وحدة الإحياءحوارات

الاجتهاد والتجديد وتدافع المرجعيات

في هذا الحوار الفكري الشامل مع الدكتور عبد المجيد النجار شدد فضيلته على الأهمية القصوى التي يلعبها تمثل العقيدة بمفهومها الشامل في رسم معالم المصير الحضاري للمجتمعات الإسلامية، وكذا على أهمية التراث العربي الإسلامي في رسم المعالم المستقبلية لأي مشروع تجديدي حقيقي.. وعن علاقة النهضة باللغة نفى إمكانية تحقيق أية أمة من الأمم لنهضتها الشاملة دون الاعتماد على لغتها القومية، وفي هذا السياق دعا إلى حتمية الاهتمام والارتقاء باللغة العربية كشرط لأية نهضة عربية إسلامية منشودة..
كما أبرز أن الكليات الخمس الأساسية ليست هي الضرورات التي جاءت الشريعة تقصد إليها على سبيل الحصر، وأن سنّة التطور تقتضي إضافة ضرورات أخرى..ولذلك فقد أضاف مقصدين كليين للمقاصد المأثورة لتغدو سبعا؛ والمقصدين اللذين أضاف هما مقصد حفظ البيئة ومقصد حفظ المجتمع، تاركا بذلك الباب مشرعا لإضافة مقاصد كلية جديدة تستجيب لتطورات الحياة وتعقدها..
وعن رؤيته لتجديد العلوم الإسلامية أوضح الأستاذ عبد المجيد النجار أن الذي يحتاج إلى تجديد ليس هذه العلوم في حد ذاتها، وإنما الفكر الإسلامي الذي ينتج هذه العلوم، مشددا على ضرورة إعطاء التربية الفكرية الأهمية التي تستحقها في تربية الناشئة على التفكير العلمي الصحيح المنتج للمعرفة والموصل إلى الحقيقة، بعيدا عن كل أشكال الأحادية والنمطية والانغلاق، كما أكد على حيوية انطلاق العلوم الإسلامية من الأصول الدينية للأمة على أن تنفتح وتستفيد من العلوم الإنسانية في شتى منهجياتها انطلاقا من رؤية معرفية نقدية مستوعبة..
وعن تقييمه للحصيلة العلمية للفقه السياسي الإسلامي المعاصر اعتبر أن هذا الفقه لم يرق بعد، رغم كل الجهود، إلى ما ينتظر منه كما وكيفا؛ خاصة على ضوء ما يوجد في حوزته من كسب إنساني غني فيما يتصل بالعلوم السياسية المعاصرة بمختلف نظرياتها ومنهجياتها ونظمها وتطبيقاتها، مبرزا أن الفقه السياسي الإسلامي كان ولا زال يمثل أضعف حلقات الفقه الإسلامي بوجه عام، وأن الأمر بات يستدعي بدل أقصى الجهد لاستئناف النظر التجديدي فيه..كما دعا إلى إعادة الاعتبار لدور الأمة ومكانتها في هذا الفقه بما يتناسب مع فعاليتها السياسية والتاريخية..

حاوره: عبد السلام طويل
———————————

ـ أود أن أفتتح حواري معكم بتساؤل إشكالي أحرص على طرحه ومعاودة طرحه كلما سنحت لي الفرصة لمحاورة مفكر من حجمكم، وهو حرص يستمد مشروعيته من حقيقة أن المجتمعات العربية الإسلامية لم تستطع، رغم كل الجهود التي بدلت، أن تتجاوز واقع التأخر التاريخي منذ أن جعلتها صدمة الحداثة والاستعمار تستفيق على تلكم الهوة السحيقة التي باتت تفصلها عن المجتمعات الغربية المتقدمة. وتساؤلي هو: رغم موضوعية المؤشرات الدالة على الأزمة الحضارية الشاملة والمركبة التي باتت تعاني منها الأمة العربية الإسلامية بوجه عام، إلا أننا نلحظ اختلافا وتباينا صارخا في تشخيص هذه الأزمة وفي بلورة المشاريع الإصلاحية الكفيلة بتجاوزها، وهو تباين يصل إلى درجة التناقض والتنافر. كيف تفسرون هذا الوضع؟

قد يكون لكل هذا التباين في تشخيص وتحديد الأسباب التي تكون وراء هذه الأزمة الحضارية ما يبرره، غير أنني أود أن أركز على سبب آخر أراه هو السبب الأكبر والأكثر جِذرية فيما آل إليه هذا الأمر، أمر الأمة، ذلك أن هذه الأمة تعد بالأساس أمة إسلامية؛ ولذلك فقد انطبعت حياتها كلها بالطابع الإسلامي وامتزج تاريخها بالمعنى الإسلامي الشامل شمول الدين الإسلامي نفسه.
ولذلك أعتقد أن الكيفية التي أصبحت الأمة تتمثل بها معنى الإسلام وبوجه خاص معنى العقيدة هو السبب الأول فيما آلت له أوضاع الأمة من ارتكاس ونكوص.. ذلك أن العقيدة الإسلامية هي الأساس الذي يندمك عليه الدين كله، وهي المرجع الذي يوجه كل الأحكام؛ ما كان منصوصا عليه وما كان اجتهاديا..
لو سألت مسلما: ما معنى العقيدة؟ وما معنى الإيمان؟ لقال لك: إنه الإيمان بالإله الواحد، الإيمان بالنبوة، الإيمان بالبعث… ولكن الإيمان والعقيدة ليس هذا فقط، بل هذا وغيره.. إنها أس الدين وقوامه، وهي الموجه الأكبر للحياة في أبعادها الفردية والجماعية..
غير أن النشأة الدفاعية لـ”علم العقيدة” بغرض إثبات العقائد الدينية بإيراد الحجج ودفع الشبه جعلته لا يعنى إلا بالقضايا التي تستوجب الدفاع عنها إثباتا لها ودفعا للشبه الموجهة إليها، وبالتالي فاندراج مسائل هذا العلم إنما تمت بناء على هذا المعطى التاريخي؛ بحيث أن القضايا والمسائل التي لم تدع الحاجة إلى الدفاع عنها لم تدرج بصفة أساسية في علم العقيدة، وإن تم بعض ذلك فبشكل عرضي..
وبمرور الوقت ساد الاعتقاد الخاطئ أن مدلول العقيدة الإسلامية يقتصر على المسائل التي شملها في بادئ الأمر علم العقيدة وانغلق عليها بفعل توقفه عن التطور لآماد بعيدة.. أما ما دون ذلك من قضايا الدين فقد جرت نسبتها للمسائل الشرعية لا العقدية..
والحقيقة أن مفهوم العقيدة يتسع لمسائل أخرى ذات معاني عقدية لا غبار عليها، يدخل التصديق بها إلى دائرة الإيمان، ويخرج التكذيب بها إلى دائرة الكفر؛ من قبيل قيمة الإنسان التي تتأسس على التكريم، وغاية حياته المتمثلة في خلافة الأرض وتعميرها، وكذا حقوقه في العدل والمساواة، وصلة الإنسان بالكون ومكانته فيه، والعدالة الاجتماعية، والتكافل الاجتماعي؛ بحيث لا يخلو باب من أبواب الأحكام الشرعية إلا ويرتكز على مبحث تأصيلي من مباحث العقيدة..
أكثر من ذلك، فإن الأعمال العامة التي تضطلع بها الأمة يتعين أن تصدر عن مبادئ العقيدة، وأن تيمم بوجهتها بعد أن يكون الفكر الذي أطر تلك الأعمال قد صدر عن تلك المبادئ وتوجه بوجهتها..بحيث تجري مختلف الأعمال على مقتضى مقاصد الشريعة. فيكون، بذلك، جريان الأعمال على تحقيق مقاصد الشريعة تعبيرا عن العلاقة الوثيقة بين علم العقيدة وعلم الفقه..” وهكذا يكون المقصد وهو معنى عقدي، كما ذكرنا، المؤثر الدائم الذي تتجه باتجاهه الأعمال، وتتكيف بحسبه كل مناشط المجتمع المسلم، ولا شك أن هذا ضرب من الترشيد بالغ الدقة، ولكن لا مناص اليوم من أن يأخذ طريقه كعنصر في الإصلاح يدفع إلى النهضة..
إن ما يعزب على وعي الكثير من المسلمين أن العقيدة تستوعب، كما سلفت الإشارة، قضايا العلم وطلبه، والعمارة والتعمير في الأرض، والتضامن والتكافل الاجتماعي، وكل ما يكفل حرية الإنسان وكرامته.. ولذلك فحينما يسعون في الأرض عادة ما يستهينون بهذه الأمور ولا يستشعرون أنها من صلب عقيدتهم وإيمانهم.. وهو ما جعل هذه الأمور الجوهرية التي بفضلها تتقدم الأمة في المضمار الحضاري لا تحتل في الوعي العقائدي للمسلمين المكانة التي تستحقها، والتي أعطاها الدين الإسلامي لها؛ فكان هذا أحد العوامل الكبرى في تخلف المسلمين..

ـ ألا ترون بأن تمثل المجتمع المسلم للتصور الذي طرحتموه لمفهوم العقيدة والإيمان والإسلام، لا يمكن أن يتحقق أو يتحصّل إلا من خلال أدوات ومؤسسات التنشئة الاجتماعية؛ في المدرسة، والجامعة، والمعاهد، والجمعيات الثقافية، ووسائل الإعلام، وقبل ذلك في كنف الأسر والتجمعات الأهلية.. وهنا يبرز، بوجه خاص، دور العلماء، ودور العلوم الإسلامية والفكر الإسلامي في استيعاب هذه الحقيقة وتوصيلها بالطرق البيداغوجية المختلفة لشتى الشرائح الاجتماعية؟

طبعا، هذا دور المربين بمعنى التربية والتعليم للناشئة، وبمعنى التربية الدعوية، وهذا دور العلماء والمفكرين الإسلاميين، في أن يصححوا هذه المفاهيم، ويبدؤوا هذا بالتنشئة منذ الصغر في المدارس والمساجد حتى تترسخ هذه المفاهيم، ويتمثل المسلمون الدين على النحو الأمثل الذي ارتضاه الله لهم.. من منطلق أن بناء الحضارة يعد من صميم الاعتقاد؛ لأن الحضارة ليست شيئا آخر غير الخلافة في الأرض، ومن أجلها خلق الإنسان “إذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الاَرض خليفة”؛ وأي إخلال منه بهذه المهمة، يسفر عن إخلال بمبادئ العقيدة، ولذلك يتعين أن يُربى المسلم على هذا المعنى الحضاري للإيمان؛ بحيث لا يختزل في الإيمان بالغيبيات رغم أهميته التأسيسية والعقائدية الكبرى، بل يتوجب أن تلتحم الدلالة الحضارية للإيمان مع أبعاده التعبدية من صلاة وصوم وزكاة وحج.. فهذا لابد أن ينشأ عليه المسلم ليصبح متحملا لهذا الدين على الطريقة الصحيحة، فيتحرك به في الواقع لينجز.

ـ ألا يمكن أن نعتبر أن أحد تجليات أو أحد أسباب هذه الأزمة: أي أزمة التمثل الحضاري للإيمان بهذا المعنى يكمن في أزمة العلوم الإسلامية نفسها، على مستوى المنهج: أي على مستوى طرائق ومنهجيات البحث، وكذا على مستوى الرؤية؟

نعم، هذه المفاهيم إنما تحصل للناس من خلال ما يتعلمون، وحينما نرى ونبحث أين يتعلمون، فإننا لا نجد أن هذا المفهوم حاضرا في هذه العلوم بالكيفية التي يجب أن تكون.. لماذا؟ لأن القدامى الذين أنتجوا هذا التراث وهذه العلوم في أول الأمر، كانوا يتشربون هذا المعنى في أصل ثقافتهم، بشكل لا يحتاجون معه إلى مزيد بيان وإلى مزيد توضيح؛ لأنهم يتشرّبون هذا المعنى سليقة وبشكل تلقائي..
فلما تراخى الزمن وجاء بعد ذلك عهد الانحطاط، وما ارتبط به من قطيعة بين المسلمين وبين الحياة، وبين الإسلام وبين الحياة، أخذنا العلوم كما تبلورت في ذلك العهد، ولم نطورها إلا قليلا. فلو عدنا إلى علم العقيدة فلن نجد في أي من كتب العقيدة أي اهتمام يذكر بقضية كرامة الإنسان وحرية الإنسان، والتضامن أو التكافل الاجتماعي، بل ولا نكاد نجد فيها حتى قضية شمولية الدين التي هي مبدأ أساسي من مبادئ العقيدة التي تواجه اليوم تحديا من أكبر التحديات..
لا نجد هذه المفاهيم والأبعاد في كتب العقيدة، لماذا؟ لأسباب يطول شرحها لأن كتب العقيدة تمثل علم العقيدة وعلم العقيدة لم يتناول إلا القضايا والمسائل التي كانت موضوع تحد، ووقع الهجوم عليها والتشكيك فيها من قبل الغير، وأما ما لم يقع تحديه والهجوم عليه، فلم يدرج ضمن هذا العلم، وتُرك لأنه مفهوم بالسليقة.. فلأن قضية شمولية الدين لم تطرح في القديم، فقد افتقدناها في علم العقيدة رغم أنها مطروحة بشدة من الناحية الموضوعية والتصورية. ولذلك فقد بات لزاما أن ندخلها في علم العقيدة..

ـ تنحو أطروحتكم الأساسية في كتابكم الأخير حول المقاصد والذي وسمتموه بـ”مقاصد الشريعة بأبعاد جديدة” منحى تجاوز المقاربة التصنيفية القديمة التي كانت مستجيبة لشروطها التاريخية والاجتماعية ولمستوى التطور الذي عرفته المجتمعات الإسلامية، هل لنا أن نقف على المعالم الأساسية لهذه الأطروحة؟ وما حدود تجاوزها للمقاربة المقاصدية الكلاسيكية؟

الكتاب الذي تتحدثون عنه يحاول أن يقدم نظرة تطويرية لما هو موجود، فهو لا يدعي أنه تجاوز ما هو موجود في البحث المقاصدي وأتى بشيء جديد كل الجدة؛ ما دامت هذه الضرورات الخمس التي هي العمود الفقري لعلم مقاصد الشريعة يمكن أن نُفصِّلها وأن نوسعها وأن نشتق منها أو من بعضها العناصر الأساسية، فنجعلها قَسيما بعدما كانت قِسما، وهذا موجود حتى في التصنيف القديم الذي يشمل حفظ النفس وحفظ العقل مع أن حفظ العقل يعد جزءا لا يتجزأ من حفظ النفس. فلما كان العقل جزء من النفس البشرية، وكينونة الإنسان، فلماذا وُضع العقل قسم مستقل في حين أنه قسم من النفس؟ لاشك أن ذلك يعود إلى الأهمية الخاصة التي يحوزها العقل..
وكما هو معلوم فقد داع التقسيم الثلاثي للمقاصد إلى؛ مقاصد ضرورية لا قوام للحياة إلا بها؛ بحيث ما أن تتخلف حتى يعتري الحياة اضطراب كبير، ومقاصد حاجية من شأن مراعاتها أن يرفع عن الحياة شتى مظاهر الحرج والمشقة، ومقاصد تحسينية يترتب على الالتزام بها إضفاء جو من البهجة والهناء على حياة الناس..
غير أن جملة هذه التصنيفات للمقاصد الشرعية، إنما هي تصنيفات إجرائية تسهيلا للدرس وتيسيرا لاستيعاب المعاني المقاصدية، وتطويرا لهذا العلم المنهجي الذي كان جزءاً لا يتجزأ من علم أصول الفقه. إلا أن تطور الحياة الحضارية للأمة في تفاعل مع الحركة العلمية المتنامية جعلته يستقل تدريجياً حتى أمسى اليوم علما قائم الذات.
ولذلك وجب أن يترسخ في الوعي الإسلامي المعاصر أن هذه التصنيفات والتقاسيم لا تعدو أن تكون إلا اصطلاحات؛ رغم أهميتها الإجرائية والمنهجية في الدرس إلا أنها غير ناجزة ولا نهائية ولا هي ملزمة. وهو ما يعطي لكل باحث امتلك العدة العلمية اللازمة الحق في تطوير هذه التصنيفات والتقسيمات بما يستجيب لمقتضيات تطور البحث المقاصدي، وبما يستجيب لتطور الحياة واتساع مجالاتها وتشابك عناصرها وتعقد قضاياها. الأمر الذي يوجب مراجعة التصنيف المأثور للمقاصد على سبيل إعادة ترتيبه أو توسيعه من داخله، أو الإضافة إليه..
فإذا ما أعدنا النظر في التصنيف الأشهر للمقاصد؛ وهو التصنيف القائم على معيار مدى رجحان المصلحة، ودققنا النظر, بوجه خاص، في القسم الأول منه، والمشتمل على المقاصد الضرورية، فإننا سنجد أن ما أدرج ضمن هذا القسم من أنواع المقاصد الضرورية لا يستوعب كل الضرورات التي تتوقف عليها حياة الإنسان المعاصر وتستقر..
فلو تأملنا في طبيعة الحياة الإنسانية المعاصرة ومبلغ ما تعرفه من تعقيد لتبيّن أن الكليات الخمس الأساسية ليست هي الضرورات التي جاءت الشريعة تقصد إليها على سبيل الحصر، وأن سنّة التطور تقتضي إضافة ضرورات أخرى في نفس قوتها وإن لم تكن مندرجة ضمن تصنيف المقاصد المأثور..
ومن هذه المقاصد؛ مقصد حفظ إنسانية الإنسان، ذلك أن حفظ النفس كما تبلور في المدونة المقاصدية يظل عاجزا على استيعاب المعاني التي يتضمّنها حفظ إنسانية الإنسان؛ ومقصد حفظ المجتمع، فإذا كانت الشريعة قد جاءت تشرّع للمجتمع تشريعا يعمل على الحفاظ على سلامته وحيويته وقدرته على أن يمدّ الإنسان بأسباب العطاء والتعمير، فإن المجتمع يعدّ اليوم أشدّ ما يكون حاجة إلى هذا التشريع بالنظر إلى تعقّد مهامه وتوسّعها من جهة، وتعاظم الأخطار التي تحذق به من جهة ثانية؛ ومقصد حفظ البيئة حيث ترتب عن التطورات الحضارية الهائلة أزمة في غاية الخطورة أمست تهدّد مصير البشرية بأكملها بالدمار، يتعلق الأمر بالأزمة البيئية وهو ما بات يفرض على المبحث المقاصدي أن يتسع ليشمل حفظ البيئة. فمع أن الكثير من الأدلة الشرعية تثبت ضرورة هذا المقصد إلا أنه، مع ذلك، غير منضو تحت أي من الكليات الخمس.
فإذا ما بحثنا عن مقصد حفظ المجتمع ككلية ضمن المقاصد المأثورة، فإننا بالقطع لا نجده. لاشك أن حفظ النسل يشير إلى بعد من أبعاد حفظ المجتمع، لكن بما أن المجتمع اليوم يتعرض لتحديات كبرى على المستوى العالمي وحتى على المستوى الإسلامي، ومن ذلك أن الأسرة باتت مهددة بالانقراض في عالم الغرب، ونلمح البدايات لهذا في عالم المسلمين، علما أن الأسرة هي اللبنة الأساسية من لبنات المجتمع، فلماذا لا نجعل حفظ المجتمع كلية قائمة بذاتها؟
ثم حينما نقول حفظ النفس، فإن أكثر الأمثلة التي كانت تضرب تقليدا لذلك، هي حفظ النفس من القتل، ومن الجراح، وهو ما لا يستوعب الكينونة الإنسانية بما فيها من مادة وروح. بما يجعلنا أمام ضربين من الحفظ: حفظ مادي وحفظ روحي؛ فالحفظ المادي هو حفظ للكيان المادي من القتل والجراح والاعتداء من خلال الأخذ بأسباب البقاء والقوة ودفع العوادي. والحفظ المعنوي، حفظ كرامة الإنسان، حفظ حرية الإنسان، حفظ الفكر الإنساني الحر وما إلى ذلك من هذه المعاني وذلك بالتزكية وبالأمن النفسي.
ولمّا كان القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف يتضمنان نصوصا ثرية تدعو الناس إلى حفظ البيئة بأشكال مختلف، وسياقات متعددة، فلماذا لا نجعل من الكليات والمقاصد حفظ البيئة؟ ولهذا أدرجت حفظ البيئة ضمن هذه الكليات فجعلتها سبعة، وربما غيري يجعلها أكثر..

ـ بماذا نفسر كون العقل الإسلامي، في الغرب الإسلامي كان أكثر اهتماما بنظرية المقاصد من الشرق الإسلامي أكثر إبداعا فيها؟

أظن أن مدرسة الشاطبي كان لها التأثير الأكبر في هذا الأمر؛ فالشاطبي مغاربيٌ، طُبع كتابه أول ما طُبع في تونس منذ أكثر من قرن، مما عزّز الاهتمام بمبحث المقاصد بشكل لافت في المغرب.. وحتى القواعد الفقهية التي هي أخت المقاصد كان الاهتمام بها كبيرا..
إن عقلية المغرب الكبير الحديثة عقلية متأثرة بالثقافة الفرنسية، والثقافة الفرنسية متميزة منهجيا بنزعتها العقلانية: ربما يكون لهذا بعض الدور في تعزيز النزعة المنهجية المقاصدية للعقل المغاربي..

ـ في نفس السياق، كيف تقيِّمون إسهام علال الفاسي بشكل محدد في بلورة النظرية المقاصدية المعاصرة؟

علال الفاسي كتب كتابه “مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها”، هو كتاب جيّد فيه قواعد، وفيه ضبط لبعض المفاهيم، وفيه بعض الأفكار الجديدة أيضا؛ إلا أنني ألفيته يعتمد أحيانا على ابن عاشور دون أن يذكره أو يذكر أنه اعتمد عليه أو رجع إليه.. فمشاركته في المقاصد تعدّ، بالنسبة لزمنه وبالنسبة لظرفه، مشاركة مهمة.

ـ ألا ترون أن التجديد في المقاصد باعتبارها -كما ألمحتم- أكثر العلوم الإسلامية صلة بمسألة المنهج، يجعل من التجديد في نظرية المعرفة وكذا التجديد في سائر الأطر والمؤسسات الاجتماعية يبدأ من المنهجية المقاصدية.. حبذا لو أعطيتمونا بعض المحدّدات والمنطلقات التي من شأنها أن تُسعفنا في تجديد العلوم الإسلامية حتى تكون مواكبة لمشروع التغيير الحضاري كما نتغيّاه؟

ما دامت العلوم الإسلامية يُنتجها الفكر الإسلامي، فإن الفكر الإسلامي هو الذي ينبغي أن يتجدّد، وأقصد بالفكر هنا كيفية التفكير: أي منهجية العقل في التفكير التي تثمر العلوم، ولهذا ينبغي تجديدها هي قبل كل شيء، أي أن تجدد العلوم.
ونحن نلاحظ أننا في مشاريعنا التربوية لا نهتم كثيرا، مع الأسف، بتربية الفكر، ربما نهتم بالتربية الأخلاقية، وربما نهتم بالتربية التعليمية لكن لا نهتم كثيرا بتربية الناشئة على التفكير الصحيح، في كيف يفكرون تفكيرا صحيحا ليصلوا إلى الحقيقة. والتفكير الصحيح وردت فيه، كما هو معلوم، قواعد وتوجيهات كثيرة في القرآن الكريم، وتراثنا الإسلامي مبني على هذا، ومن أهم هذه المواصفات والخصائص التي تجعل من الفكر فكرا منتجا هي أن يكون هذا الفكر فكرا واقعيا، بمعنى أنه حين يبحث المشاكل والقضايا ينطلق فيها من الواقع ليدرس هذا الواقع، ويحلّل محدّدات هذا الواقع، وما يمليه، فمنهج القرآن واضح جدّا في هذا الأمر، حيث لا يني يوجهنا إلى أن ننطلق في سبيل المعرفة من واقع الكون وآياته، ومن واقع الإنسان “وفي أنفسكم أفلا تبصرون” “قل سيروا في الاَرض فانظروا كيف بدأ الخلق”..
هناك من ينطلق من المثال؛ يبلور صورة مثالية عن لإسلام ويمعن في إسقاطها على الناس دون معرفة لخصائصهم وطبائعهم ولا لقضاياهم، فيقع بذلك في المثالية وقد تؤدي به هذه المثالية إلى التطرّف؛ ومن هذه الصفات الفكرية:
صفة الشمولية، وتقتضي أن ينظر هذا الفكر نظرة شاملة إلى موضوع بحثه، لا ينطلق من جزئية ويصدر منها حكما، وإنما ينظر نظرة شاملة مستوعبة للمادة بأكملها. والذي يريد أن يحصل حقيقة من حقائق القرآن لا يكتفي بآية، قد تكون منسوخة أو مقيدة إلى غير ذلك، إنما يقرأ القرآن كله والحديث لينتهي بنظرة شمولية إلى الحقيقة. ومنها خاصية المقارنة والنقد.
إنك حينما تنظر أو تبحث، تبحث من خلال المتقابلات والمختلفات وربما حتى المتناقضات، أن تُحضرها جميعا أمام بحثك وتقابل بعضها ببعض، وتنقض بعضها ببعض ليتبين لك الحق من بينها؛ أما لو اقتصرت على المذهب الواحد أو الخط الواحد، فإنك قد تغفل عن الحقيقة ولا تصل إليها. ولهذا فإنّ الفقهاء العظام حينما يجتهدون فإنّ من قواعد اجتهادهم أنهم يطلبون المُعارض، استحضارا للرأي الآخر، هذه قاعدة عند الفقهاء تسعفهم، لتأسيس رأيهم وترسيخه. وإذا وجدت حكما تأخذه من دليل نصي، مثلا، فلا تكتفي به، وإنما تبحث في نصوص القرآن والحديث عما يمكن أن يكون معارضا لذلك الحكم الذي استنتجته تحريا للحق والحقيقة..
وهذا ما أشار إليه ابن عاشور في كتابه المقاصد بدقة معتبرا أنّ النقض والمقارنة من أهم صفات الفكر؛ والقرآن الكريم كثيرا ما نراه يورد حقائق الإسلام، ولكنه يورد، أيضا، آراء ومعتقدات المذاهب والأديان الأخرى.

ـ ألا ترى أن هناك تبرما من هذا المنحى؟

نعم، هناك تبرم، هناك الأَحادية، هناك الخَطيّة، وهذه تحدث مشاكل كبيرة جدا؛ لأنني حينما لا أطلب المُعارض والمخالف، فإنني ألغيه وأزعم أنني أنا الحق ورأيي هو الحق الذي لا يأتيه الباطل، وهذا ليس بطريق مؤدي إلى الحقيقة. هذه الخصال الفكرية ينبغي أن نربي عليها الناس، فإنها تؤدي إلى أن ننتج العلوم ونضيف إليها وننتج إنتاجا صحيحا.
أنظر إلى كبار العلماء، لا نجد من كبار العلماء إلا من هو متصف في فكره بهذا النوع من الانفتاح على المعرفة في شتى مظانها واتجاهاتها. أنظر إلى محمد الطاهر بن عاشور، هذا الرجل مُفسّر ومُحدّث وأصولي، ولكنه قرأ الفلسفة كلها ولهذا كثيرا ما يستشهد بأقوال الشيخ الرئيس “ابن سينا” الفيلسوف وقرأَ المنطق مما جعل عقليته واسعة ونقدية ومقارنة، هذه العقول هي التي تنتج العلوم؛ والرازي وابن تيمية, وابن خلدون, وابن رشد كذلك في القديم..

ـ  هناك أطروحة، هناك دعوة إلى تأسيس سوسيولوجيا إسلامية بالمعنى الشامل تحاول أن تستوعب جميع العلوم الإسلامية والإنسانية في إطار منحى سوسيولوجي يستوعب الأصول التاريخية لتأزم المجتمعات العربية المعاصرة، ويعود بهذا التأزم إلى العهد المملوكي والقطيعة التي أحدثها استجلاب المماليك وبعد ذلك الأتراك في مسار الأمة الحضاري بفعل النمط الرعوي الذي كرّس البنية القبائلية والعشائرية التي جاء الإسلام أصلا ليتجاوزها وإن لم يتمكن من القضاء عليها.. كيف تقيّمون هذه الدعوة؟

القضية ليست قضية العثمانيين أو غيرهم ممن جاءوا من المجتمع الرعوي وكانوا سببا في تخلف العلوم، هذه مقولات نسمعها ولكن قد لا نوافق عليها بأكملها؛ لأن الحضارة بدأت في انحدار، لأن مسار التاريخ كان كذلك، والعثمانيون جاءوا ضمن هذا السياق وغيرهم أيضا.

ـ أصحاب هذه الأطروحة يعودون إلى ما قبل ذلك، إلى عهد استجلاب المماليك مع العهد العباسي مع المأمون أو مع المعتصم؟

التراث العربي والعلوم الإسلامية خدمها العنصر غير العربي أكثر مما خدمها العرب.

ـ ما موقفكم من دعوة أسلمة المعرفة؟

أوافق كثيرا على هذه المقولة، بحيث ما أن حدث الانحدار العلمي والثقافي وجاء المد الغربي، حتى بدأت العلوم تنفصل عن مصادرها عند المسلمين أنفسهم، وبدءوا يأخذون معارفهم من غير أصولها ومازال الأمر كذلك. ولهذا توالت الدعوات التأصيلية ولعل من أبرزها تجربة أو دعوة المعهد العالمي للفكر الإسلامي لما عُرف بأسلمة المعارف أو أسلمة المعرفة؛ لدينا تجربة تاريخية مهمة في هذا الموضوع؛ إذ لمّا بدأت العلوم الإسلامية تأخذ مجراها وتأخذ حيّزها، التجأ المسلمون إلى علوم الأوائل وأخذوا يدرسونها واستوعبوها في دائرة الثقافة الإسلامية بما يتناسب مع العقيدة الإسلامية..
الآن، لابد أن نفكر في هذا الأمر، وأن نؤمن بأن العلوم الإسلامية، على وجه الخصوص، يتعيّن أن تنطلق من أصولنا الدينية العقائدية سواء تعلق الأمر بعلم الاجتماع أو علم النفس أو علم الاقتصاد، وأن تنفتح وتستفيد من العلوم الإنسانية كافة..

ـ لكن ألا يتناقض هذا مع كونية وشمولية المعرفة العلمية، من منطلق أنّ الحقائق العلمية حقائق مجردة وعامة وإلا تعدّد العلم الواحد بتعدد الفلسفات والإيديولوجيات والديانات، فأصبح لدينا على سبيل المثال علم اقتصاد إسلامي وعلم اقتصاد مسيحي وعلم اقتصاد يهودي وعلم اقتصاد ماركسي وعلم اقتصاد رأسمالي؟

لا، الحقيقة العلمية المجردة والعامة هي الرياضية. أما العلوم الإنسانية فليس فيها شيء مجرد، كلها مبنية على معطيات ثقافية إما قليلا أو كثيرا. أنظر إلى علم الاقتصاد، على سبيل المثال، ستجده كذلك، ونحن عندنا فرصة اليوم لو صح منّا العزم لهذا الأمر، أنظر إلى علم الاقتصاد كيف بدأ الناس بعد هذه الأزمة المالية التي حلت بالعالم؛ ينظرون إلى الأصول الإسلامية في الاقتصاد ويبحثون عن هذا الأمر ويدعون إلى مراجعة الكثير من القضايا، حيث يمكن إقامة اقتصاد على مبادئ إسلامية، هذا الأمر كان يُسخر منه منذ ثلاثين عاما الماضية، كان العلمانيون يقولون مثل هذا الكلام ويسخرون من هذا الطرح..
الآن، كبار الاقتصاديين في العالم يبحثون في الإمكانيات النظرية والعملية والقيمية التي يمكن للإسلام أن يسعف بها الإنسانية للخروج من أزمة نظامها الاقتصادي الرأسمالي السائد؛ هذا الأمر يمكن أن يكون في علم الاجتماع، ويمكن أن يكون في علوم إنسانية أخرى، بحيث يكون هناك إسهام إسلامي علمي ينطلق فيه الفكر من بناء علوم اجتماعية بالمعنى العام من منطلق إسلامي مع الاستفادة من الكسب الإنساني الواسع والكبير في هذه العلوم.

ـ هذا العزم الذي تحدثتم عنه في ظل التحولات الكونية في إطار ما بات يسمى بالعولمة يقتضي توفر فضاء جيوسياسي أوسع؟

رغم كل التحديات التي تفرضها التحولات الكونية كما يكثفها مفهوم العولمة إلا أنها تُقدّم بالمقابل فرصا حقيقية لتقليص الفجوة بين الشعوب على صعيد الإنتاجية والفاعلية الحضارية والتواصل.. ومن ذلك أنّ تعامل المسلمين في مختلف الأقطار بات اليوم أمراً ميسوراً خلافا لأي وقت مضى، ولهذا يمكن التعاون ويمكن بناء توجه معرفي إسلامي بين مختلف علماء المسلمين في أقاصي الأرض، وهذا أمر أظن أنه ممكن بسهولة أكبر، فهو لا يطرح أية مشكلة ذات بال.

ـ أنا لا أقصد العلم الشرعي على وجه التحدّيد ولكن العلم كمنتج للحضارة، في علاقته بالتكنولوجيا وعلاقته بالاقتصاد. فالعلم بهذا المعنى يحتاج إلى الوقوف على قاعدة من التكتل الاقتصادي والمالي، تجعل من الرهانات العلمية أمراً قابلاً للتحقّق؟

حتى هذا الأمر يمكن تداركه بالنظر إلى ما نمتلكه من إمكانيات مادية وبشرية هائلة لو توفّر لدينا العزم والوعي، وعلى أرضية هذه البنية الاقتصادية والحضارية الموجودة يمكن أن نؤسّس نهضة علمية حقيقية؛ لأن مثل هذه المشاريع لا تتم في عام أو عامين أو عشرة أعوام، لأنها تتطور تتراكم شيئا فشيئا. المسألة هي مسألة وعي قبل كل شيء.

ـ يشهد الفكر العربي والإسلامي، نقاشاً حول طبيعة العلاقة التي ينبغي أن تكون بين مشروع التجديد أو (الحداثة) والتراث، على مستوى المنهج وعلى مستوى الموقف من هذا التراث، وأنتم تعلمون تضارب المواقف من هذا الموضوع. كيف تتصورون الصيغة المنهجية والمعرفية والإستراتيجية لتأسيس مشروع تجديد حضاري أو حداثي عربي إسلامي في علاقته بالتراث؟

المسألة ليست صعبة بما يتصور، فنحن عندنا تراث ننطلق منه، ندرسه، ونتبيّن ما فيه من قوة، نتبيّن ما فيه من ضعف؛ ما فيه من ضعف نتركه للتاريخ، تاريخ الفكر، وما فيه من قوة نضع أرجلنا عليه وننطلق منه ونضيف إليه المفاهيم الحداثية، ونضيف إليه القيم الحداثية (إذا صحّ التعبير) التي نجدها تتلاءم مع أصولنا الدينية الكبرى وهكذا يكون الأمر بناء تراكميا، طبقة وراء طبقة، لا تناقض بين هذا وذاك.
لا يمكن أن ندعي أننا لو قصدنا التراث وإن انطوينا عليه وانغلقنا عليه، فإننا سننهض، ولا يمكن أن نتصور في مقابل ذلك أننا إذا ما ألغينا التراث، فإننا سننهض، إننا سننهض حينما ننطلق من التراث بنظر نقدي أصيل ثم نبني عليه حيث تكون هناك استمرارية. نحن عندنا ميراث حضاري عظيم وإن كان هذا الميراث الحضاري لا يعمل كما ينبغي في الواقع التاريخي للمسلمين، فإنه موجود في النفوس كمخزون، وحينما ننطلق منه ونضيف إليه نستطيع أن ننهض نهضة حضارية شاملة.
فالقضية، إذن، هي قضية أن ننطلق من التراث لنضيف إليه من الكسب الإنساني ما يستفيد منه هذا التراث، ويتقوّى وينمو..
وكما قلت منذ حين، فهناك تجربة تاريخية عظيمة نمتلكها؛ لأن المسلمين انطلقوا من تراثهم، انطلقوا من أصولهم وأخذوا (القيم الحداثية) في العلوم الطبيعية وفي العلوم الهندسية… وراكموا عليها واستوعبوها وأصبحت علوما إسلامية. نحن، نقوم ويجب أن نقوم بعمل مشابه لذلك.

ـ سننتقل الآن لو سمحتم لي إلى دائرة أخرى من دوائر النقاش، رغم أن لها صلة عضوية كذلك بالمحور الأول وهو مجموع الاجتهادات التي راكمها الفكر الإسلامي المعاصر في إطار ما يسمى بـ “الفقه السياسي الإسلامي المعاصر”؛ حول الدولة والديمقراطية وحقوق الإنسان.. ما تقيّيمكم لهذه الاجتهادات؟

أنا أظن أن الفقه السياسي الإسلامي، هو أضعف حلقات الفقه الإسلامي لأسباب كثيرة (المقام لا يسمح بشرحها)، لكننا نجد الفقه السياسي على أهميته لا تتجاوز المؤلفات فيه بضع عشرات إذا أكثرنا العدد؛ بينما نجد في الفقه الآخر آلاف وآلاف المصنّفات.
هذه أحد الأسباب التي جعلتنا اليوم في فقهنا السياسي ننتج فقها -أيضا- أقل من الواجب علينا كمسلمين:
أن نبني فقها سياسيا جديدا نستفيد من الفقه السياسي الماضي لكن نطوره بتطويرات نوعية ويغذيه بمفاهيم جديدة؛ لأن العلم بالسياسة في العالم المعاصر أصبح علما واسعا وثريا جدا، وفيه أشياء كثيرة مهمة جدا لا تتناقض ولا تتعارض مع القيم الإسلامية؛ فحريٌّ بنا أن نعود إلى أصولنا في القرآن والسنة وسيرة الخلفاء الراشدين، وأن نعود إلى الكسب الإنساني في عالم السياسة المعاصر، وأن نطور الفقه السياسي تطويرا جذريا. هناك مفاهيم أساسية مازلنا نكررها اليوم كما قيلت في الفقه التراثي السياسي ولم يعد الكلام لائقا فيها.
وأحبّ أن أركّز على مسألة أساسية تتصل بمركزية الأمة في القرار السياسي؛ حيث لم تأخذ حقها في الفقه السياسي الشرعي، وإنما هُمشت في الفقه السياسي، بينما في القرآن الكريم وفي الخلافة الراشدة لم يكن الأمر كذلك، كان للأمة الدور الأبرز في رسم معالم التاريخ الإسلامي..
وأظن أن عدم تطوير هذا الفقه يُحدث لنا مشاكل كبيرة اليوم في نطاق الحركات الإسلامية، في نطاق الحركات التي أصبحت تمارس السياسة وربما أصبحت بيدها السلطة وتقع في مشاكل كثيرة لقلة زادها من هذا الفقه السياسي غير المتطور، هناك لا محالة نظرات جديدة في تطوير هذا العلم، لكنني أراها مازالت محتشمة ولم تبلغ في الجرأة وفي الجذرية ما ينبغي أن يكون كما قلت في أول الكلام انطلاقا من الأصول: القرآن، السنة، الخلافة الراشدة، واقتباسا من علم السياسة والكسب الإنساني الراهن..

ـ في سياق إشارتكم إلى أهمية الأمة والجماعة، ومن خلال قراءة الأدبيات المعاصرة التي تناولت التجربة السياسية العربية الإسلامية، نجد أطروحتين أساسيتين، كلتا الأطروحتين تتميزان بقدر غير يسير من الصِدقية ومن الحجيّة:
الطرح الأول: يؤكد بأن الأولية كانت للأمة وللجماعة ولم تكن للدولة أو للسلطنة بدليل أن هناك فترات تاريخية انهارت فيها الدولة في عهد ابن تيمية، مثلا، ولكن استمرت الحركة الحضارية بناء على حركية المجتمع الأهلي في علاقة بمؤسسات الوقف والعلماء وغيرها..
الطرح الثاني: ينفي ذلك ويقول بأن المجتمع الأهلي كان مندغما في الدولة/السلطة، الحديث عن سلطة الأمة كان حديثا افتراضيا بدليل أن فكرة الطاعة وفكرة الولاء كانت تغلب على فكرة الحرية والعدل، وهو ما كرّسته أدبيات الأحكام السلطانية. كيف ترجحون بين هذين الطرحين؟

رأيي أن فقه السياسة الشرعية قلّص من مهام ودور الأمة في الجانب السياسي؛ فكُتب السياسة الشرعية، كلها، تنحو هذا النحو. غير أن الواقع الذي جرى عليه التاريخ لم يكن كذلك؛ لأن الواقع واقع الأمة لم يتأثر كثيرا بفقه السياسة الشرعية؛ لأن هذه الأمة كانت تدير أمورها بنفسها في أكثر القضايا: الاقتصاد والتربية وحتى الصحة ومثل هذه الأشياء، كانت تديرها الأمة من خلال مؤسساتها، مؤسسة الأوقاف، مؤسسة العلماء… الخ.
والسلطان إنما كان يدير مجال صغير، أي مجال الأمن الداخلي ومجال الدفاع الخارجي.
فإذن، نحن نريد أن نطور فقه السياسة الشرعية، في اتجاه أن نُرجع للأمة صلاحياتها التي أخذت منها في الفقه السياسي الشرعي، ونعيد إلى الأمة هذه الصلاحيات لتدبر شؤونها بنفسها؛ وكما قلت: الحضارة الإسلامية بَنت الأمة ولم تتأثر كثيراً بعهد الانقلابات، وعهد الاضطرابات السياسية بدليل أنها  كانت تأخذ أمرها بيدها في البناء الحضاري.
نحن الآن نريد فقها سياسيا يعطي للأمة الصلاحيات التي أعطاها لها الدين، أصلا، وأن يوضع السلطان في موقعه المناسب، والسلطان ليس إلا وكيلا عن الأمة أو نائبا عنها لا أكثر ولا أقل. هذا هو الذي كان وينبغي أن يؤول إليه الأمر وهذا ما ينبغي أن ينعكس في علم السياسة الشرعية.

ـ لو استحضرنا السياسة بمفهومها الحديث كتدبير للشأن العام، لألفينا أنّ جماعة المسلمين كانت هي التي تدبر، وبهذا المنطق، فإن الأمة كانت تمارس السياسة بالمعنى الحديث فعليا؛ بمعنى أنها كانت هي الكفيلة بتدبير شؤونها العامة. هل نستنتج من هذا أن دائرة السياسة الرسمية كانت ضيّقة لا تكاد تتجاوز القضايا الأمنية والدفاعية، أم أن الأمر خلاف ذلك؟

نعم، إن مفهوم السياسة كان كذلك، لكن اليوم أصبح في السياسة مفهومها أوسع وهو تدبير الشأن العام بأكمله، ولهذا، فإننا يجب أن نتناول المفهوم السياسي، اليوم، ونعيد فيه النظر أصلا، وأن نراجع فيه المفاهيم التي وردت في كتب السياسة الشرعية لا نلغيها وإنما نستفيد منها. ولكن، هناك مفاهيم يجب أن نراجعها بهذه السياسة الشرعية ولم يعد الوقت مناسبا للعودة إليها، لعلني أقول بأن بعضا منها ليس له سند شرعي من الأصول، وإنما هو اضطرارات اضطر إليها ظروف الزمان/ظروف الوقت.

ـ بأي معنى تعتبرون أن ظهور علم الكلام من خلال المعتزلة جاء عبارة عن معالجة تنظيرية عقدية لمشاكل واقعية في السياسة الاجتماعية. في حين أن الاتجاه الغالب يذهب في خلاف هذا المنحى؟

نعلم بأن الدين الإسلامي ليس فيه فصل بين مشاكل اجتماعية ومشاكل سياسية… فكلها قضايا الدين كما قلت منذ حين؛ الدين يشمل كل هذا، بل العقيدة تشمل كل هذا على تفصيل فيها بين كليات وجزئيات.
فحينما نرى ونتتبع قضايا عقائدية مهمة جدا كيف نشأت؛ فإننا نجدها نشأت من مشاكل اجتماعية وسياسية. أول ما تَحدث فيه الناس عن القضاء والقدر، هو مقتل عثمان، رضي الله عنه، فلما سأل الناس قتلة عثمان في المسجد: لماذا فعلتم هذه الفعلة الشنعاء؟ قالوا: إننا قتلناه بقضاء الله وقدره؛ فنشأت من هناك قضية القضاء والقدر.
كما كثر الفسق والمجون وبدأ بعض الشباب الخليع يتذرعون في فسقهم ومجونهم؛ بدعوى أمه قضاء من الله وقدر منه. وتم الرد عليهم بأن الإنسان مخير له إرادة حرة ولذلك فهو مسئول عن أعماله، وهكذا نشأت هذه القضية من واقع الحياة الاجتماعية.
حتى قضية المعتزلة ومبدؤها المعروف المنزلة بين المنزلتين لم تنشأ من حوار أو جدل نظري، وإنما كان منشؤها الخوارج كانوا يقتلون الناس بدعوى أنهم يرتكبون الكبائر، فكانوا يعترضون الناس في الأسواق فيقتلونهم؛ بزعم أنهم كفار خرجوا عن الملة؛ فجاء أناس يسألون الحسن البصري: إننا وجدنا قوما يقتلون مرتكبي الكبيرة باعتباره كافر، فماذا تقول؟ فسكت قليلا ثم أجاب واصل ابن عطاء تلميذ له في الحلقة قال له: إن الذي يرتكب الكبيرة خرج من الإيمان لكنه لم يدخل الكفر، فهو في منزلة بين المنزلتين، فمنشأ هذه القضايا, إذن، منشأ اجتماعي وسياسي؛فهي قضايا غير منفصلة عن الدين.

ـ في نفس الإطار، هناك توجه معاصر إلى علم كلام جديد، هناك بعض الكتابات في هذا الإطار. كيف تقيّمونها؟ هل استوعبت هذا البعد الواقعي في علم الكلام؟

هناك محاولات جيّدة في هذا الموضوع تبيّن وتطرح قضايا العقيدة في منهجها وفي طرق الاستدلال عليها بطريقة جديدة، وهناك بدايات مهمة: وحيد الدين خان في كتابه “الإسلام يتحدى”، ومحمد إقبال في كتابه “تجديد الفكر الديني”..
هناك بدايات مهمة، والآن يتكلم الناس –أيضا- على هذا الموضوع، لكنني لم أر توجها حقيقيا وجذريا وجادا ومهما في هذا السياق..

ـ في ظل الانقسام الطائفي المذهبي وحتى العشائري في بعض الأحيان الذي تعاني منه الأمة. كيف يمكن النجاح في صياغة ما أسميتموه بأيديولوجيا شاملة متأسسة على عقيدة الإسلام وتراثه؟

من خلال الانطلاق من الأساسيات الكبرى التي لسنا مختلفين حولها، هناك قضايا كثيرة يُجمع المسلمون عليها؛ المذاهب كلها على تباينها واختلافها لا تختلف عن وجود الله، وعن صفاته، وعن صدقية النبيّ الكريم، وعن اليوم الآخر. ولا تختلف في العبادات؛ لأنها واجب. ولا تختلف في حرية الإنسان وكرامة الإنسان. ولا تختلف في التكافل الاجتماعي وما إلى ذلك، فننطلق من هذه المشتركات وهي كثيرة، و ما نختلف فيه نتركه..
لكن، حينما تعمد كل فرقة إلى أن تطرح الخِلافيات أو رأيها المخالف على الآخرين وتريد أن تجلب أو تستوعب الآخرين في هذه الأمور التي تختلف فيه، هنا تنشأ الأزمة..

ـ ما تقيّيمكم لدعوات الحوار بين الحضارات والثقافات التي تنامت في العقد الأخير من تاريخ الإنسانية؟

هو حوار متعثر؛ لأننا نجده أحيانا يصطدم من طرف المسيحيين ببعض الأفكار وبعض التهجمات كما هو معلوم، وأحيانا يصطدم ببعض الاستكبار عند أهل الحضارة الغربية. لكن، مع ذلك أنا أقول: أن من أهل الغرب من له قابلية كبرى للانفتاح والحوار. وأعتقد أنّ أحسن منهجية للحوار معهم ليست تلك التي تنطلق من الحوار معهم في معتقداتهم، وإنما الحوار  معهم من أجل التعاون في المشترك من القيم الإنسانية العليا التي تتهددها المادية اليوم كالأزمة البيئية وقضايا الأسرة.. في حين أنّ أي حوار حول المعتقدات لن يُثمر شيئا؛ وأنا لا أقول بأن يلغى هذا الحوار، ولكن أقول بأن تُحدد له مجالاته ومنطلقاته ورجاله.. حتى لا نتوه فيما لا يعني وما لا يفيد.

ـ من خلال احتكاككم المباشر بالنموذج الحضاري الغربي، هناك نزوع إلى التعميم إلى القول بأن هناك عودة إلى الظاهرة الدينية من جديد في المجتمعات الغربية. ما مدى صحة هذا الحكم؟

هي عودة للروحانية أكثر من كونها عودة إلى الدين من حيث هو دين؛ لأن النفس الغربية برَّح بها المد اليوناني والمد المادي القاحل المميت، فجعلها تبحث عن الروحانيات، ولهذا نجد الكثير من أفراد المجتمع الغربي يبحثون عن الروحانيات، فتجدهم يذهبون إلى البوذية، يذهبون إلى الكونفشيوسية.. وبعض منهم يذهب إلى الإسلام، وبعضهم يعود إلى المسيحية. هي ظاهرة موجودة ولكنها ليست بظاهرة كاسحة.

ـ أي أنها لا تشكل مؤشرا على أن الدين قد يعود، ليشكل الإطار المرجعي للتنظيم الاجتماعي في المجتمعات الغربية؟

إلى حد الآن لا يمكننا أن نقول بهذا…

ـ في إطار تصوركم لمشروع المجتمع العربي الإسلامي المتقدّم القادر على استيعاب منجزات العصر، واستيعاب المنظومة القيمية للإسلام في نفس الآن. كيف تتصورون طبيعة العلاقة بين السياسي والديني، الحاكمة والمميّزة للاجتماع السياسي الإسلامي المأمول؟

السياسي والديني والمدني، مصطلحات تربك أحيانا.. أظن أن الإسلام عبارة عن مبادئ وقيم، والإنسان المسلم يغترف من هذه القيم ومن هذه المبادئ ليصنع منها البناء الحضاري، هناك أشياء مفصّلة وهي ليست كثيرة في الدين؛ هذه لا تتغير. وهناك أشياء أعطانا فيها الإسلام قيما عليا ومبادئ في الاقتصاد، في السياسة، في الحضارة؛ فنحن نهتدي من هدي عام كلي، فأظن أننا إذا فعلنا هذا، فسيكون بمثابة البوصلة التي نتوجه على هديها حيثما توجهنا، فيكون المجتمع مسلما؛ يهتدي بهدي الإسلام، في عباداته، ومعاملاته وتوجهاته الحضارية الكبرى..
إذا كان المجتمع مسلما، فسوف لن نجد من تناقض بين دين وسياسة؛ لأن السياسة هي تدبير شؤون الحياة العامة للجماعة بما ينسجم ومرجعية المجتمع وثقافته. والإسلام جاء ليدبر هذه الشؤون إما تدبيرا تفصيليا في بعض القضايا وهي الأقل، وإما تدبيرا كليا عاما وهي الأكثر والأوسع..

ـ كيف تقيّم الوضع اللغوي في العالم العربي، وبوجه خاص موقع اللغة العربية الذي يتهمّش ويتراجع تدريجيا لصالح اللغات الأجنبية؟

هذا وضع خطير، لا يمكن لا علميا ولا دينيا ولا تاريخيا؛ أن يكون لبلد ما تميزا وريادة ونهضة إذا لم يكن المنطلق هو اللغة، لغة القوم، المنطلق هو هذه اللغة ثم تضاف إليها لغات أخرى (لا بأس) على غرار سائر الأمم المتقدّمة..
الآن في فرنسا ممنوع أن تستعمل ألفاظا غير فرنسية في المحافل الرسمية وشبه الرسمية، ممنوع في القانون أصلا، فلابد من أن نقوي أنفسنا في اللغة العربية التي أعتبر أنها المنطلق، وبأن هذه اللغة مخزونة في تراثنا، في نفوسنا، في دمائنا منذ قرون وقرون ثم ننطلق منها إلى غيرها. أما لو تركناها وذهبنا إلى لغات أخرى، فسوف لن نُبدع شيئا، هذه اللغات الأخرى أهلها يُبدعون فيها أكثر منّا بمرات ومرات.
فأنا أرى أن اللغة العربية بالنسبة للبلاد العربية، هي المنطلق الذي يضمن الريادة والابتكار والتقدم.

د. عبد المجيد النجار

ـ من مواليد تونس عام 1945م.
ـ حاصل على الدكتوراه في العقيدة والفلسفة من جامعة الأزهر سنة 1981م.
ـ عضو هيئة التدريس بالجامعة الزيتونية من سنة 1975م كما درّس في العديد من الجامعات العربية والإسلامية.
ـ مدير مركز البحوث بالمعهد الأوروبي للعلوم الإنسانية بباريس.
ـ الأمين العام المساعد للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث.
ـ عضو مؤسس بالاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.
ـ شارك في العديد من المؤتمرات العلمية العالمية.
ـ حاصل على جائزة مكتبة علي بن عبد الله آل ثاني الوقفية العالمية.
ـ نشر العديد من البحوث العلمية في مجلات محكمة.

أهم  مؤلفاته
ـ “خلافة الإنسان بين الوحي والعقل” 2005.
ـ “خلافة الإنسان بين الوحي والعقل: بحث في جدلية النص والعقل والواقع” 2005.
ـ “البعد الحضاري لهجرة الكفاءات” 2002.
ـ “فقه التحضر الإسلامي” 1999.
ـ “عوامل الشهود الحضاري” 1999.
ـ “مشاريع الإشهاد الحضاري” 1999.
ـ “الشهود الحضاري للأمة الإسلامية” 1999.
ـ “الإيمان بالله وأثره في الحياة” 1997.
ـ “المستقبل الثقافي للغرب الإسلامي” 1997.
ـ “دور حرية الرأي في الوحدة الفكرية بين المسلمين” 1995.
ـ “تجربة الإصلاح في حركة المهدي بن تومرت: الحركة الموحدية بالمغرب أوائل القرن السادس الهجري” 1995.
ـ “في فقه التدين: فهما وتنزيلا” 1989.
ـ “تصنيف العلوم في الفكر الإسلامي بين التقليد والتأصيل” 1987.
ـ “المعتزلة بين الفكر والعمل” 1986.
ـ “المهدي بن تومرت: حياته وآراؤه وثورته الفكرية والاجتماعية وأثره بالمغرب” 1982.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق