وحدة الإحياءحوارات

حوار فكري شامل مع الدكتور عباس الجراري حول: قضايا الإصلاح والتجديد والحوار الحضاري

حاوره: د. عبد السلام طويل

في هذا الحوار الفكري الشامل مع عميد الأدب المغربي الدكتور عباس الجراري أوضح فضيلته كيف أن المغاربة قد تبنوا اختيارهم المذهبي المالكي عن اقتناع بعد مخاض تاريخي طويل، محذرا من تعميق الاختلاف بين الهويات داخل القطر الواحد حتى لا تستغله القوى التي تسعى إلى تمزيق مجتمعاتها وتشتيتها وتكريس التفرقة بينها، معتبرا أن من مسؤولية الجميع النهوض باللغة العربية، وحمايتها، وفرض احترامها، وجعلها أداة للتعليم والإدارة والإعلام..
كما نبّه فضيلته إلى أن العولمة قد تجاوزت الأبعاد الاقتصادية والتجارية، وباتت تسعى إلى عولمة الهويات وتنميطها، إلا أنه شدّد على حيوية كسب رهانها بجودة إنتاجية تصمد للمنافسة، وبتكامل اقتصادي إقليمي بين الدول العربية والإسلامية. كما جدّد دعوته إلى بلورة إستراتيجية ثقافية، بل والعمل على “تثوير الثقافة” من خلال تحريك عناصرها القوية ومقوماتها الحية، لتنهض بالدور المنوط بها في التوجيه والتقويم.. وهو ما لن يتسنى إلا بإعادة الاعتبار للبحث العلمي ولمسألة المنهج سعيا لتسليح الطلاب والباحثين بأساليب التفكير والتحليل والاستنتاج والنقد..
ومن جهة أخرى فقد شدّد على أن “فقهنا السياسي يحتاج إلى أن يوضع في منظومة فكرية جديدة متكاملة، تستفيد من معطيات الحداثة وما بعدها”، وأن الديمقراطية إذا ما ترسخت في مجتمع ما بآليات متينة وأدوات ثابتة، ترسخت معها كثير من تطلعات هذا المجتمع.
ووعيا منه بأهمية الحوار الحضاري فقد اعتبر الدكتور الجراري مهما تكن فرص نجاح هذا الحوار أو فشله، فإنه يبقى تحدياً كبيراً لابد من اجتيازه ورهاناً لابد من كسبه..

ـ تنضوون الأستاذ الجليل ضمن زمرة الأدباء المفكرين الذين تجاوزوا دائرة الأدب، على رحابته وغناه، إلى أفق معرفي أرحب، أبنتم فيه عن إحاطة موسوعية رصينة بقضايا التاريخ، والفلسفة، والاجتماع، والسياسة، وقضايا التفاعل الحضاري والثقافي بين الشعوب والأمم… حبذا لو أطلعتمونا عن محددات ومغزى هذا الانفتاح، وعن أهم التحولات المفصلية الفارقة التي حكمت مسار تبلور شخصيتكم العالمة؟

إن الحديث عندي عن “الأدب” في عمومه لا يرتكز على مفهومه التعليمي التقليدي الذي يقصره على الشعر والنثر الفني، ولكنه يتجاوزه إلى كل إبداع، سواء في شكله المدرسي أو الشعبي؛ بل هو يتجاوز هذا الإبداع ليشمل كل المعارف المرتبطة به، سياسية ودينية وتاريخية وفكرية وفنية. وهي معارف تراثية ومعاصرة: أي قديمة وحديثة، بدونها لا يمكن النفاذ إلى عمق هذا الأدب الذي اغتنى بعد الاحتكاك بأوروبا بأنماط إبداعية جديدة.
ومن ثم فتخصصي في الأدب العربي عامة، والأدب المغربي خاصة، ما كان ليكتمل، بل ما كان ليتحقق إلا في هذا النطاق المعرفي الواسع الذي يجمع بين حقول ومجالات تبدو مختلفة أو متباينة، ولكنها في الحقيقة ذات نبع واحد يفضي بها إلى مصب مشترك. وهو ما ينبغي لصاحب هذا الاتجاه أن يكون مدركاً لحقائقه وأبعاده، في غير ادعاء أن يكون ذا إحاطة شمولية بكل دقائقه وجزئياته كما قد يتوهم.
وهو بهذا يدخل في المشروع الفكري أو الثقافي الذي عملت على تأسيسه منذ نحو من نصف قرن: أي منذ اقتنعت بالحاجة الماسة إلى دراسة أدبنا المغربي. وقد تبلور عندي هذا المشروع حين التحقت بالتدريس الجامعي، مما أتاح لي فرصة التعمق فيه، سواء عن طريق الدرس أو البحث أو الإشراف على الطلاب وتوجيههم للاهتمام به. وهو ما أعطى، بعون الله وتوفيقه، ثماراً طيبة، على الرغم من كل العوائق التي كانت تعترض الطريق على امتداد هذه المرحلة.
ولا شك أن مثل هذا الاتجاه يتطلب المثابرة على تحصيل أكبر قدر من المعرفة، ولكن يقتضي أولاً وقبل كل شيء رؤية واضحة هي أساس المنهج الملائم لذلك.
وهكذا فإني لم أتجاوز دائرة الأدب –كما ذكرتَ في سؤالك– ولكني وضعت هذه الدائرة في إطار أوسع وأشمل.
أما عن العوامل التي كان لها تأثير في تشكيل مساري العلمي ليسلك، أو لأسلك فيه هذا النهج، فتتمثل في الطبيعة المتنوعة التي كيفت تعليمي وتكويني على امتداد فترات التحصيل. فهي تبدأ من الكُتاب، المسيد، الذي حظيت فيه وأنا دون السادسة من عمري بقسط وافر من القرآن الكريم والتربية الدينية.
ولأسباب، لا مجال هنا لذكرها، تابعت تعليمي في مدارس إدارة الحماية (الفرنسية) حيث قضيت المرحلة الابتدائية والثانوية. وصادف انتهائي من هذه المرحلة الأخيرة أن استرجع المغرب استقلاله، فبدا لي أنه لابد من إتمام المرحلة الجامعية بتخصص في الدراسات العربية، على اعتبار أن استرجاع الاستقلال يعني استرجاع الهوية. وهو ما لم يتحقق، كما كان الظن، باللغة الأجنبية. وهذا ما جعلني أختار السفر إلى القاهرة حيث تابعت دراستي العربية.
قد تستغرب لهذا التحول، ولكن استغرابك سيزول إذا علمت أن الفضل في ذلك يرجع إلى مدرسةٍ أخرى خاصةٍ، أقصد مدرسة البيت التي كنت أتلقى فيها باستمرار على يد والدي، رحمه الله، من العلوم العربية والمعارف الإسلامية ما جعلني لا أواكب الدراسة في قسم اللغة العربية بكلية الآداب في جامعة القاهرة فحسب، ولكن جعلني أوفق فيها وأتفوق.
وعدت مرة أخرى إلى النهج الفرنسي لإعداد الدكتوراه التي قضيت فترة أهيئها في السوربون بباريز، لولا أن ظروفاً، ليس هذا مجال الحديث عنها، ألزمتني بالعودة إلى القاهرة، لأعمل في السلك الدبلوماسي بسفارة المغرب في مصر. وهناك أكملت تعليمي العالي بنيل درجتي الماجستير والدكتوراه.

ولا أخفي أني استفدت كثيراً من كل الذين درست عليهم في الكُتاب القرآني وما بعده، سواء في المغرب أو مصر أو فرنسا، تغمد الله برحمته من انتقل منهم إلى جواره. إلا أن الفضل الأكبر يرجع إلى والدي، رحمه الله، وجزاه عما قدم لي ولإخوتي ولأجيال عديدة، فقد أفدت من علمه وموسوعيته، ومن مجالسته ومذاكرته، ومن توجيهاته وإرشاداته، ومن مصاحبتي له منذ طفولتي في كثير من أسفاره. كما أفدت من أبوته المثالية التي كان يضفي عليها صداقة حميمية ويغنيها بأستاذيته النافعة.

ـ تزخر كتاباتكم الفكرية، وإسهاماتكم في مختلف المنتديات الدولية، بانشغال خاص بقضايا التفاعل الحضاري، حوارا وصراعا، كيف تقيمون النقاش الدولي الدائر في هذا الإطار؟ وكيف تتصورون طبيعة هذا التفاعل الحضاري في أبعاده الصراعية والحوارية على حد سواء؟ وما هي رؤيتكم لما ينبغي أن يكون عليه هذا الحوار من حيث منطلقاته، وأسسه، وآلياته، ومضامينه، ومقاصده؟

لا يخفى أن أشكالاً عديدة من الحوار، أو من التصارع والتصادم، قد جربت وما زالت تجرب، ولكنها مع ذلك ما زالت غير مقنعة أو لم تفض إلى النتائج المرجوة. والسبب في هذا الفشل تباين الآراء والمواقف حول هذه النقط التي أشرتَ إليها في سؤالك، ويمكن إجمال الجواب عنها في عناصر محددة.
منها اقتناع الراغبين في الحوار والداعين إليه بضرورته والحاجة إليه لنشر التفاهم والسلام بين الشعوب، دون السعي إلى فرض “عولمة ثقافية”، على اعتبار أن الله تعالى خلق البشر مختلفين، وأنه جعل اختلافهم سبيلاً للتعارف والتعاون ﴿يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا﴾؛ أي شعوباً وقبائل مختلفة.
وإذا ما تم هذا الاقتناع، فإن الحوار ينبغي أن ينطلق من الاعتراف بكل هوية، واحترام ما يشكلها من مقومات، لاسيما ما هو منها من قبيل الثوابت والمقدسات؛ على أن يكون الهدف من هذا الحوار هو الرغبة في إغناء الذات بما عند الآخر، مع العناية بالقيم التي هي غالباً ما تكون مجالاً للالتقاء، وخاصة ما يتصل بالقيم الدينية التي هي بدون شك قيم إنسانية تكاد تكون واحدة.

على أن ذلك كله لا يكفي ما لم يقع التخلي عن روح استعلاء القوي على الضعيف، وحب فرض السيطرة عليه بحجة انعدام التكافؤ معه، وكذا ما لم تحل المشكلات العالقة بينهما، وفي طليعتها مشكلة الأراضي التي ما زالت محتلة، وكذا معاناة الذاكرة من أحداث أليمة في الماضي تحتاج إلى إزالة آثارها بالاعتذار أو التعويض أو هما معاً.
وفي جميع الأحوال: أي مهما تكن فرص نجاح الحوار أو فشله، فإنه يبقى تحدياً كبيراً لابد من اجتيازه ورهاناً لابد من كسبه، على مستويات مختلفة وبآليات متعددة حكومية ومدنية وسياسية ودينية وغيرها، وفي ارتباط وثيق بالمجالات الأخرى السياسية والاقتصادية والتعليمية والتربوية. وألح على هذا المجال الأخير الذي يمثل البذرة الأولى لنشر ثقافة الحوار بين الأجيال، اعتماداً على مبدأ قبول الاختلاف والتعددية، وعلى مبادئ الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان. ومن المؤكد أن اجتياز هذا التحدي أو كسب رهانه هو السبيل إلى تحقيق تعايش سلمي بين الشعوب كافة، والسبيل كذلك إلى تجنب الصدام الذي لا يمكن أن يكون إلا مدمراً للإنسانية فيما أبدعت من حضارة وثقافة.

ـ تشددون في سياق تحديدكم لشروط الحوار الحضاري، على ضرورة الاحترام والاعتراف المتبادل بثقافات وهويات الشعوب. وهذا أمر على درجة بالغة من الأهمية. لكن ألا ترون أن القوى الدولية الكبرى قد سعت من وراء دعوتها منذ ستينيات القرن الماضي لاحترام الاختلاف الثقافي إلى إضفاء اعتراف شكلي بالهوية الثقافية للشعوب مقابل الالتفاف وعدم الالتزام بأية مناقشة جدية لبرنامج إصلاح النظام الدولي على مختلف الأصعدة الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية، والثقافية، والعلمية، والتكنولوجية..؟ ثم ألا ترون أن الرؤية الانقسامية التي تحملها القوى الغربية للعالم، وللعالم الإسلامي بوجه خاص، تجعل تصورها وتوظيفها لحوار الحضارات يلغي مسؤولياتها التاريخية والسياسية، بالنظر إلى العلاقة القائمة بين الأوضاع التي يعيشها المجتمع البشري اليوم والاختيارات الاقتصادية والإستراتيجية والاجتماعية والتقنية… التي تبنتها في العقود الماضية الدول الصناعية الكبرى التي تسير بهذا المجتمع نحو أوضاع معقدة ومأساوية… وهي العلاقة التي تمعن هذه القوى في إنكارها والتمويه عليها وتسعى إلى تحميل عبء هذه الأوضاع المختلة وغير العادلة إلى الخصوصيات الحضارية، متجاهلة دور سياستها الدولية الواعية المكرسة لها..؟

ليت هذه الدعوة كانت صحيحة وصادقة؛ إذ هي، كما ذكرت في سؤالك، تتضمن مجرد اعتراف “شكلي” بالاختلاف الثقافي بين الشعوب. وإن هذه “الشكلية” هي التي حالت وتحول دون تطبيق فعلي لتلك الدعوة؛ إذ يغلب عليها السعي إلى مزيد من فرض السيطرة والنفوذ. وهو ما تجليه سلبيات أخرى، كانعدام الإرادة في تفعيل الحوار: أي إجرائه على نحو ما ينبغي أن يكون عليه. وهنا يكمن تفسير ما أشرت إليه من عدم الرغبة في إصلاح النظام الدولي، بما يتيح للشعوب المستضعفة وجوداً فاعلاً وحضوراً متميزاً ومشاركة بالتالي في هذا النظام.
على أن الأمر يزيد خطراً حين يتعلق بالدول العربية والإسلامية التي تتوافر لها جميع الإمكانات، ليكون لها موقع بارز في سياسة العالم المعاصر واقتصاده. ويكفي أن نشير إلى ما لهذه الدول من مقومات هامة، أبرزها موقعها الإستراتيجي، وثرواتها الطائلة، وأرصدتها البنكية الهائلة، وعدد سكانها، ودورها التاريخي والحالي في إغناء الحضارة والثقافة، وغير ذلك مما هو معروف.
ومحاولة من القوى الكبرى لطمس هذه المزايا وإبطال مفعولها، لا تنفك تلك القوى تثير للعرب وللمسلمين مشكلات، وتلقي عليهم بتهم هم منها براء، وعلى رأسها تهمة الإرهاب التي تلصقها ظلماً بهم وبدينهم وثقافتهم المختلفة التي تحملهم بها مسؤولية اختلال الأوضاع العالمية وعدم سيادة الأمن والاستقرار.
ولعله لم يعد يخفى على أحد أن الإرهاب ظاهرة عالمية، وأن بوادره الأولى ظهرت في الغرب، وقبل أن تتجه القوى العالمية نحو العالم العربي والإسلامي في أعقاب الحرب الباردة لإلقاء التهمة عليه واتخاذه واجهة صراع وكبش فداء، دون نسيان منظورها إليه باعتباره خصماً تاريخيا لا سبيل للاطمئنان إليه.
وإلحاحاً على هذا الاتجاه، ما فتئت تلكم القوى تبذل قصارى الجهد للحيلولة دون امتلاك هذا العالم مفاتيح الرقي، حتى يبقى مجرد مستهلك لما تنتج من تقدم، وكذا الحيلولة دون تطوير إمكاناته العلمية والمادية للحاق بركب هذا التقدم. وهي في هذا تلجأ إلى مختلف الوسائل، بما في ذلك الحصار والتهديد بالغزو وتنفيذه.
وعلى الرغم من كل آثار هذا الواقع المتفاقم، فإن على الجهات المستضعفة، وفي طليعتها الدول العربية والإسلامية، أن تكون واعية بما يحاك لها، وأن تحاول بإرادتها وقدراتها الذاتية أن تتغلب على المصاعب التي تعترضها. وهو ما يعني الحاجة الملحة إلى فتح مجالات الحوار مع الذات بدءاً من نقدها، بقصد إزالة الخلافات وتصفية الأجواء، مما قد يمكنها من وضع قواعد جديدة وثابتة للتحاور، والتعاون فيها بينها، وكذا للتحاور والتعاون مع الآخر، في غير استسلام له ولما يفرضه والتخلي عن المسؤولية كاملة، بحجة أنه لا يد للجيل الحاضر في صنع واقع الأمة الأليم.
وما إخال ذلك بمستحيل أو بعيد، إذا ما توافر الوعي بتحقيق هذا الواقع، ووجدت الإرادة في تغييره، بدءاً من العمل على تغيير التفكير لإزالة الصورة المشوهة التي رسمها الغرب الاستعماري للعرب والمسلمين، والتي ظلت راسخة حتى في أذهانهم، بفعل المشاعر الانهزامية التي بثها فيهم، والتي لم يتخلصوا منها بعد، أو بالأحرى لم تتخلص منها بعض فئاتهم.
أعود بعد هذا إلى الحوار مع الذات، وأهميته بالغة، فهو في الحقيقة حوار داخل الهوية الواحدة. ذلكم أن الهوية تتسع وتضيق بحكم عوامل بيئية متعددة، بدءاً من ارتباطها بأقاليم صغيرة إلى جهات أكبر لتصل إلى الوطن فمجموع الأوطان التي تشكل الأمة. وهو ما تعكسه المجتمعات العربية والإسلامية. ولست في حاجة إلى أن أثبت أن ديننا الحنيف يدعو إلى الأمة، بل إلى العالمية، لقوله تعالى: “إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون”، وقوله عز وجل: ﴿وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً﴾. وإننا لنقرأ في الفكر الفلسفي الإسلامي عن “المجتمع الكامل” الذي تحدث عنه الفارابي؛ وهو ما يبلور تلك العالمية.
وهنا أود التحذير من تعميق الاختلاف بين الهويات داخل القطر الواحد، سواء أكان هذا الاختلاف مذهبيا أو عرقيا أو لغويا، حتى لا تستغله القوى التي تسعى إلى تمزيق تلك المجتمعات وتشتيتها وتكريس التفرقة بينها، وتشكيل كيانات صغيرة منها، اعتماداً على ذلك الاختلاف الذي هو في الحقيقة مغن للهوية الوطنية ومقوّلها.

ولا شك أن من شأن الالتئام والتفاعل التلقائي داخل هذه الهوية، أن يكون الخطوة الأولى للانفتاح على هوية الآخر والتحاور معه، ومعينا على مواجهة تحديات الاحتكاك به.

ـ نجد لديكم، وعيا حادا بضرورة التمييز بين مفهومي الحضارة والثقافة على ما بينهما من ارتباط وثيق، وهو الوعي الذي لا نكاد نجده في الكثير من الكتابات التي يمعن أصحابها في الخلط بين المفهومين، مما يؤدي إلى تحويل جميع الفوارق النسبية اللغوية، والأنثربولوجية إلى فوارق حضارية معيقة لأي تفاعل وتواصل إنساني… هل لكم أن تبرزوا لنا أهم الفوارق بين المفهومين؟ والأهمية العلمية الإجرائية لهذا التمييز؟

إنك بهذا السؤال تطرح إشكالاً اصطلاحياً سبق لي أن أثرته في إحدى دراساتي المتصلة بالموضوع. ويتعلق بمفهومي “الحضارة” و”الثقافة”. ولعلك تلاحظ أن مصطلح “الحضارة” غالباً ما يقرن بـ”التحالف” أو “الصدام” و”الصراع” باعتباره دالاً على كل ما يبدعه الإنسان ويتداوله من ماديات ومعنويات. إلا أن ما أميل إليه هو قصر مفهوم “الحضارة” على الماديات: أي على المظاهر التقنية والمنجزات العمرانية الدالة على التطور المعيشي والنماء الاجتماعي، في مقابل البداوة وما يطبعها من حياة بدائية. فالحضارة بهذا هي خلاصة ما توارثته الأجيال، وما تدمجه في اختراعاتها بما يمكن أن نسميه “تمازجاً” أو “تعاقباً” وليس “تحالفاً” أو “صداماً”. والدليل على ذلك أننا نمارس كثيراً من المظاهر الممثلة لحضارات سابقة علينا أو مختلفة عنا، سواء في المأكل أو الملبس أو المسكن، وما إلى ذلك مما هو منتشر في العالم بأسره، على تباين هوياته، دون بذل أي مجهود لممارسته فضلاً عن مقاومته، إذ أن هذه المظاهر تتسرب إلينا فنتلقاها بعفوية وتلقائية.
في حين أن الشق الآخر من المبدعات وهو المتصل بالممارسات العقلية، وما يكون خلفها من إمكانات ومؤهلات، وما يتولد عنها من إنتاجات هي خلاصة موروثات وإبداعات؛ أي بالجوانب العقدية والفكرية والنفسية والسلوكية، فإنه لا يتسرب على هذا النحو، وإنما هو يحتاج إلى نوع من التبادل قد يأخذ صيغة “تحالف” أو “صراع”، وهو الذي يمثله مصطلح “الثقافة”.
ومنذ قيام العلاقات الأولى بين البشر برزت هذه الظاهرة للوجود، وربما كانت من أهم أسباب قيام الحروب بين المجتمعات المختلفة. وهي في المرحلة المعاصرة، تبدو أكثر حدة لما بين الشعوب من تباين ثقافي، ولما هي عليه من شديد التمسك بثقافتها إن لم تكن تسعى إلى فرضها. وذلكم ما تمثله “العولمة”، هذه “العولمة” التي تجاوزت جوانبها الاقتصادية والتجارية، ساعية إلى عولمة الهويات: أي هوية ثقافية واحدة تعمل على إقصاء غيرها، وتلغي قيم التعدد والاختلاف، وتكرس ثقافة القوى المسيطرة والمتحكمة في العالم.
وهو ما ترفضه المجتمعات، مهما تكن صغيرة أو ضعيفة أو فقيرة، تلكم التي تعتز بهويتها ومقومات هذه الهوية، من دين ولغة وتراث وقيم: أي ما يطلق عليه مصطلح “الثقافة”. وهنا يمكن الحديث عن “التحاور” و”التحالف” أو “التصارع” و”التصادم”.

ـ ذهبتم في كتابكم الموسوم: “الإصلاح المنشود” إلى ضرورة مراعاة عملية التحديث لاختلاف السياقات والشروط الاجتماعية والثقافية لمختلف المجتمعات الساعية إلى تطوير مختلف بنياتها. واعتبرتم أن “التحديث المأمول” يستوجب، حتى يكون إيجابيا، مراعاة واقع المجتمعات العربية والإسلامية وعدم الابتعاد عن قيمها سواء في جانبها الخاص المتعلق بالدين واللغة، والثقافة، أو في جانبها العام القائم على حرية الإنسان وكرامته وحقوقه… لكن كيف لعملية التحديث أن تستوفي هذه الشروط في ظل إكراهات العولمة التنميطية الكاسحة؟ وهل من سبيل إلى ترشيد ظاهرة العولمة والإفادة منها؟

إن عملية التحديث التي أثرتها في سؤالك، لا يمكن أن تنجح ما لم ننظر في ثقافتنا بعين نقدية فاحصة، بقصد مراجعتها وتصفيتها مما فيها من شوائب وسلبيات، وما لم نهتد بعد ذلك لإقامة مؤسسات فاعلة، ووضع قواعد لبناء ثقافي جديد يكون قائماً على الجوانب الإيجابية التي أفضت إليها تلكم المراجعة والتصفية، ويكون في الوقت نفسه محكوماً برؤية مستقبلية واعية، واعدة بها تتضح معالم التحديث المرجوة؛ وقبل ذلك تتضح شروط المنهج المؤهل لبلوغ الحداثة. وهو ما يتطلب مراعاة طبيعة المجتمع وواقعه وما يعتمل فيه من علاقات خاصة وعامة، ثم ما هو متطلع إلى تحقيقه من عدل وأمن وحرية وكرامة، وما إلى ذلك كله من حقوق سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية. وبذلك تتحقق لهذه الحداثة شرعية تحميها من كل عبث أو تحريف أو عرقلة، وتدعو إلى الاطمئنان على ما قد تقضي إليه في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، مما يمكن إجماله في الديمقراطية التي إذا ما رسخت في مجتمع ما بآليات متينة وأدوات ثابتة، ترسخت معها جميع تطلعات هذا المجتمع.
على أننا بهذه المسيرة لا نسعى فقط إلى إدراك قيم الحداثة وتمثلها وممارستها، ولكن نسعى انطلاقاً منها إلى ما بعدها: أي إلى ما بعد الحداثة بكل ما يقتضيه من اندماج في العصر، والتفاعل مع ما يجد فيه من معارف واختراعات وأفكار، بمنظور شمولي وبروح متفائلة وذهن منفتح، وفي غير استسلام لواقعنا المتخلف ومناخه النفسي المضطرب، وما يُروج فيه من دعوات متضاربة يغلب عليها اليأس والتشاؤم.
ومن المؤكد أننا إن سلكنا هذا النهج، تسنى لنا أن نتخلص من وصاية الآخرين علينا، أولئك الذين يعطون لأنفسهم حق وقاية مجتمعاتنا النامية من كل خرق يمس حقوق الإنسان، باعتبارهم حماة لهذه الحقوق، مما يخولهم، بحق أو بباطل، إصدار أحكام قد لا تكون دائماً موضوعية أو منصفة.
ثم إن التحديث في ارتباطه بالعولمة ينبغي أن يجعلنا ننتبه إلى ما قد يكون وراء هذه العولمة من مخططات خطيرة على الاقتصاد الوطني الذي غالباً ما يجد صعوبة في تحريره وتأهيله، لمواكبة هذه العولمة فضلاً عن منافستها. وهو ما قد يفضي إلى المس بالسيادة الوطنية: أي إلى إحداث نمط جديد للمواطنة تكون طوع القبضة الحديدية التي تكون للشركات الدولية الكبرى. ومن ثم فإنه على الدول صاحبة السيادة أن تحمي ذاتها ومواطنيها، وأن تتسلح بما يجعلها قادرة على الصمود لزوابع العولمة، من غير أن تتخلى عن قيم هويتها والمقومات المتجذرة فيها؛ مع التحلي بالشجاعة اللازمة لنقد الذات وتطويرها، وجعلها قادرة على التكيف مع معطيات هذه العولمة. وهو ما لن يتسنى لها ما لم تفتح مجالات التفكير والقول والعمل للطاقات العلمية المفكرة، وتمكينها من أداء دورها الحق، بعيداً عن التهميش الذي تعانيه إن لم نقل المحاربة.
وإذا كان الجانب الاقتصادي، باعتباره واجهة العولمة الأولى، ينذر بصعوبة هذا التعامل، فإنه لا مجال للتغلب على مخاطره إلا بجودة إنتاجية تصمد للمنافسة، وكذا تكامل اقتصادي إقليمي وتنسيق متوازن بين الدول العربية والإسلامية. وبهذا يمكن التخفيف من وقع ظاهرة العولمة، وترشيدها بما قد يحولها إلى عنصر إفادة وإغناء.

ـ في صلة مباشرة بالسؤال السابق؛ كيف تتصورون إشكالية العلاقة بين الحداثة والتراث في ظل الدعوات المتتالية للقطيعة مع التراث والثورة عليه أو حتى اجتثاثه؟ وكيف تنظرون إلى منهجية التعامل الأنجع معه في ظل دعوتكم إلى إعادة قراءة النصوص التأسيسية وتأويلها من جديد بما يجعلها تتلاءم مع مقتضيات الواقع؟

هذا سؤال يعكس قضية قديمة جديدة، ألا وهي العلاقة بين التراث والحداثة. وقد أسلتُ، وأسال غيري، مداداً كثيراً في مناقشتها منذ نحو من نصف قرن. ومع ذلك فهي ما زالت قائمة، لا تزيد إلا تعقيداً في ظل التطورات التي يعرفها العصر بمستجداته السريعة والعديدة.
ومن غير أن أعود إلى التراث من حيث أهميته والحاجة إلى إحياء الصالح والنافع منه، فإن الذي يبدو لي من صيغة سؤالك أنك تقصد إلى نوع من هذا التراث، هو المتعلق بنصوصه التأسيسية المتصلة بالفكر الديني الذي لا يخفى مدى تخلفه، أو تخلف القائمين عليه عن مواكبة تلك التطورات المتلاحقة.
وهو تخلف يعزى إلى إغلاق باب الاجتهاد، مما أصبح معه الفقه الإسلامي في وضعه الراهن الذي انتهى إلينا، غير مسعف للنظر من خلاله إلى قضايا العصر الشائكة، وما تستدعي من رؤى جديدة ومناهج مستحدثة.
من هنا كانت الحاجة ماسة إلى إعادة قراءة تلك النصوص وتأويلها، بما يستجيب لمقتضيات الواقع والإقناع بما تفضي إليه من حلول، هي وحدها الكفيلة بصد الرافضين لذلك الفكر وخصومه والشاكين في جدواه.
وعندي أن هذه الحقيقة لا تنصب فقط على الفقه من حيث هو عقيدة وشريعة؛ أي عبادات ومعاملات، ولكنها تتجاوز هذا المجال الرحب إلى كل ما يمس حياة المسلمين في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وهي المجالات التي تحتاج إلى أن يُنظر فيها برؤية تحديثية تنويرية.
وهنا قد يثار مشكل ارتباط الحداثة بالغرب، وبكل السلبيات التي تحملها إلينا حضارته وثقافته، مجسمة آخر المطاف في العولمة. وهي حقيقة تفضي، بل ينبغي أن تفضي بنا إلى التعامل مع هذه الحداثة بعلمية وموضوعية، لإدراك العوامل الفاعلة فيها والمؤثرة، بهدف استخلاص القابل منها للتلاؤم مع فكرنا الديني الذي لا يُجهل مدى خصبه وغناه، وقبل ذلك للتلاؤم مع قيمنا ومقومات هويتنا كافة.
وما أظن هذا الأمر سهلاً ما لم تتوافر له إرادة قوية، أقصد إرادة التطوير والتجديد، وكذا رؤية منهجية منضبطة بقواعد واضحة ومعايير ثابتة. وأحسب أن هذه الإرادة قائمة في نفوس المتطلعين إلى ذلكم التطوير والتجديد، بوعي ذاتي يتجلى في رفضهم للواقع وعدم الرضا عنه، وعن استمراره وما يثير لهم من قلق وضيق.
ولا شك أن مثل هذا التوجه قد يصادف في رد الفعل من يعارضه ويخاصمه. وهو رد لا تخفى إيجابيته مهما يكن عنيفاً؛ لأنه سيكون حافزاً للمثابرة والمواصلة، وقبل ذلك سيكون دافعاً إلى مزيد من البحث والتأمل، وكذا المراجعة والنقد؛ مما به يتم تثبيت الخطى وتصحيح المسير.
وحتى يقود هذا المسير إلى الهدف المنشود، فإنه يحتاج، بعد ذلك كله، إلى إشراك المجتمع عبر توعيته بضرورة التغيير، وجعله يلامس عمق القضايا التي يعانيها، ليحس بها وبالحاجة إلى معالجتها، وليدرك أن هذا التغيير نابع منه ومُوجه إليه، وأنه مطالب بالإسهام في تنفيذه.
وتلكم هي الوسيلة لاسترجاع الثقة بين جماهير هذا المجتمع ونخبه السياسية والثقافية. وهي ثقة أساسية لإنجاح أي مشروع، لاسيما حين يمس مجالات حيوية يتعلق بها طموحه، لها صلة بالذات وما يشكلها من قيم.

ـ كيف تنظرون إلى واقع العلوم الإسلامية؟ وما السبيل إلى تجديدها وانفتاحها واستفادتها من علوم ومناهج العصر؟

إن ما قلته عن الفكر الديني ينطبق على سائر العلوم الإسلامية، هذه العلوم التي عرفت في العصور الأولى سواء في المشرق أو المغرب والأندلس، حركة تجلت أبرز مظاهرها في ازدهار الفلسفة والطب والفلك والموسيقى والهندسة والرياضيات، وما إليها مما ألف فيه العلماء المسلمون أو ترجموه؛ وكان خير أساس قامت عليه النهضة الأوروبية.
إلا أن هذه العلوم لم تلبث أن خفت إشعاعها وضعف إبداعها، وران عليها جمود جعل العلماء لا يتجاوزون وضع الشروح والمختصرات والمنظومات التعليمية التي حفظ بها بعض التراث.
واستمر هذا الوضع طوال القرون المتأخرة الموسومة بالتخلف والانحطاط، إلى أن كانت بوادر النهضة الحديثة، ووقع الاتصال بأوروبا، وتم إرسال بعثات طلابية إليها من بعض بلدان المشرق والمغرب. غير أن هذه البوادر لم تثمر على النحو المأمول. ثم كان أن زاد ذلك الاتصال بسبب الاستعمار الذي كان بحكم سياسته لا يسمح بالاستفادة من حضارته وثقافته إلا بالقدر الذي يخدم مصالحه.
وعلى الرغم من أن جهوداً كبيرة بذلت للنهوض بعد استرجاع الأقطار الإسلامية لاستقلالها، ولاسيما في مجال التعليم والتكوين بمختلف مراحله ومستوياته، إلا أن هذه الجهود، لأسباب كثيرة لا يتسع حيز هذا الجواب لذكرها، لم توفق لإصلاح ذلك المجال وتطوير جوانبه الإيجابية، فضلاً عن إحداث حركة علمية متقدمة أو قادرة في أحسن الأحوال على مواكبة تقدم الدول الأمريكية والأوروبية والأسيوية، فكيف على منافستها؟
إن قيام هذه الحركة يحتاج إلى شروط هي غير متوافرة في معظم البلدان الإسلامية، وفق ما ينبغي أن تكون عليه، بدءاً من تشجيع العلماء وإقامة مراكز ومؤسسات للبحث العلمي، وكذا إيجاد مناخ للحرية وأخذ المبادرة والتحفز للإبداع.
وهي تحتاج قبل هذا إلى تكوين علماء متخصصين بعمق في ميادينهم، وقادرين على توظيف علومهم لتنمية أوطانهم. وهو ما يقتضي أن يكونوا مندمجين في مجتمعاتهم، ومرتبطين بقضاياها، ومنفعلين بكل ما يشغلها، وفاعلين فيها بالتوجيه والإرشاد والنقد. ولعل أولى الخطوات نحو هذا الهدف، أن يعاد النظر في التعليم من حيث هو، لتعود له المكانة اللائقة به، وكذا للقائمين عليه من معلمين وأساتذة. وفي هذا السياق ينبغي تحديث الجامعات، سواء من حيث تكوين وحدات للبحث المتخصص، وتطوير المناهج والقوانين المنظمة، مع تقوية الدراسات العملية والتطبيقية، والإلحاح على مسألة المناهج، حتى نتمكن من تعليم الطالب أساليب التفكير والتحليل والاستنتاج والنقد؛ إذ الملاحظ أن أغلب طلاب جامعاتنا وما إليها من معاهد عليا لا يتعلمون شيئا من ذلك إلا في حدود. ثم هم لا يتعلمون كيف يتحملون المسؤولية بمعرفة وصدق وإخلاص ونزاهة، في اعتزاز بالهوية وقدرة على حمل الهموم الوطنية بذهن متفتح وقلب متنور.
ومن المؤسف أن بعض القائمين على التعليم الجامعي أخذوا ينادون بفرض مقررات وكتب معينة على الطلبة والأساتذة، وكذا بفرض التفتيش على هؤلاء على نحو ما هو معمول به في المرحلة الابتدائية والثانوية.
يضاف إلى هذا أن واقع العلوم الإسلامية لا يكشف عن هذه الثغرات الأساسية فحسب، ولكنه يكشف معاناة تجليها ظواهر تبدأ من علاقة غير سليمة ولا مريحة بين علماء بعض الدول وسلطاتها. وهي علاقة قد تصل إلى حد النزاع والصراع، أو التهميش والإقصاء، وتبقى في جميع الأحوال علاقة اغتراب تحول دون أي ازدهار معرفي، لاسيما والمجتمع غارق وإن بنسب متفاوتة في الأمية والجهل.
ويَرتبط بهذه الظاهرة الأخيرة ويزيد في إبرازها انتشار الشعوذة والتدجيل، وإشاعة الفكر الخرافي باسم التصوف. وهي كلها ظواهر تحول دون أي تحرك فاعل في اتجاه بعث القديم الصحيح من العلوم، واقتباس الجديد الذي يبدعه الآخرون، والإسهام في إبداعه لاكتساب مفاتيح التقدم بذلك. ثم إنها لا تتيح المجال لعلمائنا الحقيقيين، على قلتهم، للنهوض بما يحقق هذا التقدم. وحتى حين يحاولون فإنهم يجدون أنفسهم محاصرين بتلك الظواهر، وبقلة الإمكانات، والخشية من الحرية، وضعف الإيمان بالعلم وقيمته ودوره في إحداث ذلكم التقدم.
والأسف شديد أن عدداً يقدر بالآلاف من هؤلاء العلماء المؤهلين، ولاسيما من شبابنا العصامي المتنور والمتخصص في مختلف الميادين العلمية، يهاجرون إلى كندا والولايات المتحدة وجميع البلدان الأوروبية، حيث يعملون في الجامعات ومراكز البحث وغيرها من المؤسسات، يفيدون بعلمهم وخبرتهم ومهارتهم، ويسهمون بحظ وافر في رقي تلك الأقطار. وهو عدد آخذ كل يوم في ازدياد، بسبب التشجيع المغري الذي يلقونه والترحيب الكبير الذي يقابلون به، وكذا بسبب سياسة الاستنزاف التي تسلكها الحكومات الغربية التي فتحت الباب لنخب دول العالم الثالث، في وقت أغلقته في وجه العمال ومن إليهم من متوسطي التعليم والتكوين.
وإنه ليحز في النفس أن تكون بلدانهم الأصلية محرومة منهم ومما قد يقدمونه لتنميتها، حتى وهم في مهاجَرهم لو وجدوا من يقدر مكانتهم، وييسر لهم سبل تحقيق ذلك، ويشجع عليه عبر قنوات رسمية توفر لهم الإمكانات المادية، وتنشئ لهم ولأمثالهم مراكز للبحث العلمي على النحو الصحيح الذي يجدونه هناك.

ـ منذ دعوتكم المبكرة إلى “ثورة ثقافية” وأنتم تراهنون على الثقافة والمثقفين لقيادة عملية الإصلاح. ما مدى تاريخية وفاعلية وجدوى هذا الرهان في ظل ما تعرفه الثقافة والمثقفون من تهميش موضوعي، وتشرذم وانقسام ذاتي؟ ثم ألا ترون أننا لم نعد بحاجة إلى ثورة ثقافية فحسب، وإنما إلى “ثورة أخلاقية” في ظل ما باتت تعرفه منظومة القيم في مجتمعاتنا العربية الإسلامية من اختلال بيّن؟

حين أصدرت كتابي عن “الثقافة في معركة التغيير” عام اثنين وسبعين من القرن الماضي، وقبل ذلك في سنة ثلاث وستين حين نشرت في مجلة “دعوة الحق” مقالاً عن “حاجتنا إلى ثورة ثقافية”، والمغرب إذ ذاك حديث العهد بالاستقلال، كانت الثقافة ما تزال محدودة ومؤسساتها معدودة، ومبدعوها والقائمون عليها، على قلتهم، ما بين منتشين بهذا الاستقلال، ومتحفزين إلى بنائه على اختلاف مشاربهم وتطلعاتهم، تجتذبهم رياح شتى تغلب عليها بعض إيديولوجيات المرحلة وافدة من الشرق والغرب.
يومئذ أثيرت قضايا تأسيسية، كضرورة قيام ثقافة وطنية، والموقف من القديم والتقاليد والتراث في مقابل المعاصرة. وكان ممكناً أن يتم الحسم في كل هذه القضايا وما إليها مما كانت تتناوله الأقلام وإن من زوايا مختلفة، إلا أن ذلك لم يتحقق على النحو المأمول لأسباب موضوعية ومفتعلة، بدليل أن تلك القضايا نفسها ما زالت لحد الآن معروضة للنقاش، مع اتساع إطار هذا النقاش وما يعتمل فيه من تعقيدات لا تزيد إلا تراكما، على الرغم من التطور الكبير الذي تعرفه الثقافة، سواء من حيث مؤسساتها أو أطرها الفاعلة بما لم يتقدم من قبل. وهذا ما جعل “الرهان” الذي تحدثتَ عنه في سؤالك ما يزال قائماً بأكثر مما كان من متطلبات وتطلعات وبمعاناة أشد من ذي قبل، نتيجة ما ذكرت من تهميش موضوعي وتشرذم وانقسام ذاتي، وكذا نتيجة الصراعات الظاهرة والخفية والحيرة أو الاضطراب في مواجهة التحديات المحلية والإقليمية والعالمية الآنية، إن لم أقل العجز عن هذه المواجهة أو التشكيك في القدرة عليها.
ومن ثم فإني وإن كنت غير متفق معك على أننا لم نعد بحاجة إلى “ثورة ثقافية”، فإني أوافقك على الحاجة إلى “ثورة أخلاقية”. وذلك لأمرين اثنين:
أولهما: أننا لم نحل مشكلات الثورة الثقافية التي تتضخم يوم إثر يوم.
وثانيهما: أني أعتبر الجانب الخلقي جزءاً مكوناً للثقافة، وأن الحديث عن “الثورة الثقافية” قبل أزيد من أربعة عقود، كان يتضمن ما تراه من “ثورة أخلاقية”، مع ملاحظة تطور الظروف وما تبدي من اختلال في منظومة القيم، ليس بالنسبة للمغرب فحسب، ولكن كذلك في المجتمعات العربية والإسلامية وحتى العالمية.
إن الهدف من تثوير الثقافة ليس أن تصبح لها سيطرة تستبد فيها بالرأي والقول والفعل وتمنع سواها أو تهمشه وتقصيه وتلغيه، ولكن الهدف هو تحريك العناصر القوية والمقومات الحية في هذه الثقافة، لتنهض بالدور المنوط بها في التوجيه والتقويم، بتوازن واعتدال وتسامح وعقلانية، ولتؤدي بذلك رسالتها العلمية والمجتمعية التي توافرت لها اليوم جميع الشروط والظروف. وهي رسالة ريادية تنطلق من الابتعاد عن الأنانية والفردية، ومن الاندماج في المجتمع وعدم الانعزال عنه أو التعالي عليه أو التحكم فيه، وتعمل على تحديثه وتنوير فكره وتوعية قادته وجماهيره بقيم الحرية والعدل والمساواة، باعتبارها “حقوقاً” ضرورية، ولكن كذلك بقيم العمل والإنتاج بجد وإخلاص، مما تشمله “الواجبات” التي غالباً ما تغيب في سياق الحديث عن “حقوق الإنسان”. وهو ما لا يمكن أن تقوم به غير الثقافة مهما تكن لذلك المجتمع من مؤسسات مسؤولة فيه.
وهذا يعني أن نؤسس ثقافة قادرة على التعامل مع الواقع وتحليله وفهمه ونقده، وقادرة كذلك على فتح آفاق الإبداع والاجتهاد، وكذا مجالات الحوار مع الذات والآخر، على أساس القبول والاعتراف والاحترام والتبادل والتعاون والتضامن. وذلكم ما يستوجب وضع “إستراتيجية ثقافية” مثلما يتم وضع إستراتيجيات للسياسة والاقتصاد وغيرهما مما يرتبط بمخططات الشأن العام، في حرص على الوحدة التي لا تعني أن تكون ثقافتنا مطبوعة بسمة واحدة تجعلها ذات وجه بملامح متماثلة، ولكن تعني أن تكون هذه الثقافة وطنية: أي قادرة على التشكل من كل الأنماط الثقافية التي يزخر بها مجتمع كمجتمعنا يتسم بالتنوع والتعدد، والتي من شأنها حين تتفاعل أن تغني تلكم الثقافة الوطنية: أي أن تمنحها البعد الوطني.
على أن هذه القدرة الثقافية ينبغي كذلك أن تتبلور في الالتئام مع الثقافات المختلفة عربية وإسلامية وعالمية، ولاسيما هاته، مع إمكان التمييز بين ما هو صالح منها وما هو غير صالح، برفض النماذج غير الملائمة لنا منها. كما ينبغي لتلك القدرة أن تتجسم في إثارة القضايا الشائكة والمشكلات العويصة في غير تحرج من تناولها، ولكن مع الاجتهاد في إيجاد حل لها.
وبهذا تخرج الثقافة من جمودها وتقليديتها وعزلتها، ومن خشيتها كذلك على نفسها أن تهيمن عليها المؤسسات والتنظيمات الرسمية. وإذا ما تسنى لها ذلك، أمكنها استجماع قدراتها وعناصر القوة الكامنة فيها، ومكوناتها المادية والفكرية والبشرية التي تستطيع بها أن تتوسل بالتحليل العلمي والتخطيط المستقبلي، وأن تصد المحاولات التي تسعى إلى إجهاض العمل الثقافي ومحاربة الإصلاح والتغيير، أو التي تسعى إلى تسخير هذا العمل لمصالحها واستعباد الناهضين به، سواء أكانت هذه المحاولات داخلية أم خارجية، مما يشكل جانباً من التحديات التي تواجهها الثقافة، أو عليها أن تواجهها وهي عديدة.
وهكذا، فإذا كانت القيم التي اعتدنا أن نتحدث عنها ونطالب بها الثقافة والمثقفين هي ما يتصل على الخصوص بالعقل والحرية، فإن الحاجة اليوم ماسة كذلك إلى قيم أخرى تجمعها المكارم والأخلاق، من نزاهة وصدق وأمانة ووفاء والتزام وضمير حي وحرص على بقاء شعلة الأمل والتفاؤل ملتهبة في النفوس.

ـ عملتم على تقديم رؤية عصرية لإشكالية الدولة من خلال كتاب مستقل خصصتموه لهذا المقصد؛ جمعتم فيه ما بين التأصيل والنقد والاجتهاد، وتناولتم فيه قضايا البيعة، والخلافة، والشورى، والديمقراطية… ودعوتم فيه إلى الاجتهاد لـ”إبداع فقه سياسي يسعف في الخروج من المأزق الذي تعانيه الدول العربية والإسلامية المتعطشة شعوبها للإصلاح الجذري الشامل…” وهو ما جعل خطابكم في هذا الكتاب يتراوح بين ما هو كائن تاريخيا (علم السياسة) وبين ما ينبغي أن يكون (الفلسفة السياسية)… لكن ألا ترون أن مجمل ما أنتجه الفقه السياسي الإسلامي المعاصر، على أهميته القصوى، لا يتجاوز كونه مجرد تأويل أو “أسلمة مفاهيمية” لمفاهيم وقيم الحداثة السياسية الغربية؟

إنك بهذا السؤال تثير إشكالية الفقه السياسي الإسلامي المعاصر في العمق: أي في الحاجة إلى الاجتهاد لإبداعه، بعيداً عن مجرد تأويل مفاهيم هذا الفقه المتوارثة وقيمه، وكذا مجرد محاولة أسلمة ما تقدمه مفاهيم الحداثة السياسية الغربية وما ترتكز عليه من قيم.
صحيح أن الفكر السياسي الإسلامي يتميز بخصائص تتمحور حول الشورى وما لها من إيجابيات، حين تطبق على النهج الصحيح. وهو ما عرفته الدولة الإسلامية في فترتها الأولى، ولاسيما في بداية عهد الخلفاء الراشدين قبل أن تتعرض للتصدع والتمزق بسبب الانحراف عن هذا النهج، والموقف الذي كان لمعظم فقهاء ذلك الفكر في تبريرهم لما وقع، ممالأة منهم للحكام الذين كانوا، حفاظاً على مواقعهم وأنظمتهم، يلجؤون إلى استعمال أساليب تتنافى كثير من مظاهرها مع مبادئ ذلك النهج وأصوله، وإن سعت في بعضها إلى المحافظة على شكلياته.
ثم كان أن واجه المسلمون فترات تخلف وانحطاط كانت تزيد في استفحال هذا الوضع، إلى أن كان الاحتكاك مع الغرب ونهضته، وما عرفه من تجارب في الحكم، أفضت به إلى إقرار الديمقراطية في صيغ مختلفة. وكان نتيجة لهذا الاحتكاك الذي قوته الفترة الاستعمارية وما بعدها، أن أثار المسلمون مسألة الحكم، موزعين بين اقتباس ديمقراطية الغرب، أو العودة إلى الشورى كرديف أو مقابل لما عند الغرب؛ مما شكل معادلة صعبة ما زال الفكر العربي الإسلامي حائراً أمامها. وهي حيرة زادت مع التطورات العالمية في مختلف المجالات وعلى جميع المستويات، وما زالت تزيد وتستفحل الأزمات الناتجة عنها حتى اليوم.
إننا لمواجهة هذا الوضع، لا نحتاج أن نثبت أن الفكر، سواء منه السياسي أو غيره، يتبدل ويتغير باستمرار، مما يجعل قضاياه تتجدد وحلولها غير ثابتة. ومن ثم، فإننا لا نرى أن نعيد النموذج السياسي الذي قامت عليه الدولة الإسلامية في عصورها الأولى. وذلكم بسبب التغيرات التي طرأت وتطرأ على الفكر السياسي في العالم، ثم بسبب التطورات التي عرفها المسلمون طوال القرون وما زالوا.
ومع الإقرار بضعف اجتهاد فقهاء السياسة المسلمين في إيجاد فكر جديد ملائم للعصر، والبقاء مرتبطين بما انتهى إليه السلف وطبقوه، فإنه لابد من مراعاة الأوضاع الأليمة التي يعيشها المسلمون في مواجهة الإكراهات الداخلية التي يعانونها، وتحت ضغط التحديات الخارجية التي يقفون أمامها مضطربين، والتي يَزيد في وقعها عليهم موقف بعض قوى العالم الكبرى، من دينهم بثوابته ومقدساته عامة واتهامهم بالعنف والإرهاب. وهو مما لا شك يحث بعض فئاتهم على التمسك بتشدد في الدين، والقول في السياسة بالحكم “بما أنزل الله” كمبدأ يرون تطبيقه بجمود وصرامة.
إن فقهنا السياسي يحتاج إلى أن يوضع في منظومة فكرية متكاملة ومتناسقة جديدة، تستفيد من معطيات الحداثة وما بعدها، لتنطلق منها نظرية سياسية قابلة للتطبيق: أي لتفعيلها وبلورتها في ممارسة واقعية، وقادرة على فتح آفاق المستقبل، والاندماج في العالم بجميع تحولاته، دون أن تفقد روحها المتمثلة في القيم الإسلامية التي هي في حقيقتها قيم إنسانية عالمية، ولكن كذلك بعيدة عن أي شعار يَستحيل تجسيده وممارسته.
ولعل المحاولات القائمة الآن في هذا المجال لم تهتد بعد إلى إيجاد تلك المنظومة؛ مع ملاحظة عائقين اثنين:
أولهما: موقف خصوم هذا الاتجاه الذين يرون فصل الدولة عن الدين، حتى يبقى أمراً فردياً لا دخل له في تسيير الشأن العام. ومثلهم الذين يركزون على العناصر الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وعلى ما هو معقول وملموس، مع إلغاء كل ما هو مغيب ومقدس وداخل في إطار المطلق.
ثانيهما: موقف المتشبثين بالفكر الإسلامي على ما هو عليه. وهو ما يتخذه كثير من العلماء، وما يجد إقبالا لدى غالبية الجماهير التي قد تنقاد بتأثير منه إلى التطرف، مما يسبب لهذا الفكر انعزالاً عن الحركة الثقافية الفاعلة على مختلف الواجهات، والسياسية منها بصفة خاصة.
والحق أنه لو تسنى لجميع الانتماءات أن تناقش بموضوعية قضية الفكر السياسي الإسلامي، في ضوء الدين وما فيه من أصول لهذا الفكر، مع الرغبة في الاستفادة من التيارات المتجددة في هذا المجال عند غير المسلمين، لأمكن إيجاد مخرج توفيقي يفضي إلى إبداع النموذج المناسب. على أن اعتماد الدين في مثل هذه المحاولة لا يعني اعتماده من حيث هو عقيدة ثابتة، ولكن من حيث هو تشريع قابل في جوانبه الدنيوية للمراجعة والتجديد، ليواكب التطورات والمتغيرات التي تعرفها المجتمعات. وذلكم ما يحتاج إلى إرادة قوية ورؤية علمية واضحة لمصالح الأمة.
وأود هنا أن ألفت نظر مؤسساتنا الجامعية في المغرب، ولاسيما وحدات “القانون العام الإسلامي” التي استحدثت مؤخراً فيها، إلى أهمية تعميق البحث في طبيعة الحكم في بلادنا القائم على الملكية الدستورية المرتكزة على إمارة المؤمنين، بكل ما ترمز إليه من دلالات دينية عميقة وشرعية تاريخية راسخة، والتحفز من هذا البحث لبلورة فقه سياسي إسلامي جديد يكون، عبر تحديث النظام السياسي للمغرب، هو ذلك النموذج الذي تتطلع إليه جميع الشعوب الإسلامية، والذي به تحل إشكالية العلاقة بين الدين والسياسة.

ـ قدمتم تفسيرا نافذا لما يبدو تناقضا في اختيارات المغاربة المذهبية، على امتداد تجربتهم التاريخية العريقة، بما عبرتم عنه بقدرتهم “على التمييز بين المساندة السياسية والالتزام الفكري”، حيث لم يحل انتماء خليفتهم المولى إدريس المذهبي (الشيعي) من التزامهم بـ”سنيتهم المالكية”، بل جعلوه كما أشرتم لذلك في كتابكم (بقايا كلام في الثقافة) “يدرك هذه الحقيقة ويسير في خط هذه السنية”.
وأبنتم، قبل ذلك، أن رسوا المغاربة على اختيارهم المذهبي الحالي جاء نتيجة تجربة تاريخية جربوا فيها العديد من المرجعيات المذهبية التي لم تنسجم مع طبيعة شخصيتهم الحضارية… هل لكم أن تقدموا لنا المزيد من التوضيح والبيان حول مغزى وحيثيات هذا الاختيار المذهبي؟

هو بالفعل “اختيار” بكل ما تدل عليه هذه الكلمة؛ لأنه تم عن اقتناع بعد مخاض عاشه المغاربة، وجربوا فيه مذاهب وتيارات فكرية وسياسية وصلتهم في ركاب الفتح الإسلامي وعقبه، بدءاً من المذهب الخارجي الذي صادف هوى سياسياً في نفوسهم بسبب شعاره: “لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى”، والذي تمكن من إيجاد مراكز له، على نحو ما كان له في طنجة على يد الزعيم ميسرة المدغري الذي كان على رأي الخوارج “الصُّفرية”، والذي قام بحملة مغربية ضد الدولة المركزية في المشرق. ومن المراكز الخارجية كذلك يُذكر كذلك ما كان لبني مدرار في سجلماسة التي كان لها دور في تأسيس عبد الرحمن بن رستم للدولة الرستمية الإباضية في الجزائر.
أما في الفقه، فكان المغاربة أول الأمر على مذهب “السنن” قبل أن يتحولوا إلى مذهب “أبي حنيفة”، ربما باعتباره أول مذهب فقهي ظهر ثم إلى المذهب المالكي؛ مع عدم استبعاد وجود لمذهب “الأوزاعي” الذي هو مذهب أهل الشام، وذلكم بحكم أموية الأندلس يومئذ والعلاقة التي كانت للمغاربة مع هذا البلد بعد فتحه.
وأما في قضايا “العقيدة” و”علم الكلام” الذي ارتبط بها، فيشار إلى جماعة “الواصلية” التي كانت موجودة في المغرب، وهي تنسب إلى واصل ابن عطاء الذي هو مؤسس فرقة “المعتزلة” وواضع أسسها الفكرية. ويبدو أن قبيلة أوربة التي آوت المولى إدريس كانت على رأي هذه الجماعة.
وتكتمل معطيات هذه المعادلة بقدوم المولى إدريس الذي هو من آل البيت، ومن “الشيعة” المناضلين وإن في “زيدية” معتدلة. وتتجلى نضاليته من خلال الروايتين اللتين تذكر في أسباب قدومه:
الأولى: أنه جاء فاراً بعد هزيمته في وقعة فخ على عهد الهادي العباسي سنة تسع وستين ومائة للهجرة.
الثانية: أنه جاء قبل هذا التاريخ بنحو عشرة أعوام، موفداً من قبل أخيه محمد بن عبد الله المعروف بالنفس الزكية الذي كانت له مواجهات مع المنصور العباسي.
ما يتبادر إلى الذهن على إثر الترحيب الذي لقيه المولى إدريس عند المغاربة، أنهم سيتحولون إلى المذهب الشيعي، ولكن ذلك لم يحدث، بل على العكس من ذلك سيتقوى الاتجاه السني، وسينتشر المذهب المالكي في ظل الأدارسة. وهنا تكمن صعوبة المعادلة، ولكن كذلك تكمن أسباب حلها. وهنا أكتفي بالإشارة إلى أمرين اثنين:
أولهما: أن المولى إدريس أدرك عَدم قابلية فكر المغاربة وذهنيتهم الميالة للواضح والملموس، لتقبل بعض المبادئ الفقهية والعقدية الشيعية ولاسيما ما يتصل بالغيبيات. فدعا منذ اللحظة الأولى وكما تدل على ذلك رسالته التي خاطب بها المغاربة إلى التمسك بالكتاب والسنة.
ثم إنه، وهو في مواجهة العباسيين، كان يكفيه أن يجد له ولأسرته مستقراً فكيف أن يتاح له في هذا المستقر تأسيس دولة؟
يضاف إلى هذا ما كان بين الأدارسة والإمام مالك من تعاطف، هو في الحقيقة موقف لصالحهم، تمثل في رفضه بيعة المنصور التي كانت على الإكراه، وكان قد قال ببطلان الطلاق المكره وسقوط يمين الإكراه على العموم.
وثانيهما: التقدير الكبير الذي كان للإمام مالك في نفوس المغاربة، باعتباره فقيه المدينة التي كانوا يزورونها عند أداء فريضة الحج. وهي مكانة تبرزها مظاهر كثيرة، كأمانته العلمية، ونزاهته الفكرية، وما كان معروفاً عنه من تدقيق وتحر في اختيار الأحاديث، لاسيما واعتماده كان على الأثر والرواية أكثر مما كان على الرأي والقياس. وهو ما يتناسب وطبيعة العقلية المغربية، كما سبق أن أشرت.
لهذا وغيره، كانت الدولة المغربية على اختلاف العهود تساند المذهب وتستند إليه، وتحمي من خلاله وحدة الوطن الذي كان يتعرض من حين لآخر لبعض التيارات غير السنية التي كان المغاربة يرفضونها. من ذلك التيار الشيعي الرافضي الذي كانت تمثله “البجلية” التي هي نسبة لعبد الله البجلي، وكان لها مقر في تارودانت. وقد حاربهم عبد الله بن ياسين داعية المرابطين وقضى عليهم.
وقد شهدت هذه التيارات الدخيلة أوجها على يد المهدي بن تومرت الذي أراد لمواجهة دولة المرابطين الفقهية أن يقول في تأسيس الدولة الموحدية ببعض المبادئ الشيعية التي استغلها سياسياً، ولاسيما القول بالعصمة وادعاء المهدوية. إلا أن الموحدين سرعان ما تراجعوا عن هذه المبادئ بمجرد وفاة المهدي.
ويبدو أن ادعاء المهدوية كان يغري بعض المتصوفة المنحرفين، كالمسمى التويزري الذي ادعى في المائة الثامنة على عهد المرينيين أنه “الفاطمي المنتظر” بسوس، ولكنه لم يلبث أن قُتل. ومثله العباس الذي ظهر في هذه المائة كذلك بغمارة، زاعماً نفس الادعاء، فكان مآله القتل.
وهكذا كان المغاربة يثبتون على مذهبهم السني المالكي باعتباره اختياراً فقهياً، ولكن كذلك باعتباره شعاراً فكريا وسياسياً للوحدة، على الرغم من كل المحاولات الانحرافية المدسوسة التي كانت من بينها حركة البهائيين التي ظهرت في منتصف القرن الماضي، وقُضي عليها في المهد.
وللدلالة على رفض المغاربة لمثل هذه التسربات، يكفي أن أشير إلى ما ذكر التاريخ من أن أحد المتشيعين قدم من كربلاء مع عدد هائل من أتباعه، منتحلا دعوة الفاطمي في بلدان المغرب على عهد المرينيين. وحين عاين الأمر تبين له أن ذلك مستحيل فقال لأصحابه: “ارجعوا فقد أزرى بنا الغلط وليس هذا الوقت وقتنا”.
ولا شك أن الثبات على هذه الوحدة يحتاج إلى التوعية المستمرة بالمذهب واعتماده الفعلي –وليس اللفظي– ولاسيما على مستوى الجماهير التي تؤخذ بكل غريب ووافد، والتي قد تنقاد لبعض الإغرءات ووسائل الاتصال العديدة اليوم. وتلكم مهمة جميع القائمين على شؤون المجتمع، وفي طليعتهم العلماء الذين هم مسؤولون بالدرجة الأولى على الأمن الروحي والفكري للمواطنين.

ـ لقد سبق أن دعوتم إلى “تفعيل النص الديني وإبراز واقعيته، وإبقائه حيا وذا تأثير إيجابي ومستمر في حياة المسلم”… إذ هو في نطاق مرجعيته ومثاليته، يبقى قادرا ليس فقط على مسايرة الحداثة ومواكبتها والتكيف معها، ولكن قادرا على احتوائها واستيعابها وعلى التمييز بين النافع والضار منها.. وهي دعوة ملحة تستجيب لمطلب تاريخي موضوعي حال، إلا أن هذه الدعوة، كما في علمكم، سبق أن طرحت بصيغ مختلفة منذ الإصلاحية الإسلامية مع الشيخين محمد عبده وأستاذه جمال الدين الأفغاني في المشرق، ومع الشيخين محمد بن العربي العلوي، وأبي شعيب الدكالي… في المغرب… غير أنها لم تجد طريقها بعد للاستجابة والتحقق. ما هي من وجهة نظركم أهم المعوقات التي حالت دون ذلك؟ وما السبيل إلى تجاوزها؟

ترجع الحركة الإصلاحية الدينية الحديثة في المشرق إلى القرن الثامن عشر، بدءاً مما نادى به محمد بن عبد الوهاب في دعوته بالحجاز إلى التوحيد في العقيدة والتشريع والعودة إلى الكتاب والسنة ومحاربة البدع والخرافات، وفي تأثر متشدد بابن تيمية ومذهب ابن حنبل.
أما في المغرب، وفي القرن نفسه، فتمثلت الحركة الإصلاحية في الدعوة التي نادى بها السلطان محمد بن عبد الله للعودة كذلك إلى الكتاب والسنة ونبذ المختصرات الفقهية، وبعدها دعوة السلطان المولى سليمان الذي انتصر للسنة وحارب البدع الضالة. كما تمثلت في أواخر القرن التاسع عشر، ولاسيما أوائل العشرين، فيما نادى به الشيخ أبو شعيب الدكالي الذي كان له تأثير كبير تجلى في الوعي الإصلاحي الجديد الذي بثه بدروسه وعبر تلاميذه في وسط العلماء وبين جماهير المواطنين، في تركيز على تدريس بعض العلوم كالتفسير والحديث. وهو الوعي الذي كان مواكباً لما كان ظهر في الشرق من خلال ما دعا إليه جمال الدين الأفغاني الذي كان هدفه البعيد سياسياً، وتلميذه محمد عبده الذي كان يقصد إلى إصلاح التعليم.
إلا أن هذه الحركة، سواء ما كان منها في المغرب أو المشرق، وبحكم الأهداف الآنية التي كانت ترمي إليها، لم تمس النص الديني في العمق، بتفعيله والاجتهاد فيه لجعله قادراً على تجاوز تقليديته؛ أي تطويره وتأهيله لفتح آفاق جديدة تمكنه من امتلاك ناصية التحديث والتأثير بها على الواقع فكرياً وسياسياً، ذلكم الواقع الذي كان تحت وطأة التخلف والاستعمار يواجه تحديات داخلية وخارجية.
وليس من شك في أن هذه التحديات كانت عائقاً كبيراً حال دون تحقيق الإصلاح على النحو المأمول، ولكن لا شك كذلك أن عوائق أخرى ذاتية، متداخلة معها، كانت موجودة، يمكن أن نذكر من بينها ما يلي:
أولا: محدودية الأهداف التي كانت ترمي إليها الحركات الإصلاحية، وفق ما سبقت الإشارة إلى ذلك، بدءاً من الرجوع للكتاب والسنة، إلى تنقية الأفكار ومحاربة الدجل والشعوذة والخرافات التي كانت تشيعها بعض الطرق المنحرفة عن التصوف السني الحق، والتي كان خصوم الإصلاح يشجعون على انتشارها.
ثانيا: الانطلاق من هذه الأهداف لبث وعي وطني بخطر الاستعمار وضرورة مقاومته، على نحو ما كان في المغرب، ولاسيما بعد أن هدأت المقاومة المسلحة التي استمرت في بعض مناطقه إلى منتصف الثلاثين من القرن الماضي.
ثالثا: عدم وجود منابر إعلامية في المغرب للعمل على إشاعة هذا الوعي وبلورته في الكتابة، على الرغم من وجود كُتاب علماء من الشباب، كانوا يضطرون للنشر في صحف ومجلات خارج المغرب، مثل مجلة “الشهاب” الجزائرية، مما جعل تأثيرهم محدوداً. أما بالنسبة للمشرق فيشار من بين المنابر إلى جريدة “العروة الوثقى” التي أنشأها الأفغاني في باريز، وإلى مجلة “المنار” التي أسسها محمد رشيد رضا.
رابعا: انشغال الأقطار العربية والإسلامية بعد استقلالها بمشكلات بناء هذا الاستقلال، واختلاف منظور المسؤولين عن هذا البناء وما أفرز من انحرافات في التخطيط والتسيير.
خامسا: تأثر قطاعات حيوية بهذه الانحرافات، ولاسيما ما يتصل منها بالتربية والتعليم والثقافة.
سادسا: على الرغم من ترديد مصطلح “الاجتهاد” بين زعماء الإصلاح، سواء في المشرق أو المغرب، فإن إثارته كانت سطحية، إذ لم تعمق الدعوة إليه، والعمل على بلورة هذه الدعوة برؤية واضحة ومنهج متحرر وفكر متنور، وبتكوين جيل من العلماء المؤهلين لخوض غمار الاجتهاد وما يتطلب من إمكانات وأدوات، في طليعتها التمكن من العلوم الإسلامية وكذا العلوم العصرية التي تحتاج إلى مواصلة الاستفادة منها بالترجمة.
وعلى الرغم من هذه العوائق التي حالت دون تحقيق اجتهادات إصلاحية، فإنها، على ما يبدو لي، كانت دون ما يواجهه الفكر الإسلامي اليوم من إكراهات داخلية وتحديات خارجية، وما يعانيه من تشتت وتمزق وتخبط في متاهات وتجاذبات سياسية واجتماعية، وعجز عن الاستفادة من العالم المتقدم في فكره وإنتاجه، على كثرة وسائل التواصل المتوافرة. ومن ثم فإنه يمكن القول بأن الحركة الإصلاحية في السابق كانت تحاول التوسل ببعض عوامل النهوض، كإرسال البعثات العلمية إلى الخارج وإدخال المطبعة وبعض التنظيمات الإدارية، وإن لم تتمكن من تحقيق هذا النهوض بما يخرج من التخلف ويساعد على مواكبة الغرب.
لذا، فإن الأمر يحتاج اليوم إلى إجراء نقد ذاتي، لوضع اليد على تلك العوائق وغيرها، والاهتداء إلى وسائل تجاوزها وإزالتها بإرادة ثابتة صادقة وبرؤية علمية متفتحة، والتمكن بعد ذلك من إبداع مشروع إصلاحي متكامل، يلتئم لوضعه وتنفيذه علماء الأمة وحكماؤها، في سعي إلى التقارب والتآلف، بعيداً عن جميع التناقضات التي نتخبط فيها وكل أشكال الصراع القائمة فيها والفتاكة، مع الانفتاح الفعلي على ما عند الآخر، وما به أحرز التفوق الحضاري والثقافي، وكذا مع التشبث بالهوية العربية والإسلامية في قيهما ومقوماتها بتسامح واعتدال واتزان، ولكن بروح أصيلة وأدوات تحديثية.

ـ تحتل اللغة العربية وما يتصل بها من قضايا التعليم، والبحث العلمي، والتعريب والترجمة أهمية خاصة في تصوركم الإصلاحي؛ من منطلق استبعادكم لأية نهضة علمية وحضارية حقيقية للمجتمعات العربية الإسلامية بدون لغة القرآن الكريم… وهو ما يفسر دعوتكم وتشديدكم في أكثر من سياق وأكثر من مناسبة على حيوية تدريس مختلف التخصصات العلمية باللغة العربية، وكذا استعمالها في سائر المعاملات الإدارية، والمحافل الدولية… وذلك في انفتاح علمي وظيفي واع على سائر اللغات الحية؛ عبر تبني مشروع وطني هادف للترجمة… ما هي أهم المعوقات التي تحول دون إعطاء اللغة العربية، باعتبارها اللغة الرسمية للدولة، ما تستحقه من أهمية؟ وهل من سبيل إلى تجاوز هذه المعوقات؟

تعتبر اللغة، أية لغة، أداة تواصل بين أفراد المجتمع الناطقين بها، ووعاء فكرهم وثقافتهم، ومقوماً بذلك أساسياً لهويتهم، بل رمزاً لهذه الهوية قد تزيد أهميته والتمسك به حين يرتبط بمعتقداتهم وما لهم بها من ثوابت ومقدسات. وذلكم هو حال اللغة العربية التي تزيد على ذلك أنها لغة حية ودولية تحتل الموقع الرابع، باعتبار عدد المتحدثين بها بعد الصينية والإنجليزية والإسبانية، وأنها أداة التواصل الديني عبر القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، لنحو مليار ونصف من المسلمين، وأنها هي اللغة الأم لما يقارب خُمس هذا العدد من العرب الذين هي لغتهم الأصلية والرسمية.
ومعروف أن هذه اللغة عرفت نمواً كبيراً وتطوراً فائقاً في ظل الازدهار الثقافي والحضاري الذي عاشه العرب والمسلمون، وقطفوا ثماره المعرفية، متوسلين بكل ما أعانهم على ذلك بالاقتباس والترجمة مما في ثقافات الآخرين وحضاراتهم، إضافة إلى ما أبدعوه، مما وسع لغتهم وأغناها، ويسر لهم إمكان استيعاب كل جديد وما يحمل معه من مصطلحات.
وما أن أخذ هذا الازدهار في الفتور ثم الضعف، بحكم ما تعرضت له المجتمعات العربية والإسلامية من تقهقر وانحطاط، حتى أخذت لغتها تعاني، سواء من حيث متنها الذي كان يتقلص، أو مصطلحها العلمي الذي كان ينقص، والذي كان يتجدد عند الآخرين، مواكباً ما كانوا يبتدعون ويخترعون في مختلف المجالات.
وكان أن تجسدت هذه الظاهرة الأليمة على مستوى التعليم والبحث العلمي، وتجلت على الخصوص في تدريس المواد العلمية باللغة الأجنبية في جل البلدان العربية، بدعوى عجز اللغة العربية عن تعريبها. وليس هذا فحسب، بل أصبحت الإنجليزية في معظم الأقطار الشرقية، والفرنسية في أقطار المغرب العربي، على عكس ما تنص عليه الدساتير، هي لغة الإدارة والتحاور في المنتديات والمؤتمرات وحتى الإعلانات الإشهارية وكثير من البرامج الإعلامية التي أصبحت، حين تريد استعمال العربية، تغرق في الأخطاء اللغوية والنحوية، ثم هي غالباً ما تلجأ إلى العاميات واللهجات المحلية.
وعندي أن المسؤولية في هذا الواقع المزري تقع على الجميع؛ لأن الخروج منه أو تغييره يقتضي، بدءاً من الجهات العليا، إرادة قوية ورؤية واضحة، لوضع مشروع كالذي ذكرتَ في سؤالك، يكون هادفاً للنهوض باللغة العربية، وحمايتها، وفرض احترامها، وجعلها أداة للتعليم والإدارة والإعلام، ويسند تخطيطه وتنفيذه لخبراء اللغة العربية وعلمائها، والمتخصصين في مختلف العلوم والمعارف، والساهرين على شؤون المجتمع كافة.
وإني لأود الإلحاح في مجال تعريب مصطلحات مختلف العلوم، إلى المسؤولية التي يتحملها المتخصصون فيها، أولئك الذين عليهم أن يتخلوا عن القول بعجز العربية في هذا المضمار، وأن يبذلوا جهوداً حثيثة في وضع مقابل لتلك المصطلحات، مع الاستعانة بالخبراء اللغويين، لجعل الصيغ المعربة تطابق قواعد اللغة العربية ومقتضياتها عامة.
وهو ما يتطلب إنشاء مراكز للبحث العلمي واللغوي، وتطبيق ما تصل إليه، على أن تهتم بإعادة النظر في المعجم العربي، بإضافة الألفاظ الجديدة إليه، وتخفيفه من المهمل الذي يثقله، وكذا مراجعة القواعد النحوية والصرفية لتصفيتها من بعض التعقيدات، ولجعلها سهلة التناول والتلقي والتداول بين أجيال المتعلمين الناطقين بالعربية، وكذا الراغبين فيها من غير الناطقين بها.
وهي أهداف كانت المجامع اللغوية، وما زالت، تسعى إلى بلوغها، والتغلب على عوائقها، وتبذل جهوداً كبيرة في ذلك. وإننا لنأمل أن تتقوى هذه الجهود بأكاديمية محمد السادس للغة العربية التي يتطلع الجميع إلى ظهورها، بعد أن صدر ظهير شريف بإنشائها قبل خمس سنوات، وتمت الموافقة عليها بالإجماع.
وإذا ما تحقق شيء من هذا، بدءاً من الإرادة التي هي الخطوة الأساسية، فإن اللغة العربية ستتمكن من التخلص من كثير مما تعانيه في التعليم في جميع مراحله، وكذا في الإدارة والإعلام والحياة العامة، ليس فقط على النطاق المحلي أو الإقليمي، ولكن كذلك على المستوى الدولي الذي يكفي لإبراز ما يعانيه أن أشير إلى أن الدول العربية تدفع أموالاً باهظة للأمم المتحدة كي تكون اللغة العربية أداة في جميع محافلها. وهو ما يجعل المنظمة توفر تراجم تحريريين وفوريين للنقل من هذه اللغة وإليها. ومع ذلك يلاحظ أن كثيراً من المتحدثين العرب في هذه المحافل يلجؤون إلى لغة أجنبية. وذلكم لا شك عبث، إن لم يكن هو العبث بعينه.
على أن الاهتمام باللغة العربية، على هذا النحو،  لا يعني عدم العناية بتدريس لغة أو لغات أجنبية، مع عناية خاصة بتلك التي غدت أداة التواصل في مجالات علمية عالمية، ولاسيما الإنجليزية والإسبانية.
** ** **
ولعلي بعد ذلك وفي ختام هذا الحوار، أن أؤكد أن الحلول المقترحة لبعض المشكلات التي أثرتَها، مشكوراً، في أسئلتك، هي ليست حلول اليائس، كما قد يتبادر إلى الذهن، ولكنها حلول المتفائل الذي تدفعه الغيرة على الأمة التي ينتمي إليها، وتملأه الثقة في إمكاناتها الهائلة، وفي قدرات أبنائها على النهوض بها وجعلها تواكب البلدان الغربية المتحكمة في بناء التقدم، إن لم أقل تنافسها في إقامة هذا البناء.

د. عباس الجراري

عميد الأدب المغربي الدكتور عباس الجراري عالم مغربي موسوعي تنوعت مجالات إنتاجه من النقد الأدبي، إلى أدب الرحلة، والسيرة الذاتية، والشعر، والتراجم، وتاريخ الفكر والأدب، وقضايا الفكر الإسلامي..

شغل العديد من المناصب والمهام الإدارية منها:

– أستاذ بجامعة محمد الخامس منذ 1966 .

– أستاذ بالمدرسة المولوية.

– عميد كلية الآداب، جامعة القاضي عياض بمراكش.

– عضو مكتب أكاديمية المملكة المغربية.

– مستشار صاحب الجلالة الملك محمد السادس منذ سنة 2000 .

من أعماله الأدبية والفكرية:

– القصيدة: الزجل في المغرب، 1970.

– من وحي التراث، 1971.

– الثقافة في معركة التغيير، 1972.

– وحدة المغرب المذهبية، 1976.

– الأدب المغربي من خلال ظواهره وقضاياه، (1986-1982-1979).

– خطاب المنهج، (1995-1990).

– الثقافة من الهوية إلى الحوار، 1993.

– الذات والآخر، 1998.

– بقايا كلام في الثقافة، 1999.

– هويتنا والعولمة، 2000.

– الحوار من منظور إسلامي، 2000.

– قضايا للتأمل برؤية إسلامية، 2000.

– الإصلاح المنشود، 2005.

حصل على العديد من الأوسمة والجوائز، كما كرمته العديد من الجهات الوطنية والأجنبية..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق