدينة دعوة قوة، وعزة، وطمأنينة، وتشريع، وجهاد، وبناء حضاري كبير.

5 ـ  في العهد المكي قضى النبي أكثر زمن دعوته في غرس أصول العقيدة، ومبادئ التوحيد:

وذلك قرابة ثلاث عشرة سنة كلها حديث في الإيمان ونواقضه، لم يتطرق فيها إلى فرض، أو نفل، أو نذب، أو سنة،  ثم قضى بعد ذلك عشر سنين بالمدينة، وفيها حديث عن العقيدة، والشريعة، وبناء الدولة المسلمة.

6 ـ الدعوة الإسلامية في العهد المكي تتميز عن الدعوة في العهد المدني بما  عاشه الصحابة رضوان الله عليهم ومورس عليهم من شدة العذاب، وألوان الظلم، والتضييق في أرزاقهم:

       فمنهم من عذب وصبر، ومنهم من قتل صبرا، حتى جاء الصحابة للنبي ﷺ ذات يوم يشكون إليه حالهم ورسول الله ﷺ مستند ظهره إلى الكعبة فقالوا:” ألا تستنصر لنا ألا تدعو الله لنا؟ قال: كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون “[7] ، بينما في العهد المدني عاش المسلمون أعزة، آمنيين في أموالهم وأنفسهم وعقيدتهم، وأصبح الرسول ﷺ هو إمامهم في الصلاة، وقائدهم في الجهاد، وقاضيهم في الخصومات، والآمر الناهي في الدولة. 

7 ـ ومن الخصائص التي تصطبغ بها الدعوة في المدينة عن مثيلتها في مكة:  

تميز المسلمين ببلد يأويهم، وإخوان ينصرونهم: في حين قل النصير في العهد المكي بعدما واجه تعنث قومه القرشيين وصدهم عن دعوته، ونشر دينه، ولذلك كان النبي ﷺ يسعى دوما ـ وهو في مكة ـ إلى توفير بيئة حاضنة للدعوة، فتراه يبحث عن النصير في القرى النائية كالطائف، وفي مواسم الحج، ويقول :” من يأويني لأبلغ كلام ربي ” [8]. أو كما قال ﷺ.

8 ـ مرت الدعوة في العهد المكي بمرحلتين متميزتين:

مرحلة الدعوة السرية: دامت ثلاث سنوات، ومرحلة الدعوة العلنية من بداية السنة الرابعة من النبوة إلى هجرته ﷺ إلى المدينة.

 أما الدعوة في العهد المدني فمرت بمراحل منها: مرحلة بناء الدولة والإنسان، ومرحلة الخط الجهادي العسكري، أعقبه بناء جملة من التحالفات، والصلح المؤقت مع كيانات مختلفة: اليهود، الأعراب، مشركي مكة، ومراسلة الرسل والملوك، ثم مرحلة تصفية الوجود الوثني في جزيرة العرب، مصداقا لقول النبي ﷺ :”لا يجتمع دينان في جزيرة العرب[9].  بحيث لم يلتحق النبي ﷺ بالرفيق الأعلى إلا وقد دانت العرب بالإسلام قاطبة.

خاتمة

      لا شك أن لكل مرحلة من مراحل الدعوة الإسلامية لها ما يميزها عن غيرها؛ لهذا يجدر بالدعاة إلى الله تبارك وتعالى أن يستمدوا منهج دعوتهم، وأسلوب رسالتهم من سيرة النبي الأكرم ﷺ ، فيستحضرون الرفق، والصبر، والإغضاء، والسَّماحة، حال الضعف، وقلة النصير في دعوتهم للناس.

      فأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل هذا العمل في ميزان حسناتي يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

والحمد لله رب العالمين

———————-

لائحة المصادر والمراجع:

-الجامع الصحيح المختصر: لمحمد بن إسماعيل أبو عبدالله البخاري الجعفي، دار ابن كثير ، اليمامة، بيروت، ط2، 1407هـ/ 1987م. 

-المسند الصحيح المختصر من السنن بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله : لأبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري، ت: أبو قتيبة نظر محمد الفاريابي، دار طيبة، الرياض، ط1، 1427هـ/2006م.

——————–

 

هوامش المقال:

[1]  ـ الأنعام: 33.

[2]  ـ التوبة: 5.

[3]  ـ المزمل: 10.

[4]  ـ النحل 127.

[5]  ـ سورة الزخرف 89.

[6]  ـ المنافقون: 1- 2- 3 -4.

([7])-   رواه البخاري في كتاب: المناقب باب: علامات النبوة في الإسلام(3852).

[8]  ـ المنافقون: 1- 2- 3 -4.

[9]  ـ المنافقون: 1- 2- 3 -4.

*راجعت المقال الباحثة: خديجة أبوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق