وحدة الإحياءقراءة في كتاب

قراءة في كتاب: “نقد العقل الأخلاقي العربي” للدكتور محمد عابد الجابري

ما كان من الممكن أن تخصص مجلة “الإحياء” ملفها لهذا العدد لمقاربة “نظام القيم وسؤال الأخلاق” دون أن تقف على أطروحتين فكريتين مرجعيتين حول الموضوع؛ الأولى للمرحوم محمد عابد الجابري من خلال مؤلفه التأسيسي الذي عده الباحثون العدول أهم ما أنتجه الفكر العربي الإسلامي المعاصر في بابه؛ “العقل الأخلاقي العربي: دراسة تحليلية نقدية لنظم القيم في الثقافة العربية”. وفي هذا الإطار نقدم لقرائنا الأعزاء مطارحة فكرية نقدية عميقة لأهم أفكاره وقضاياه تفضل بها المستشار طارق البشري،  وهو مفكر أصيل من طينة الجابري علما وخلقا درج أهله بالديار المصرية على نعته بـ”الحكيم”..والثانية للمفكر طه عبد الرحمان، وبوجه خاص من خلال كتابه “سؤال الأخلاق”، وهي الأطروحة التي سنخصها بدراسة مستفيضة في ملف العدد المقبل.

هذه الجدية في النظر، وهذه الصرامة في المنطق، وهذا العكوف على العمل، وهذا الاحترام للنفس كاتباً وللغير قارئاً، هو ما تعودناه مع محمد عابد الجابري، يحتشد للموضوع الذي يبحثه من جوانبه التي تخصص فيها، ويتقدم للقارئ لا بالموضوع الذي يبحثه فقط، ولكن بالأدوات المنهجية التي يتعامل مع موضوعه بها، فيعرضها واضحة بما تستدعيه من منطق ومن أسلوب تدليل ومن ترتيب سياق.
والكتاب الذي قدمه إلينا الجابري أخيراً، هو الكتاب الرابع من مجموعة المؤلفات التي خصصها في “نقد العقل العربي”. كان أولها عن تكوين العقل العربي، وجاء ثانيها عن بنية العقل العربي، وخصص ثالثها في العقل السياسي العربي، ثم جاء هذا الأخير بحثاً في العقل الأخلاقي العربي: دراسة تحليلية نقدية لنظم القيم في الثقافة العربية. ونحن عندما نتكلم عن أي مجال من مجالات الفكر أو النشاط في تاريخنا السابق، لا نميز كثيراً بين ما هو عربي وما هو إسلامي. والعنصر العربي استوعب في الحضارة الإسلامية، كما استوعب فيها العنصر الفارسي والعنصر التركي، وذلك منذ تداخلت هذه البقاع والشعوب مع انتشار الإسلام وتخلل بعضها بعضاً، في الفكر والثقافة والمكونات النفسية الجماعية، وتداخلت حقباً أيضاً في النخب السياسية والاجتماعية. أقول ذلك لأشير إلى أننا عندما نتكلم عن العقل العربي فإننا نكون باحثين بالدرجة ذاتها عن العقل الإسلامي، أقصد العقل البشري الإسلامي، وعندما ننظر في الحضارة العربية فإننا نكون بالدرجة ذاتها تقريباً ناظرين في الحضارة الإسلامية.
وفي بداية قراءتي للبحث، فإنني أضع بين يدي القارئ عدداً من الملاحظات أجدها ذات سيطرة على طريقتي في التفكير عندما أنظر في أي كتاب أو مؤلف يتحدث عن تاريخ الفكر أو حركة الفكر أو أي من جوانب هذه الأمور.
أولاً: إن البحث في تاريخ الفكر أو حركته، في أي من المجالات النوعية لهذا الفكر، ليس مورده فقط مؤلفات المفكرين الذين اشتهروا في هذا المجال النوعي، إنما مورده أيضا حركة المجال الاجتماعي الذي ينشط فيه هذا الفكر ويتحرك. والناس لا تعبر عن فكرها بالحديث عنه فقط، وإنما تعبر عنه بممارسته وبالتعامل وفقه. فمن يدعو الناس للصلاة نقول إنه صاحب فكر يدعو إلى الصلاة، ومن يبني مسجداً يتعين أن نقول أيضاً إنه صاحب فكر يدعو إلى الصلاة، فإذا كان هذا الذي بنى المسجد ملكاً أو والياً يريد فقط أن يخلد اسمه ببناء المسجد، فنقول إن اختياره بناء المسجد يدل على سيادة فكر يدعو إلى الصلاة في وقته. وقصدي في عمومه، أننا ينبغي ألا نكتفي، في التنقيب عن الأفكار، بالبحث في كتب كبار المؤلفين في المجال التخصصي أو النوعي ذاته لهذا الفكر، إنما يتعين أن نستشرف حركة الواقع وأساليب التعامل ونوعياته ووجوه النشاط، لنستخلص منها ما نكشف عنه من مفاهيم وقيم وأفكار، وما يكمن وراء الأحداث من أي من ذلك.
نحن –مثلاً- عندما نبحث في حركة التجديد في الفكر الإسلامي الحديث، نجمع كتابات محمد عبده ورشيد رضا والطاهر بن عاشور، ونكتب عن كل منهم وعن نتاجه التأليفي وعن تأثر كل منهم بمن سبقوه من جنسهم وتأثره ببيئته وأثره في اللاحقين من أمثالهم، ويكون هذا هو تاريخ الفكر التجديدي عن الإسلام في العصر الحديث. ولا يكاد يفطن الباحث ولا القارئ طبعاً، أن ثمة مصادر أخرى لحركة التجديد هذه، هي مصادر واقعية وتطبيقية وحركية، نجدها في فتاوى المفتين وفي أحكام المحاكم وفي نصوص التشريعات مثلاً. كما نجدها في مؤسسات قامت على هذا الأمر، مثل دار العلوم بمدرسيها وطلبتها، ومثل مدرسة القضاء الشرعي بمدرسيها وطلبتها… وهكذا.
وعندما نبحث في تاريخ الفكر العام في الفترة ذاتها، نذكر طه حسين والعقاد وحسين هيكل وشبلي شميل وفرح أنطون وأقرانهم، ونغفل عن أناس في مستويات قريبة منهم كانوا صنواً لهم في حياتهم، وإن كانوا على شهرة أقل وذيوع أضيق نسبياً، ثم نغفل أيضاً عن ما يستفاد من فكر اجتماعي أو سياسي مما يتجمع من مواقف ومعاملات وأحداث وتعليقات يمكن التقاطها من كتب التاريخ والخطب والبيانات والبرامج، وما عسى أن يكون موجوداً من الوثائق ومن المحاضر والمضابط للجمعيات والمجالس وغير ذلك. ولكل عصر، في حدود ما احتفظ التاريخ لنا من وقائعه، أساليب بحث خاصة به في هذا الشأن. ولحسن حظنا فإن حضارتنا العربية الإسلامية عرفت الكثير مما دُون وحفظته الكتب والموسوعات والتفاسير والحوليات والخطط.
ولا ننسى في هذا الصدد أن نصر محمد عارف ذكر في كتاب في مصادر التراث السياسي الإسلامي أنه توصل إلى أن ثمة 307 من المصادر التراثية المباشرة في علم السياسة كما عرفه المسلمون، وأنه لم يطبع من هذا العدد حتى الآن إلا 105 كتب، وأن منها ما لا يزال مخطوطاً في 127 كتاباً، وأن الباقي لم يعرف بعد مكان محدد له. أما بالنسبة لمصادر التاريخ المعاصر فهي في ظني لا تكاد تقع تحت حصر، بالنظر إلى الصحف والمطبوعات، ومحاضر المجالس النيابية والجمعيات وغير ذلك.
ثانياً: اهتم العقل الحديث في الغرب بالتفتيش عن “النظرية” وبذل الجهد لإقامة “البناء النظري” في أي من مجالات الفكر. وصرنا نتعامل به مع “النظرية السياسية”، و”النظريات الاجتماعية” و”النظريات الاقتصادية” و”النظريات القانونية”. وهكذا كثر هذا الوجه من وجوه النشاط الفكري في مجالات المعارف المختلفة، وظهرت الصياغات المتعددة للنظريات من حيث المعايير المختلفة للطابع الذي يقوم عليه كل منها، وللتصنيفات التي تقصد بها، ولرسم العلاقات التي تكشف الإشارة إليها. والنظرية بشكل أو بآخر وفي الإطار العام للتعريف بها، هي تصور ذهني يصاغ في هيئة ترابط منطقي ويعتمد على التناسق بين عدد من الافتراضات أو النتائج المعتبرة، أو التناسق بين عدد من الظواهر والعلاقات التي أسفر عنها التحقق التجريبي أو الاستنباط العقلي.
ما يعنيني في هذه المسألة أن “النظرية” نشط الاهتمام بصياغتها في المجالات المختلفة؛ لأنها تساعد في القيام بوظيفتين أساسيتين: أولى هاتين الوظيفتين: أن صياغة النظرية تتضمن تعميماً لعدد من النتائج المتحققة والمختبرة أو المتفق عليها، تعميماً إن كان قد جرب استخلاصه بالاستقراء لعدد مما تحقق أو جرب الاتفاق عليه، فهو يفيد في تفريع الأحكام أو تبين العلاقات أو توقع النتائج، فيما لم تجر عليه التجارب وما لم يبلغ الحد الأدنى المعتبر من الاتفاق عليه: أي أنه بما اختبر واعتبر به يصل إلى قواعد عامة، يمكن أن يفيدنا بالنظر إلى ما لم يختبر ولا اعتبر به بعد من ظواهر وحالات وعلاقات.
والوظيفة الثانية: وهي التي تعنيني الإشارة إليها هنا، وما كتبتُ ما كتبتُ إلا لذكرها في هذا المقام، هي أنه بالنسبة لمجال الدراسات الإنسانية، فإن النظريات تقوم بوظيفة مهمة تتعلق بـ “الإسناد الشرعي” للظاهرة أو للفعل أو للعلاقة. فمع سيادة النظر الوضعي اللاديني في الغرب في العصر الحديث، كان لابد للعقل من أن يفتش عن سند متبلور يجدل منه نظرة إلى الظواهر ويحكم به عليها، فيكون هذا السند هو معيار الاحتكام وهو مورد الحكم بالحسن والقبح. والصياغة النظرية تقوم بهذا الدور الوظيفي، فنحن لا نقول إن هذا صواب وذلك خطأ؛ لأن الله سبحانه أمرنا بهذا ونهانا عن ذلك، ولكننا نقول إنه صواب أو خطأ؛ لأنه الحق الطبيعي أو الأمر المتعارف عليه أو ما اهتدى إليه العقل أو ما أسفرت عنه خبرة الإنسان التاريخية أو ما شابه ذلك. ونحن نحتاج إلى أصل مرجوع إليه: أي مرجعية، تستند إليها وتتفرع منها القيم ومعايير الأحكام ونظم العلاقات والمعاملات والسلوك.
الوظيفة الأولى قام بها ما نسميه القواعد العامة أو الأصول المستقرأة من الفروع دون احتياج إلى هذه الأبنية النظرية الحديثة. ولكن هذه الأبنية النظرية الحديثة تولد الاحتياج الضروري لها، لا لكي تقوم مقام القواعد العامة والأصول الكلية فقط، ولكن لكي تقوم بوظيفة الإسناد الشرعي، عندما استبعد الإسناد الشرعي الديني وحل محله في الفكر الغربي الحديث الإسناد الوضعي، الذي عبر عن ذاته في كل من مجالات العلوم الإنسانية لدى الغرب الحديث.
وقد تكون في هذه الملاحظة إجابة عن سؤال يجول في الصدور كثيراً، وهو لماذا لم يصنع المفكرون المسلمون نظريات، سواء في مجال الفقه الإسلامي أو في مجال فروع المعرفة الأخرى. أقول إنهم كانوا يكتفون بما يسمى بالقواعد الشرعية أو الأصول الكلية أو “الموافقات” حسبما أسمى الشاطبي كتابه، و”الفروق” حسبما أسمى القرافي كتابه. كانوا مكتفين بهذا الجانب دون الجانب الخاص بالإسناد الشرعي؛ لأن الدين والموقف الإيماني كانا يؤديان، ولا يزالان يؤديان، هذه الوظيفة في الفكر الإسلامي.
ثالثا: نحن المسلمين أمة خرجت من كتاب، هو القرآن الكريم، ثم الحديث النبوي الشريف، هذا افتراض أولي وهو حقيقة تاريخية أيضاً، فما من فروع من فروع العلوم التي نشط فيها المسلمون، وما من تكوين عقلي ولا من شكل وجداني إلا وكانت العمدة فيه في القرآن الكريم. وإن في تفاسير القرآن وشروحه، وفي فقه أحكامه ودلالات عباراته، وفي تذوق لغته وبيانه، في كل ذلك وغيره أودع المسلمون القدر الأجلّ من ثقافتهم وحضارتهم، ونحن عندما نفتش عن أي أمر يتعلق بالحياة الثقافية للمسلمين وعندما نتفحص سلوكهم وأخلاقهم ومنطقهم ووجهات نظرهم وأنماط علاقاتهم ونماذج معاملاتهم، إنما نبحث عن ذلك في هذه المعارف والجهود الذهنية والوجدانية التي تناقلتها الألسن بالرواية ثم دونتها الأقلام من بعد.
إن معجزة الدين الإسلامي كما استبانها المسلمون كانت في القرآن، وهو كتاب ونص، لذلك فإن عبقرية المسلمين تجلت أوضح ما تجلت في هذه العلوم والمناهج التي تتعامل مع النص المحرر، جمعاً ثم تدويناً، وهو نص الكتاب الكريم المنزل ثم نصوص السنة من بعد، سواء من حيث تكشف أصول الشريعة الحاكمة للجماعة، أو من حيث التبين العقلي لدلالات العبارات النصية، أو من حيث التحقق العقلي أيضاً من صدق العبارات ودرجة الثبوت، قطعية كانت بالتواتر مثل القرآن كله، أو ظنية مما هو دون القطعي مثل الحديث الشريف بدرجاته. وهنا نجد علم أصول الفقه وعلم مصطلح الحديث، وتطبيقات ذلك في اجتهادات الفقه وتحقيقات روايات الحديث. ثم بعد ذلك هذا الوهج الوجداني الذي يملأ القلوب بما يثيره الإيمان من أشواق وأذواق، حسبما نستشعره في التصوف.
وإن الثقافة الإسلامية أو الحضارة الإسلامية أبوابها كثيرة ومتعددة، ولكن أوسع هذه الأبواب في ظني هما بابان: باب الفقه من حيث إنه أجل ما تمثلت فيه العبقرية الإنسانية للمسلمين في نشاطهم العقلي، ومن حيث إنه أيضاً باب يرده جميع الناس مستفتين عن وجوه نشاطهم ومعاملاتهم ومتقاضين حول حقوقهم اليومية. والباب الثاني هو باب التصوف بما فيه من أحوال القلوب ووهج الصدور وما تتغذى به الأرواح من صنوف الفنون والآداب.
وإن الفلسفة الإسلامية وعلم الكلام، على وجه التخصيص، لهما في ظني باب هو من أضيق الأبواب في هذا الشأن، وموضوعه لا ينفتح على الحياة العملية، ورجاله نخبة جد متخصصة، وقضاياه لا تكاد تمس حياة الناس في مجتمع حل مسألة علاقة الفرد بالكون بالموقف الإيماني الديني، وحل مسألة المرجعية الشرعية للنظم والمعاملات بالموقف الديني الإيماني أيضاً. ونحن نلحظ أن المشتغلين بالفقه وأصوله والمشتغلين بعلوم القرآن والحديث يكادون يكونون مستغنين عن الفلسفة الإسلامية موضوعاً وقضايا وفروضاً. ورغم ذلك فنحن نلحظ –مثلاً- أن فيلسوفاً عربياً كبيراً هو زكي نجيب محمود في كتابه: “المعقول واللامعقول”، عندما يشير إلى الجهود العقلية للمسلمين يركز البصر بما يشبه الانبهار على علم النحو الذي صاغه سيبويه وعلم العروض الذي صاغه الخليل بن أحمد، ولا شبهة في أن ثمة دواعي للانبهار بهذا الضبط العقلي الرصين، ولكن وجه تعجبي أنه لا يكاد يشير إلى دور الفقه وأصوله ودور علم مصطلح الحديث بحسبانهما من علوم العقل الرصين. والحقيقة أن بحوث الجابري وحسن حنفي كانت من أهم ما مهد لانفتاح بحوث الفلسفة الإسلامية على هذه الجوانب.
أما عن التصوف، الباب الكبير، فقد اهتمت به الفلسفة الإسلامية، ولكنها بطبيعة مجال اهتمامها كانت أكثر اهتماماً بجهود المفكرين المتصوفة ذوي النظر الفلسفي مثل الحلاج وغيره بأكثر من جهود المفكرين المتصوفين الموفقين بين “أهل الشريعة وأهل الحقيقة” مثل الجنيد؛ لأن باب الفلسفة الإسلامية، في ما أحسب، باب ضيق لا يكاد يُطلعك على “صحن المسجد” إلا من بعض أركانه.
ومن جهة أخرى، فإن الأدب في صورة الشعر والنثر الفني، قد تغافل المتخصصون فيه عما يتعلق بالشعر الصوفي وشعر المدائح النبوية، وما يتعلق بالأدعية والأوراد والحكم، وفيها كلها من صور الأدب ما يفوق غيرها كثيراً في الجوانب الأخرى. وقصروا نشاطهم على المدائح والمراثي والغزل وحتى على الفخر والأهاجي، مما كان -لاشك- جمهوره أضيق كثيراً من جمهور أدب الصوفية.
رابعاً: نحن عندما ننظر في فكر قوم معينين ننظر إلى الأفراد الذين يجمعونه ويدونونه ويستخرجون منه القواعد. وان من يضعون القواعد لواحد من فروع النشاط الفعل أو الإنساني عادة لا يبتكرون هذه القواعد ولا ينشئونها من عدم، وهم في ما يضعون لا يجبرون أحداً على اتباعهم والالتزام بما يقصدون من قواعد؛ لأنهم في العادة مفكرون لا يجبرون أحداً على اتباعهم والالتزام بما يقصدون من قواعد؛ لأنهم في العادة مفكرون وعلماء لا يملكون وسيلة جبر ولا إلزام. إنما حجية ما يصنعون لدى الآخرين ترد من أنهم اكتشفوا الموجود وصاغوا ما هو سابق الالتزام به، فهم يعبرون ويقننون ما تعارف الناس عليه من قبل وما تعارف عليه أهل الصنعة في هذا الفرع من فروع النشاط العقلي والوجداني الذي تكلموا فيه.
فمثلاً كان الشعراء ينظمون الشعر نظماً موزوناً وبقافية قبل أن يأتي الخليل بن أحمد بعلم العروض. وان ما صنعه الخليل بعقليته العلمية الرياضية القادرة على التعميم والتصنيف وإدراك الفروق والموافقات بين الظواهر، أنه استخلص من شعر من قد سلف الأوزان التي كانوا جروا عليها، وصاغها في صيغة البحور القائمة على التفعيلات. ومثلاً كان العرب يتعارفون في كلامهم بشكل كل لفظ حسب موقعه في الجملة وبما يفضي إلى المعنى المحدد له، فيرفعون الفاعل ضماً أو بالواو وينصبون المفعول بالفتح أو بالياء، وإن أخطأ القائل في ذلك انقلب المعنى لدى السامع، وكل ذلك جرى بالتعارف والالتزام قبل أن يستخرج سيبويه علم النحو ويصوغه بالعبارات المجردة العامة ويحدد الفروق والموافقات. ومثلاً فإن الفقهاء كانوا يستخرجون الحكم في الحالة غير المنصوصة على الحكم في الحالة المنصوص عليها بجامع اتحاد العلة، وكانوا يدركون نطاق الحكم في عمومه وخصوصه، وذلك قبل أن يضع الشافعي علم أصول الفقه استخراجاً مما كانوا يفعلون وصياغة منضبطة لما كانوا يصنعون، وعبر بالقواعد العامة عن واقع ما يمارسون، وصاغ ذلك في عبارات عامة تترسم قواعد المنهج. والقياس مارسه أبو حنيفة قبل أن يولد الشافعي. ويترتب على ذلك أمر مهم، وهو أن الممارسة تسبق الفكر، والممارسة الفكرية الجزئية تسبق الممارسة الفكرية العامة التي تقوم على تقعيد القواعد، والحركة تسبق التعبير عنها في النشاط البشري، والحركة تجري منضبطة وإلا ما أنتجت تحقيقاً لغاية، وهي تجري منضبطة قبل أن يصاغ وجه الضبط لها في قواعد محددة.
ولذلك فنحن عندما ننظر في الممارسة العقلية، لا يمكننا الزعم بأنها بدأت بمن وضعوا القواعد لها ولا بمن صاغوا التعبير عنها، إنما نستخلصها من واقع ممارسات السابقين. ونعتبر بأقوال المقيدين لها لا بحسبانهم أنشأوا ما قالوا فينسب إلى زمانهم دون من سبقهم، ولكن بحسبان أنهم عبروا عن ممارسات السابقين فيرتد عملهم إلى كونه كشفاً لأفعال من قد سلف، إلا أن تقوم بيّنة على غير ذلك فتذكر. ولهذا الأمر أهمية تبدو لي مهمة في حدود الموضوع الذي نعرضه.

هذه الملاحظات أردت أن أفتح بها حديثي القصير عن الكتاب الكبير الذي بين أيدينا؛ لأن الجابري افتتح الكتاب بمجموعة من المقدمات المنهجية التي قامت على أساسها “عمارة” الكتاب، من حيث الأساسات والأركان والدعامات وهندسة الإنشاء، ومن حيث تسويغ البدايات وذكر وجوه التتابع. وأقر بأنني في ما ذكرته الآن أختلف مع الكاتب في منهج هيكلته لهذا المؤلف؛ لأن الكتاب بالمقدمات المنهجية التي أوردها في القسم الأول منه جهد على أن يسوغ للقارئ أن يبدأ النظر في العقل الأخلاقي العربي الإسلامي، بما بعد سنة 140ه‍، وأن يبدأ بعصر التدوين والكتابة، رغم أن العلم وجد قبل ذلك معتمداً على المرويات، وكانت الصحائف المدونة تقوم بدور ثانوي مساعد لنقل العلم بالرواية بالقول والسماع. وكانت المخطوطة المدونة لا يحتج بها إلا بواسطة ثبوت السماع لها من الثبت الثقة العادل غير المجروح، ووجدت الرواية الشفهية مناهجها الخاصة في التثبيت والتوثيق.
فإذا كان الكتاب حصر بحثه في ما أسماه “الثقافة العالمة” واضطره ذلك إلى “اختيار عصر التدوين كبداية ومنطلق” فإن العلم أو الثقافة العالمة لم تبدأ بعصر التدوين. والتدوين الذي بدأ في سنة 140ه‍ حسبما يذكر الكتاب هو تدوين الحديث الشريف، ولكننا نلحظ أن القرآن الكريم دون في عهد أبي بكر الصديق في السنتين التاليتين لوفاة الرسول –صلى الله عليه وسلم- فضلاً عن أن الكتاب الذي نناقشه لم يثبت أثراً للحديث الشريف في العقل الأخلاقي العربي، بمعنى أنه لم يركز اهتماماً خاصاً على هذا المورد في تكوين العقل الأخلاقي عند المسلمين، ولا أفرد لذلك بحثاً مخصوصاً. وكذلك الأمر بالنسبة للقرآن الكريم لا يكاد يلحظ إفراد لذكر أثره التكويني في هذا العقل، ومن ثم فإن الاعتبار بتاريخ تدوين الحديث الشريف كعلامة بدء للبحث في العقل الأخلاقي العربي هو اعتبار لا تؤيده النتيجة المستفادة من هذا التحديد التاريخي؛ لأن المؤلف انتقل هنا مباشرة إلى الفكر الفارسي، فهو اعتبر بتاريخ تدوين السنة النبوية ليبدأ لا بالنظر في أثرها ولكن ليبدأ منتقلاً مباشرة إلى الفكر الفارسي الفكر الديواني لعبد الحميد الكاتب وغيره وأدب ابن المقفع وغير ذلك.
ثم إن الكتاب في مقوماته المنهجية بدأ بالكتب والمؤلفات، بما رآه ذا دلالة في رسم أسس العقل الأخلاقي، ولم يستخلص سمات هذا العقل من الممارسات العقلية الجزئية والكلية التي يمكن أن نستدل عليها من المأثورة من الأقوال والأحاديث والوقائع التي انتقلت بالرواية طبقة إلى طبقة حتى دونت. وما أظنه بالترجيح، أن الأمر الذي يستفاد من الواقع المعيش يكون أبين دلالة وأصدق تعبيراً وأبعد عن شبهة الاصطناع من الأقوال التي تعد سلفاً للإفادة الصريحة عن ذلك الأمر.
لقد ساغ تصميم “عمارة” البحث على أن تبدأ بما بعد سنة 140ه‍، وأن تبدأ بالأثر الفارسي في العقل الأخلاقي العربي بما يستغرق نحو 125 صفحة، ثم الأثر اليوناني بما يستغرق نحو 170 صفحة، ثم يرد التصوف في نحو 60 صفحة، ثم يتلوه الحديث عن “الموروث العربي الخالص” في نحو 45 صفحة، ثم “الموروث الإسلامي..” في نحو 85 صفحة. بمعنى أن الكتاب أظهر المضاف قبل أن يبين المضاف إليه، وتحدث عن أثر الوافد الخارجي قبل أن يكشف لنا عن الأصيل والموروث الذي تأثر، وهو الذي يقوم بعملية الفحص له والتبيين والتحليل. كما أن الأثر الخارجي على العقل العربي عولج في نحو 300 صفحة، فضلاً عما ورد في التصوف عن هذا الأثر الخارجي. وعولج “العربي الخالص” والإسلامي في نحو 130 صفحة في آخر الكتاب، وقد اقتضى تأخيرهما إلى آخر الكتاب 130 صفحة في أوله تشمل القسم الأول من الكتاب، وتسوغ المنهجية التي اقتضت هذه الزحزحة للموروث العربي الخالص والموروث الإسلامي الخالص من أول الكتاب إلى آخره.
إن الكتاب في تفسيره لهذا الأمر يذكر أنه إذا كان “من الأمور العادية” أن تلجأ الثقافة إلى نظام القيم الخاص بموروثها: أي موروثها العربي الإسلامي الخالص، فإن الأمر غير العادي أن “تضطر” في لحظة ما إلى الاعتماد على موروث آخر فارسي أو يوناني أو صوفي، ويقول إن هذا ما حدث، ثم جاء “التأليف” في قيم الموروث العربي الإسلامي “الخالصين” باعتباره رد فعل على هيمنة نظم القيم الوافدة.. ولم تتجاوز مرحلة رد الفعل إلى مرحلة العمل الأصيل إلا بعد قرون.. والكتاب الذي نناقشه في هذا التفسير يفترض أنه في ما قبل “الوفود” الفارسي واليوناني، كان ثمة فراغ، وأن استدعاء “الخارج” كان أمراً غير عادي، وهو طبعاً أمر غير عادي إن كان حدث كما يصوره الكتاب، وكونه غير عادي لا يفسر شيئاً؛ لأنه يُبقي السؤال قائماً، وهو لماذا حدث هذا الأمر غير العادي، والجواب هو أنه كان ثمة فراغ أو أزمة. اختار الكتاب التفسير بالأزمة.
فأحداث “السقيفة” بعد وفاة الرسول –صلى الله عليه وسلم- (في ما يذكر الكتاب) هي أزمة، والفتنة الكبرى على عهد عثمان هي أزمة، وما أسماه “صراع الغنائم” على عهد عمر هو أزمة، ثم استطرد إلى ظهور الفرق وصراعات السياسة، ثم رد الأمور كلها إلى السياسة وصراعات المجتمع حتى “أصبحت القيم الدينية نفسها بل الدين نفسه موضوعاً للسياسة” وعرض الأزمات في هذا الجزء من التفسير فيه شيء من التناثر الذي لا يفيد متصوراً متماسكاً، ولكن يبقى لدى القارئ الكثير من التحفظات التي تجعله لا يسلم بهذا التفسير. فأحداث السقيفة ليست أزمة إنما هي خلاف حسم في اليوم ذاته، وما بقي منه من آثار ينشىء شيعاً وفرقاً ولكنه لا يثير تمزقاً ولا تفتيتاً. والفتنة التي أفضت إلى مقتل عثمان هي أزمة فعلاً، ولكن عثمان هذا الذي اختلف فيه المسلمون إلى حد القتل واختلفوا بعده إلى حد الاقتتال، هم أنفسهم المسلمون الذين أجمعوا على التصديق بالمصحف الشريف الذي جمعه، وهم أنفسهم المسلمون الذين أبقوا على وحدة الدولة الإسلامية من بعد، ولم يزد الخلاف على حدود ما تصنعه المعارضة السياسية في دولة موحدة.
إن ما يذكره الكتاب تفسيراً للاعتماد على الفكر الوافد دون الموروث، لا يتأتى الاعتبار به إلا بأن يكون الموروث فارغاً أو تكون ثمة أزمة. والأزمة المسوغة لذلك هي الأزمة التي تكون أفضت إلى حد يشبه الفراغ الفكري، وذلك بأن يفضي التهافت والتهاتر في الخصام إلى حد الإفقاد الكامل للفاعلية، فتصير القوى المتخالفة من حدة الخصام ومن تساوي أطرافه مما ينتج العدم. وهذا باليقين لم يكن حال المسلمين وقتها لا على صعيد الفكر ولا على صعيد الفكر ولا على صعيد السياسة ولا على صعيد القيم والأخلاق. والصراع السياسي كان متوقعاً؛ إذ تنشأ دولة حديثة على أنقاض وحدات قبلية لا تزال آثارها قوية، فضلاً عن فتوحات في بلاد مختلفة الأديان السماوية وغير السماوية، ومختلفة الحضارات الفارسية واليونانية وغيرها، ومختلفة الأوضاع السهلية والجبلية والصحراوية، ومختلفة أنماط الإنتاج الرعوي والزراعي والتجاري ومختلفة اللغات والشعوب والتواريخ، ولذلك فإن بقاء الدولة وبقاء الشعور الجماعي بالانتماء المشترك وبالجماعة هو ما يستوجب الوقوف عنده واستخلاص مدى القوة الفكرية التي عصمت هذه الجماعة ودولتها من الانهيار والتفكك.
إن تعدد القوى السياسية لا يعتبر انهياراً ما بقيت الدولة وبقي الشعور بالانتماء للجماعة الواحدة، والتنوع الفكري لا يعتبر انهياراً ما بقيت المرجعية الفكرية واحدة، وصراع السلطة لا يعتبر انهياراً ما بقيت الدولة واحدة. وكل ذلك لا يعتبر انهياراً للقيم ولا إلغاء للعقل الأخلاقي الضابط للأعمال والتصرفات والمعاملات ووجود النشاط والمنشئ لمعايير الاحتكام وأسس التقويم. والقول بغير ذلك يعني أن نتطلب المستحيل من قيام مجتمع بغير تعدد ولا تنوع ولا تصارع ولا اختلافات فكرية وقيمية ولا فقراء ومترفين ولا معارضة. كما أنه من نافلة القول إن اختلاف أحكام القضاء لا يعتبر أزمة قيم. ولا يكون السند في الاستدلال على شيء من ذلك مما يكتبه ابن المقفع عن القضاء وعدم استقلاله أيام معاوية والأمويين، هو استناد غير كافٍ، وابن المقفع لا يعتمد مرجعاً في التاريخ ولا في الفقه، وإن اعتبر بعض ما يقول عن هذا الشأن فإنما يجري الاعتبار النسبي به بحسبانه دليلاً فرعياً وثانوياً.
إن الكتاب -الذي نناقشه- عُنون الفصل الثاني منه: “في البدء كانت أزمة القيم”، والأزمة تفيد الفراغ المسوغ للوفود الحضاري والفكري من “مناطق الضغط المرتفع” كما يقول علماء الجغرافيا، أي تنحية العنصر الموروث أو العنصر الأصيل. ولم يرد الالتفات إلى المصدرين الأساسيين للقيم وهما القرآن الكريم والسنة النبوية، بل جرت الإشارة إلى السنة النبوية فقط في معرض الحديث وضع الأحاديث الشريفة واصطناعها لخدمة مواقف سياسية. وقد حدث وقتها هذا الوضع فعلاً، ولكن الأحاديث الصحيحة معروفة ومتداولة ولها رجالها وسلاسل رواتها المعروفين والمقدر علمهم وضبطهم ومدى تثبتهم، ولا ينفسح الكلام لبيان أسماء هؤلاء من الصحابة والتابعين وتابعيهم ممن استندت حركة تحقيق الأحاديث من بعد إلى علومهم ومناهجهم في التحقيق.
ومن جهة أخرى فإن القرآن كان مجموعاً وكان مكتوباً مجتمعاً عليه وفيه الأصول الثوابت للقيم التي يتعين على المسلمين اتباعها، والمشتهر من الحديث كان هذا وضعه أيضاً. ولا أدري كيف ساغ عدم التنبه إلى هذين المصدرين عند الحديث عن قيم المجتمع والعقل الأخلاقي لها في القرن ونصف القرن الأولين من بعثة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وقد كان الإيمان بهما طازجاً واليقين بهما حاراً والنفوس المؤمنة لا تزال تتنسم عبير الرسالة المحمدية وتقوى بها على أزمات السياسة وجراحات توحيد الجماعات وامتزاجها في أمة واحدة.
يرد الأساس الثاني لتنحية الموروث العربي والإسلامي عن أن يكون له دور في القرن ونصف القرن الأولين، عند الحديث (في الكتاب الذي نناقشه) في الحرية والمسؤولية، فعرض لبعض من مباحث علم الكلام في الإرادة والحرية والمسؤولية، وفي صفات الله سبحانه، وفي أفعال البشر، بحسبان أنه كلّما نسبنا إلى الإنسان أفعاله واتصلت بإرادته وقدرته واختياره، ضاق مجال “لا فاعل إلا الله”. ويعرض هذا الفصل لرأي المعتزلة في هذا الشأن بحسبان أن الفعل الذي يقع من الإنسان بعلمه ومن قدرته وبغير ضرورة ولا إلجاء هو ما يقع تحت طائلة المسؤولية الدينية والأخلاقية والقانونية، وأن “هذه الأحكام تتعلق بأفعال الله وبأفعال العباد”. ثم يعرض للأشاعرة وموقفهم. ويبدو لي من هذا العرض أنه يرى أن واحداً من أسباب ضعف الحرية والمسؤولية يرد من الابتعاد عن فكر المعتزلة هذا، وأن هذا ما يراه حدث فعلاً لدى الجمهور والعامة على مدى القرون. وقد سيطر على ظن العقلانيين المحدثين هذا الحكم.
وفي ظني أن المعتزلة رغم نفيهم الصفات فهم قالوا بتثبيت الصفات بالنسبة لموضوع الأفعال. إن وضع حكم عام لأفعال الناس وأفعال الله سبحانه وتعريف الفعل الإلهي بما يعرف به الفعل البشري، هو مثل القول في الصفات بأن الله سبحانه سميع وبصير كسمع البشر وبصرهم، أو يده كأيديهم وعينه كأعينهم. التشبيه الأول يرد في الأعضاء والتشبيه الآخر يرد على التصرفات، والتنزيه يجب أن يكون مشمولاً به الجنسان معاً، ونحن نطلق الألفاظ الدالة على شؤوننا الدنيوية ولا نكاد نستبين غيرها، مع وجوب إدراك أن ليست لدينا أهلية التصور ولا صلاحيته لكي نصف أفعال الله سبحانه ونتصورها، فإرادة الله سبحانه ليست من نوع إرادة البشر في الفاعلية، والأوصاف ليست كالأوصاف، والتصرفات ليست كالتصرفات، وليس كمثله شيء، وليس في مكنتنا أن نصف أو نسمي أمراً يتعلق بالشأن الإلهي إلا بما اعتدنا من لغة تخاطب وتصورات وألفاظ، ولكني ينبغي أن نكون عارفين بأن ليس كمثله شيء وأن الكيف مجهول وأن السؤال عن ذلك بدعة كما قال الإمام مالك. فالمسألة محل العلاج هي في ظني غير قائمة؛ لأنه لا يمكن أن نترسم بعقولنا علاقة بين ما هو خاضع لتصورنا وإدراكنا وعقلنا وبين ما هو منزه عن ذلك وليس كمثله شيء. والأمر هنا أمر إيماني ترد وسائله المعرفية من مورد آخر؛ لأن العقل هنا بتصوراته الدنيوية يصل إلى نقطة يدور بعدها حول نفسه.
ثم ترد العبارة الأخيرة في هذا الفصل _من الكتاب الذي نناقشه _ لتضع نص التساؤل الآتي “لماذا انصرف علم الكلام وهو العلم العقلي في الإسلام عن مجال الأخلاق، مجال التشريع للعقل البشري؟ هل لأن الموضوع ليس في مجال العقل، وأنه بالتالي في مجال الشرع وحده؟”. ثم يذكر أن السؤال ينقل إلى البحث “في أساس الأخلاق في الفكر العربي” (وهو يقصد الفكر الإسلامي)، وأنه سؤال يقع في قلب “المشكلة الأخلاقية، أهم المشاكل في فلسفة الأخلاق”. وهذه العبارة بما تفيده من “اختصاص” علم الكلام بأنه العلم العقلي، هي صيغة ليست صائبة وليست صحيحة، لأن العلوم العقلية متعددة في الفكر الإسلامي، وإلا فماذا نقول عن علم أصول الفقه وعلم الفقه، وماذا نقول عن علم مصطلح الحديث، وماذا نقول عن النحو والصرف، وماذا نقول عن علم العروض، أليس كل ذلك من العلوم العقلية؟
والعبارة السابقة أيضاً تكشف في ظني عن نظر يفيد أن مجال الأخلاق هو مجال التشريع للفعل البشري، وأن هذا المجال للتشريع للعقل البشري لا يرد في مجال العقل، إنما يرد في مجال الشرع. فهو يرى أن الأخلاق إما أن تخضع لـ “العقل” أو لـ “الشرع”. وهذا النظر في ظني بعيد تماماً عن الدقة، ويتناقض مع الأسس التي قام عليها الفكر الإسلامي والثقافة الإسلامية، ذلك أن العقل البشري لم يزهُ ويزهر كما زها وأزهر في مجال الشرع، إنه استغنى -كما سبقت الإشارة- عن الوظيفة التي تؤديها النظرية بالنسبة للمرجعية الشرعية، ولكنه أعمل العقل في الاستقراء والاستنباط بما ولّد القواعد الشرعية والمنهجية الخاصة بتحقيق النصوص وتحقيق الوقائع والاستدلال وضبط المفاهيم والمفادات.
لقد تاه نظر الكتاب الذي بين أيدينا لأنه باعد بين الشرع والعقل، فجاءت “الأخلاق” لقيطة في أرض بوار؛ لأنه لا يريد أن يقترب من الشرع، ويحسب العقل بعيداً عن الشرع. إن أصول الفقه علم صنع أموراً مهمة جداً في هذا الشأن؛ لأنه أدخل العقل في نطاق الشرع وأقام من العقل همزة وصل بين المرجعية الثابتة والواقع المتغير، وبين النص المحدد والواقع المتنوع، كما أنه وضع الدين في قلب المصلحة. فبعُد مفهوم المصلحة في الفكر الإسلامي عن مفهوم المنفعة في الفكر الغربي؛ إذ وضع الشاطبي على قمة المقاصد “حفظ الدين” ثم حفظ النفس والعقل وغير ذلك من المقاصد الخمسة المعروفة. وبهذا صار الشرع معقولاً: أي يسع فكر العقل المنضبط، وصار العقل عاملاً في إطار الشرع.
هذا الفصل الجازم بين الشرع والعقل -على ما يتصوره الكتاب الذي نناقشه- وبين المنقول والمعقول هو ما به تاه موضوع الخلاق عن أن ينجذب إلى فروع العلوم والمعارف التي عرضته وناقشته وأفسحت له وتضمنت مناهج النظر فيه والاستخراج، وهي علوم الشريعة والفقه. ولأن الكتاب لم يطرق هذا الباب، فقد ابتعد عن الأسس التي يقوم عليها “العقل الأخلاقي” لدى المسلمين. وغاب عنه أظهر موردين وأوسع مرجعين للعقل الإسلامي، وهما القرآن والحديث. فلم يجد الكتاب في القرن ونصف القرن الأولين للإسلام، إلا فراغاً وعدماً أو أزمات سياسية ولدت التوازن الصفري بين القوى المتعارضة، وهو التوازن الذي يفيد العدم، كما نقول ثلاثة من ثلاثة تساوي الصفر. فلم ير إلا اجتياحاً فكرياً لموروثات الآخرين، فارسية ويونانية، وصوفية فكرية ذات أصول خارجية. ولم ير العقل العربي الخالص ولا الإسلام الخالص إلا بحسبانهما ردود فعل أتت في القرون المتأخرة حتى القرن الثامن الهجري.
ثم يرد الفصل الرابع عن العقل والنقل وعلى أيهما تؤسس الأخلاق. وكما أن الكتاب يفصل بين الشرع والعقل، فهو يفصل هنا أيضاً بين العقل والنقل، ويضع السؤال بطريقة أثارت الثنائيات التي توضع وضعاً متناقضاً أو متضاداً من حيث إمكان اجتماعهما معاً أو رفعهما معاً. ونحن عندما نتكلم في إطار الشريعة ومعالجات الفقه وأصوله، نجد أن المعقول والمنقول يتداخلان دوماً في الأعمال وفي النظر التطبيقي، وأنه ما من معقول إلا ويحمل في طياته أصولاً منقولة، وما من منقول إلا ويؤول لدى من يتناوله إلى وجود عقل وأعمال فقه.
وعندما ثار في هذا الفصل أمر العقل والنقل في الأخلاق، فإن ذلك اقتضى الإشارة الى طبيعة العلاقة بين الفقه والأخلاق، وهنا نجد الإجابة سريعة وحاسمة تعجل الباحث بوضعها فقال: “إن النص الديني في الحضارة الإسلامية، ولو أنه يغطي من الناحية المبدئية، جميع مظاهر الحياة، فإنه ترك مع ذلك للأخلاق مجالها الخاص الواسع العريض، وهذا الوضع ينتج منه أن الدين في الإسلام ليس هو أساس الأخلاق..”، ثم يذكر أن من لا يريح ضميرهم الديني هذا القول يقبلون القول إن الدين ليس وحده أساس الأخلاق، ثم يقول إن الإجماع قائم على أن مصدر الحكم الأخلاقي هو العقل، وهكذا حسم القضية قبل أن يناقشها ووضع النتيجة قبل أن يعرض المقدمة. ثم أحال إلى مناقشة تالية لعلاقة العقل بالنقل. ثم استند إلى دعوة القرآن الكريم لإعمال العقل، ولم يذكر أن هذه الدعوة هي “نص” أيضاً وهي “نقل” وهي “دين”، مما يؤكد التداخل بين العقل والنص وبين العقل والنقل وبين العقل والدين بغير ما يثيره من ازدواجية تناقض أو تضاد. وقد أشار هذا الفصل في النهاية إلى أن الخلاف العملي يضيق بين المعتزلة والأشاعرة في مجال الأخلاق، وأن العقل والشرع يتقاربان لدى الماوردي، وأن العقل الأخلاقي كان عند الفقهاء أكثر مرونة منه عند المتكلمين، وهذا ما يؤكد الملاحظة التي أبديتها من قبل، ولكننا لا نلحظ أن الكتاب بهذا الذي انتهى إليه هذا الفصل قد عدل عن خطته وصار أكثر اهتماماً بالبحث عن العقل الأخلاقي في مجال الشريعة والفقه، وفي هذا وجه تناقض.

والسؤال الذي يصعد إلى ذهن قارئ القسم الأول من الكتاب، وهو المشار إليه في ما سبق، هو أنه إذا كنا، ونحن نؤسس للعقل الأخلاقي العربي والإسلامي سنستبعد القرن ونصف القرن الأولين من الإسلام، وهي الفترة التي تمثل الوعاء الزماني لتأسيس الحضارة العربية _ الإسلامية، وإذا كنا سنتبع في ذلك منهجاً يقتضي منا أو يسوغ منا استبعاد الدين والعروبة والإسلام من أسس تكوين العقل الأخلاقي العربي والإسلامي، فماذا سيبقى للعقل بعامة وللأخلاق بعامة من الإسلام ومن العروبة؟ لم يبق إلا الفرس الكسرويون واليونان الإغريق: أي لم يبق إلا غير العرب والإسلام، وهذا ما ظهرت به صورة العقل الأخلاقي، غير العربي وغير الإسلامي.
عند بدء الحديث عن الموروث الفارسي، كان “لابد” من الإشارة إلى ما قبل هذا الوفود، وهذا ما أورده الفصل الخامس؛ لأنه يستحيل الحديث عن وفود الموروث الفارسي إلى الثقافة العربية الإسلامية، دون الحديث عن الثقافة العربية الإسلامية، والاستحالة هنا لا يلغيها ولا ينفيها التركيز على أزمات ما قبل الوفود؛ لأنه لابد من أن يكون هناك شيء موجود، صحيحاً أو معيباً، سليماً أو عليلاً، رخياً أو مأزوماً. فذكر الكتاب “لا بد من الانطلاق من فحص ولو سريع لطبيعة هذا القطاع من الموروث العربي”، فأشار إلى أدب الخطابة والرسائل، ولكننا هنا نجد الإشارة لخطب زياد بن أبيه والحجاج، ولا نلمح خطب أبي بكر وعمر، ونجد رسائل كتبة الدواوين أيام الأمويين مثل سالم بن عبد الرحمن وعبد الحميد الكاتب، ولا نجد رسائل مالك، والليث بن سعد مثلاً. ونجد الإشارة للقيم الدينية لا ترد إلا حيث تكون موظفة لفتح الأمصار ولطاعة الحكام، وأن الأمر بطاعة الله يوظف لطاعة الحكام. ونحن نلحظ هنا أن قصر الحديث على أدب الدواوين، من شأنه أن يكشف نوعاً من القيم مما يريد السلطان أن يذيعه، أو أنها بالأقل قيم تروج في دوائر السلطان، وإن كان الكتاب قد حصر دلالة المفاد في إطارها النسبي لكان هذا أصوب؛ لأن وجه عدم الاقتناع بما يذكره أنه تعامل مع مصدر واحد يتعلق ببيئة اجتماعية سياسية نخبوية واحدة، وعمم ذلك كله على نطاق “العقل الأخلاقي عند العرب”.
إن الطاعة التي يروج لها هذا النوع من أدب الرسائل، هو ما يصدر عنه كاتبوها وهم من عمال دولة السلطان. ولا يوجد تنظيم حكومي أو أهلي إلا ويستلزم من رجاله الانضباط والسمع والطاعة من الأدنى مرتبة للأعلى مرتبة. فهو أمر واقع. ولا توجد دولة لا تتطلب من شعبها طاعتها ولا يلح عمالها في تزكية هذا الشعور والترويج له. وعلى وجه الخصوص فإن دولة عربية إسلامية ناشئة من تجمعات قبلية وحضارية متباينة، تكون إحدى وظائفها التاريخية الأساسية أن تدعم هذا الشعور بالانضباط لها، وهو فرع من الشعور بالانتماء للجماعة السياسية الجديدة القائمة على أساس الديانة الإسلامية.
وقيمة الطاعة ذات عدد من الوظائف، فهي استبداد لدى الحكام، هي انضباط لدى الجماعات الأهلية، وهي استقرار وارتباط لدى التكوينات الناشئة لدعم الشعور بالامتزاج بها. وعندما نتكلم عن الطاعة لا يجوز أن نغفل عن الأصل الأول الذي تقرر في دولة الإسلام بعد وفاة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وجاء ذلك على لسان أبي بكر عندما قال: “أطيعوني ما أطعت الله ورسوله”، واتصل هذا القول بالتأسيس الأول للقيم الإسلامية، لصدوره عن أبي بطر ولارتباط معناه بآيات من القرآن الكريم، ولأنه يضع السلطة السياسية في إطار الشرعية الإسلامية والمستفادة من القرآن (قول الله) ومن السنة (قول الرسول). وجاء هذا القول في خطبة كان يمكن أن تكون هي وأمثالها مما يشار إليه في تأسيس العقل الأخلاقي، وتمثل القيم المرجو تحقيقها ومعايير الاحتكام التي تقاس بها أفعال الحكام والناس، حتى وإن لم تجد مجالاً ثابتاً في التطبيق. ولا نكتفي عن ذلك بالحجاج بن يوسف وأضرابه.
وأنا لم أستطع أن أفهم قط، ما ورد من أحكام عامة مطلقة بغير دليل، عندما يقال مثلاً: إن الدولة الأموية كانت “خالية أو تكاد من الطابع الديني”، وإن الأمر انتقل من هذا الحال “إلى دولة توظف الدين من أجل تبرير قيمها وإثبات شرعيتها.. زمن العباسيين”. هذه الأقوال الجازمة كيف يمكن لها أن تناقش وهي أتت خالية من الدليل الذي يسند أياً منها؟ وأي قول لا تمكن مناقشته إلا من خلال الدليل المصاحب له، لتقدير وجوده، وصحته من خلال تبين مدى قوة الأدلة الساندة له أو وهنها. ومن جهة أخرى فما هو المعيار الذي تعتبر به الدولة ذات طابع ديني أو ليست كذلك؟ وقد ورد بهذا الفصل السادس من الكتاب الذي نناقشه أن بني أمية لم يوظفوا الدين وعملوا استقلالاً عنه بغير وقوف ضده، ومارسوا الصراع باعتباره صراعاً على السلطة وليس صراعاً دينياً، وأن بني هاشم طالبوا بالخلافة باسم الدين، وأن الدولة العباسية لم تستخدم الدين أولاً، ثم استخدمته ثانياً.
ومن خلال هذا السياق نلمس أن تقرير دينية الدولة أو عدم دينيتها يتعلق أساساً، في سياق العرض التحليلي الذي يثبته الكتاب، بمدى توظيف الدين في العملية السياسية أو عدم توظيفه. وكأن الحكم والسلطة في جوهرهما يستغنيان عن الدين، وكأن السلطة تتصل به فقط إن احتاجت إلى توظيفه أو لا تحتاج إليه فتتركه. وفي هذا الشأن أقول إن ما غاب عن هذا التحليل _الذي تبناه الكتاب _ هو أن لكل سلطة سنداً من شرعية بغيرها لا تقوم السلطة ولا يمكن ضمان الانصياع لها ولو بالقهر والتغلب، وإن القهر والتغلب لا يكفيان لضمان بقائها وتقبل الرعية لها، إنما يلزم للناس معها الاندراج في إطار من الشرعية السائدة، سواء أكانت دينية أم علمانية أم معتمدة على أعراف سابقة يمكن استخراج مقوماتها. وبهذا النظر فإنه ما من حكم أموي ولا عباسي أو عثماني كان يمكنه أن يضمن الحد الأدنى من التقبل العام له إلا من خلال أن هذه الدولة مشخصة للجماعة المسلمة. ومن هنا ترد الصلة الحيوية للإسلام بالدولة، وما كان يمكن أن تتوحد تلك الجماعة وتقوم دولة واحدة عليها، وكانت من قبل قبائل وأجناساً وشعوباً ولغات وديانات شتى، وما كان يمكن أن تتوحد الجماعة وتقوم منها دولة واحدة إلا من خلال الجامع الإسلامي العام والاندراج فيه.
يرد بعد ذلك الفكر الفارسي بقيمه الكسروية من خلال عرض أدب ابن المقفع في كليلة ودمنة والأدب الكبير والأدب الصغير، وابن قتيبة في عيون الأخبار، وابن عبد ربه في العقد الفريد، ثم الماوردي. وننحن نلحظ هنا أن النص الأدبي هو النص المختار، وكان عليه المعول في نقد الموروث الفارسي الفكري الوارد إلى العقل الأخلاقي العربي. ويمكن أن تمثل وجهة نظر الكتاب أمراً معتبراً بالنسبة لتمشيه في التحليل مع وجهة نظر الكتاب المبحوث والكتاب الذي بحثه له، ومن حيث جذور فكر كل كتاب في ما أنشأ وفي ما اختار. كما يمكن أن تعارض بوجوه تحليل أخرى.
ولكن يبقى ثمة أمر لا وجه للخلاف بشأنه. إننا لا نستطيع أن نقتنع بأن هؤلاء الكتاب ومن كتب عنهم في هذه الفصول “الفارسية الكسروية” يمثلون دلالة عامة لما وقر عن العقل الأخلاقي الإسلامي، فهم أفراد ذوو خصوصيات فكرية ملازمة لهم، وهم قلة محدودة لا تكاد تمثل وجوه انتشار عام في تكوين “العقل الأخلاقي الإسلامي، فهم أفراد ذوو خصوصيات فكرية ملازمة لهم، وهم قلة محدودة لا تكاد تمثل وجوه انتشار عام في تكوين “العقل الأخلاقي العربي”، وهم غالبهم ذوو اتصال بدوائر الحكم والسلطة يعكسون فكرها وقيمها الخاصة بأكثر مما يعكسون الفكر العام: أي هم جزء دال في جزئيته، ونسبي الدلالة في عموميته. وهم غالبهم يرد من مجال الأدب ذي السهم الأصغر في تكوين “العقل الأخلاقي” على مدى القرون وفي المجال العربي أو الإسلامي. لم توجد ضرورة منهجية قط ألجأت الكاتب إلى أن ينحصر في هذا الإطار، إلا ما قاله: “لأننا قد انطلقنا من فراغ” وإنه “وجد نفسه على أرض يخلو سطحها من الآثار”، وهذا رغم ما سبق أن أشرنا إليه واستوجب منا الجحود به.
كما أننا لا نرى إمكانية للاستدلال على أن القرآن وكليلة ودمنة لابن المقفع كانا “في مرتبة واحدة” في تعليم ولاة عهد الخليفة؛ لأنه أوصى بهما في تعليمهم؛ لأن تعليم كتاب وكتاب لا يفيد أبداً أنهما على مرتبة واحدة في النوع ولا في الأهمية ولا في الأثر المطلوب. و”العطف” في اللغة لا يفيد التسوية، وإضافة مادة تعليمية إلى مادة أخرى لا يفيد التسوية بينهما في التربية ولا في التعليم. ولذلك فإنني لم أستطع أن أفهم هذه المبالغة المسرفة في تقدير كتاب كليلة ودمنة “إنه منذ عصر التدوين الذي ترجم فيه إلى عصر النهضة العربية الحديثة، والذي بلغ أوجه في منتصف القرن العشرين، المرجع الأول في تكوين العقل الأخلاقي العربي، ليس هذا فحسب..”.
وعند استعراض الموروث اليوناني الذي وفد إلى “الفراغ” العربي الإسلامي، نلحظ البدء بالحديث عن فلاسفة البيان وعلومهم الطبيعية، ثم الأثر الذي انتقل منهم إلى الكندي وأبي الرازي والحسن بن الهيثم، والحديث عن ابن حزم والفارابي وابن باجة وابن رشد وأبي الحسن بن العامري وابن مسكويه، وينتهي ذلك كله إلى أنه إن كان الموروث الفارسي قد تركز في القيمة الأساسية وهي الطاعة، فإن القيمة الأساسية التي نقلها الموروث اليوناني هي السعادة.
والملاحظة التي تثور لدي الآن، أن الكتاب يقر بأن الفكر الأخلاقي لدى الفرس ارتبط بالسياسة وتولدت عن ذلك قيمة “الطاعة”، وأن الفكر الأخلاقي لدى اليونان ارتبط بالفلسفة وأنتج قيمة أساسية مخصوصة هي السعادة، بمعنى أن تنوع المورد الذي يجري البحث فيه عن الفكر الأخلاقي في كل حضارة مخصوصة هو تنوع ليس وارداً فقط لدى الباحث عن هذا الفكر ولكنه تنوع متحقق يمارسه الباحث في الكتاب ذاته والموضوع ذاته. والارتباط بين الفكر الأخلاقي وبين مجال فكري في كل حضارة مخصوصة هو تنوع ليس وارداً فقط لدى الباحث عن هذا الفكر ولكنه تنوع متحقق، والارتباط بين الفكر الأخلاقي وبين مجال فكري محدد هو أمر يتنوع حسب التاريخ الفكري والاجتماعي والخصائص الحضارية. وهذه حقيقة فرضت نفسها على هذا الكتاب، ولا أعرف لماذا لم تفرض هذه الحقيقة ذاتها على الكتاب بالنسبة لموضوعه الأصلي وهو الفكر الأخلاقي الإسلامي، وأن ينظر في أي فرع من فروع المعارف ارتبط الفكر الأخلاقي لدى المسلمين، وكان سيجده في الفقه أو قريباً منه في كتب التفسير مثلاً، وكان قبل ذلك وأكثر من ذلك سيجده طبعاً في القرآن الكريم والسنة النبوية؟
وما يثير الانتباه أن الكتاب -الذي نناقشه- عندما بدأ يتكلم عن “الموروث العربي الخالص” أثبت أن “مصادر الموروث الإسلامي الخالص القرآن والحديث”. وإذا كان هذا ما يراه الكتاب فلماذا تراجع الحديث عن هذا الموروث الإسلامي الخالص إلى آخر الكتاب؟ ولماذا حُكِم على القرن ونصف القرن الأولين بأنهما كانا فراغاً وأنه “في البدء كانت الأزمة”؟ ثم بعد ذلك عندما عرض الباب الخامس والأخير للموروث الإسلامي الخالص، بدأ حديثه بأن “الإسلام كدين حمل معه منذ ظهوره نظاماً خاصاً به، فالقرآن الكريم هو كتاب أخلاق قبل كل شيء” وأنه محور ما يسمى بالموروث الإسلامي الخالص، وأن الأحاديث النبوية في موضوع الأخلاق أكثر من أن تحصى. ولكنه أعاد الحديث تسويغاً لمنهج الكتاب من أن الفعل شيء والكتابة شيء آخر، ثم تكلم عن المحاسبي والماوردي ثم أبي إسحاق الغزالي، ولكنه وقف وقفة المتحمس المؤيد لما كتبه العز بن عبد السلام في القرنين السادس والسابع الهجريين وأبان مفهوم “العمل الصالح” لدى العز، واختار قيمه بحسبانها القيم الحاكمة، وأوضح مفهوم المصلحة لديه، وذكر الشاطبي وما كتب، وأنهى خلاصات كتابه كلها بقول العز عن العمل الصالح.
ولكن في نظرنا ونظر الفكر الإسلامي بعامة فإن العز بن عبد السلام ينتمي إلى مجال الفقه الإسلامي ومجال أصول الفقه، في ما كتب وفي ما بقي لنا من آثاره، وآراؤه موصولة الروابط بآراء السلف له من الفقهاء وأصوليي الفقه، والعز هو واحد من ثمار هذه الشجرة التي بدأت من القرآن والسنة النبوية وأثمرت الفقه وأصوله بمذاهبه الفقهية المعروفة. والكتاب عندما وجد ضالته عن العقل الأخلاقي الإسلامي الخالص، وجدها في هذا الفرع الواسع الذي بدأ بعد عهد النبوة الشريفة مباشرة، ولم يكن هذا المجال من التأليف والاجتهاد فراغاً ولا كان مأزوماً في هذا المدى الزمني الأول. ولو كان الكتاب بحث في هذا الفرع من البداية، لما أسقط مائة وخمسين سنة ثمينة جداً، وثمينة جداً بإقراره الأخير ذاته، ولَما وصفه بالفراغ والتأزم، ولكان بدأ حديثه من حيث ينبغي أن يبدأ وهو “في البدء كان القرآن والحديث ثم كان الفقه وأصوله”، وهذا هو ديوان الإسلام الخالص.

بعد هذه الخاتمة، تبقى كلمة أخيرة أود أن أذكرها عما ورد بالكتاب في الباب الثالث منه عن الموروث الصوفي، وقد اختزلته فصول هذا الباب في قيمة أساسية هي “الفناء”. ومفهوم الفناء في الفكر الصوفي واضح ومؤثر. ولكن اختزال التصوف في هذه القيمة، هو مثل اختزال الفكر الفارسي في قيمة “الطاعة”، واختزال الأثر اليوناني في “السعادة”، وهو نوع من التعميم لا يخلو من مجازفة، وقد يختلف المختلفون في الأهمية النسبية لـ “الفناء”، وقد يرى آخرون أن “الصدق مع النفس” هو القيمة الحاكمة في فكر الصوفية، ولسنا ندخل في هذا المجال، وموضوع “الفناء” موضوع معتبر وله أهمية. ولكن يصدق فيه هنا التنوع في الأداء الوظيفي بمثل ما صدق ذلك عند النظر في التنوع في الأداء الوظيفي لقيمة الطاعة، على ما سبقت الإشارة. والكتاب وضع الفناء في سلبية تفيد الانسحاب، ورتب عليها أثراً وحيداً في هذا الشأن وهو أن مؤداها سلبي وأنها ضد التوجه الإيجابي نحو الحياة.
والفناء في ظني وظن الكثيرين، يفيد إفناء الذات ومصالحها وحسّياتها في المعنى العام لجماعة أو لفكرة أو لهدف. والفناء في الله سبحانه هو وجود أي وجود، والفناء بهذا المعنى ليس نفياً ولكنه تحققٌ أفعل وأمثل في فكرة أو هدف أو جماعة، وأخلاق الفناء هي أصل الاندفاع نحو التضحية بالنفس، صوفياً كان المندفع أو غير صوفي، فالتضحية هي تبين لموقف صوفي، والبذل والعطاء كذلك، متى جاء أي من ذلك لوجه الله وبغير ابتغاء لنفع أو شهرة أو نحو ذلك. وما أكثر ما عرف التاريخ انتشاراً للإسلام في وسط إفريقيا وجنوبها وفي شرق آسيا عن طريق هؤلاء الجند المجهولين، وما أكثر ما انتظمت حركات مقاومة شعبية منهم.
والكتاب في هذا الباب، عرض للتصوف بمعانيه الفكرية أكثر مما استفاد فكر القوم من حركاتهم الاجتماعية والواقعية. ولذلك جاء العرض عرضاً خارجياً عن التوظيف الاجتماعي للأفكار، رغم أن الكتاب ذاته أسرف في التركيز على التوظيف السياسي للدين عن طريق السلطان، بحيث إنه كان يشعر قارئه أحياناً أن لم تكن للدين وظيفة اجتماعية أخرى. كما أن الحديث عن التصوف من حيث أثره النفسي جاء خارج إطار التجربة الشعورية لمن يدرك بوجدانه دلالات المعاني المقصودة ويمسك بمفاتيح التعامل النفسي لعباراتهم. وهم أنفسهم يصفون بعض شؤونهم بأنها “أذواق”؛ لأن وصف الطعوم لا يدركها إلا من ذاق طعمها، والأمر في النهاية تهيؤ لحالة نفسية شعورية، ليكون المرء أكثر صدقاً وأقل ذاتية. وأن يلزم المرء باطنه بأكثر مما يلزم الناس به ظواهرهم.
والطاعة لديهم ليست مجرد أثر الفكر الفارسي، وإنما هي ما ينتج من أمرين: أحدهما: أنها علاقة التلميذ بأستاذه أو صلة المتدرب بمن يدربه ويصوغ شخصيته بالتخفيف والتشديد حتى تتهيأ. ثانيهما: أن التصوف بنى تنظيمات اجتماعية تعبدية من بعد، والتنظيم في بنائه الهرمي يحتاج إلى ضبط وانضباط. ومثل هذه التنظيمات هي ما أقامتها زوايا السنوسي في العصر الحديث لمقاومة الاستعمار على صعيد الصحراء الإفريقية الكبرى كلها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق