الأسوة الحسنة في القرآن الكريم، وتطبيقها في السيرة النبوية
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على محمد وآله وصحبه ومن وآلاه.
الباحث: د. محمد علي اليولو الجزولي
مقدمة:
لا شك أن الأسوة منهج قويم، وأسلوب في التربية متين أصيل، وقد دعا الله تبارك وتعالى في كتابه إلى هذا المنهج، وأسَّس أصوله ومبادئه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أول من تمثَّل هذا المنهج في سيرته وحياته، ثم اقتدى به من بعده جيل الصحابة الكرام رضوان الله عليهم.
فكان لزامًا على أمة القرآن اليوم أن تتعرف على معالم هذا المنهج الأصيل ـ الأسوة الحسنة ـ من خلال استنطاق أخبار السيرة النبوية الصحيحة، وذكر نماذج من تطبيقات الأسوة الحسنة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وحياة أصحابه الكرام البَرَرة.
ولهذا الغرض جاء هذا المقال ليعَرِّف بمفهوم الأسوة الحسنة، وتطبيقاتها في السيرة النبوية.
وهذا أوان الشروع في الموضوع فأقول وبالله التوفيق:
أولا: تعريف الأسوة الحسنة لغة، واصطلاحا:
أ ـ تعريف الأسوة في اللغة.
عند الرجوع إلى المعاجم اللغوية نجد أن الأسوة تطلق ويراد بها:" القدوة" كما في لسان العرب[1].
وعرفها الكَفوي في كتابه الكليات بقوله:" الأسوة الحالة التي يكون الإنسان عليها في اتباع غيره"[2].
ب ـ تعريف الأسوة في الاصطلاح الشرعي:
ذهب بعض المفسرين مثل: ابن الجوزي، والقرطبي، والشوكاني، والألوسي،[3]، وغيرهم من المفسرين: أن الأسوة تكون في أقوال الذي يُقتدى به، وأفعاله، وأحواله، فالأسوة إنَّما هي صفةٌ في شخص، وهي صفات الكمال التي تصلح أن تكون محل اقتداءٍ من الآخرين.
ثالثا: الأسوة في القرآن الكريم:
ورد لفظ الأسوة في القرآن الكريم، في ثلاثة مواضع:
الموضع الأول: في سورة الأحزاب في قوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [4].
الموضع الثاني: في سورة الممتحنة الآية الرابعة في قوله تعالى:( قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ) [5]
الموضع الثالث: في سورة الممتحنة الآية السادسة في قوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) [6].
رابعا: تطبيقات الأسوة في السيرة النبوية:
وتتبين معاني هذه الأسوة الحسنة وتطبيقاتها في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، من خلال هديه وأخلاقه، وسجاياه، وأعماله في اليوم والليلة، وذلك طلبا للغاية الكبرى وهي: تمثل هذه الأخلاق الكريمة، والسجايا المنيفة في حياة الفرد المسلم، ورغبةً في الفلاح باتباع سنته وطريقته.
والسيرة النبوية منجم خصب، للعديد من الأمثلة الحية، والنماذج الراقية التي دعا فيها النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه للاتساء به، حيث نلحظ هذا التأثير الفاعل لهذا الاتساء على أصحابه، وأهل بيته رضوان الله عليهم أجمعين.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتنزل عليه القرآن الكريم، يوجهه ويعلمه ، ليكون على بينة من أمره، من ذلك قوله تعالى (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) [7].
فهذا البلاغ الرباني، وهذا الأمر الإلهي بالبراءة من عبادة الأصنام، والبراءة من سَدنتها وعُبَّادها، والقيِّيمين عليها ـ ولو كانو أقربَ قَريب ـ طبَّقه النبي صلى الله عليه وسلم، ونزَّله في واقعه الذي يشبه واقع من سبقه من الأنبياء، حيث نجد في سيرته دعوته صلى الله عليه وسلم إلى نبذ الأوثان، وقطع العلائق معها، ومحاربتها، من ذلك البراءة ممن تلبَّس بالشرك من أهله وعشيرته، ومن ذلك الإشراف بنفسه على تحطيم أصنام الكعبة وفيها ما يناهز 300 صنم، وبعث أصحابه لهدم ما تبقى منها، والتي مازالت تقام لها المواسم في ربوع جزيرة العرب، فالنبي صلى الله عليه وسلم اتخذ القرآن الكريم أسوة، واتخذ منهج النبي إبراهيم عليه السلام أسوة، فنزل ذلك في سيرته وحياته.
ومن ذلك أيضا: ما أورده الهيثمي في زوائد مسند الحارث عن أشعث بن سليم، عن عمته، عن عمها: قال: بينما أنا أمشي في سكة من سكك المدينة إذا ناداني إنسان من خلفي: " ارفع إزارك؛ فإنه أبقى وأنقى"، قال: فنظرت فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت:يا رسول الله: هو بردة ملحاء ـ يعني عباءة مخططة- قال: "أوما لك فيَّ أسوة؟! "قال: فنظرت، وإذا إزاره إلى أسفل الساق"[8].
ومن ذلك أيضا: ما روته أمنا عائشة رضي الله عنها مبينة حسن مُعاشرته صلى الله عليه وسلم لأهله أنه:" كان يُقبل وهو صائم، ثم قالت: ولكم فيه أسوة حسنة"[9] .
ومن ذلك ما رواه الإمام أحمد في مسنده جاء عثمان بن مظعون رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم يريد التبتل، يريد أن يعتزل النساء، ولا يتزوج، ويريح نفسه من آلة الزواج، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:" يا عثمان إن الرهبانية لم تكتب علينا أفما لك في أسوة؟ فوالله إني أخشاكم لله واحفظكم لحدوده"[10].
ومن ذلك أيضا: ما أخرجه مسلم من حديث أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه في الحادثة التي نام فيها الصحابة حتى خرج وقت الصلاة حين قُفولهم من غزوة خيبر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم معهم، وَتَحَرُّج الصحابة من ذلك خصوصا من كُلِّف منهم بالحراسة ، قال قتادة رضي الله عنه: "...فجعل بعضنا يهمس إلى بعض ما كفارة ما صنعنا بتفريطنا في صلاتنا؟ ثم قال:" أما لكم في أسوة؟ ثم قال: أما إنه ليس في النوم تفريط؛ إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى؛ فمن فعل ذلك فليصلها حين ينتبه لها..." [11].
وقد تمثل الصحابة الكرام هدي النبي صلى اله عليه وسلم فكانوا أَنْجُمًا في الأسوة الحسنة والاقتداء الصحيح:
من ذلك ما رواه الشيخان عن سعيد بن يسار: أنه قال : كنت أسير مع عبد الله بن عمر بطريق مكة فقال سعيد: فلما خشيت الصبح نزلت فأوترت، ثم لحقته، فقال عبد الله بن عمر: أين كنت؟ فقلت: خشيت الصبح، فنزلت فأوترت، فقال عبد الله: أليس لك في رسول الله صلى الله عليه وسلم إسوة حسنة؟ فقلت: بلى والله، قال:" فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوتر على البعير"[12].
ومن ذلك أيضا ما أخرجه البخاري من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه: أراد الحج عام نزل الحجاج بابن الزبير، فقيل له: إن الناس كائن بينهم قتال، وإنا نخاف أن يصدوك، فقال: ( لقد كان لكم في رسول الله إسوة حسنة )، إذا أصنع كما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إني أشهدكم أني قد أوجبت عمرة، ثم خرج حتى إذا كان بظاهر البيداء قال: ما شأن الحج والعمرة إلا واحد، أشهدكم أني قد أوجبت حجا مع عمرتي، وأهدى هديا اشتراه بقديد، ولم يزد على ذلك، فلم ينحر، ولم يحل من شيء حرم منه، ولم يحلق، ولم يقصر حتى كان يوم النحر فنحر وحلق، ورأى أن قد قضى طواف الحج والعمرة بطوافه الأول، وقال ابن عمر رضي الله عنهما: كذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم[13].
**************
لائحة المصادر والمراجع:
1-إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم: أبو السعود العمادي، دار إحياء التراث العربي، د.ت.
2-بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث بن أبي أسامة: نور الدين الهيثمي، ت: د. حسين أحمد صالح الباكري، مركز خدمة السنة والسيرة النبوية - المدينة المنورة، ط1 ، 1413 هـ/ 1992م.
الجامع الصحيح المختصر: محمد بن إسماعيل أبو عبدالله البخاري الجعفي، ت : د. مصطفى ديب البغا ، دار 3-ابن كثير ، اليمامة، بيروت، ط3 ، 1407هـ/1987م.
4-الجامع لأحكام القرآن: أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فرح الأنصاري القرطبي، دار الريان، القاهرة. دت.
5-روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني: شهاب الدين محمود بن عبد الله لحسيني الألوسي، ت:علي عبد الباري عطية، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1415 هـ.
6-زاد المسير في علم التفسير: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي ت: عبد الرزاق المهدي، دار الكتاب العربي، بيروت، ط1، 1422هـ.
7-فتح القدير: محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني، دار ابن كثير، دار الكلم الطيب - دمشق، بيروت، ط1، 1414هـ.
8-الكليات: معجم في المصطلحات والفروق اللغوية، ت: عدنان درويش، ومحمد المصري.مؤسسة الرسالة، بيروت، 1419هـ/1998م.
9-لسان العرب: لأبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم ابن منظور الإفريقي المصري، دار صادر، بيروت.
10-المسند الصحيح المختصر من السنن بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري، بعناية: أبو قتيبة نظر محمد الفاريابي، دار طيبة، ط1، 1427هـ/2003م.
11-المسند: أحمد بن حنبل أبو عبدالله الشيباني، مؤسسة قرطبة، القاهرة، د.ت.
هوامش المقال:
***************
[1] - لسان العرب (14 /35).
[2] - الكليات (1 /114).
[3] - زاد المسير (6 /367)، تفسير القرطبي (14 /155)، روح المعاني (21 /167)، تفسير أبي السعود (7 /97)، فتح القدير (4 /270).
[4] - الأحزاب: 21.
[5] - الممتحنة:4.
[6] - الممتحنة: 6.
[7] - الممتحنة:4.
[8] - بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث (2 /608).
[9] - رواه أحمد في المسند (6 /192)، أصله عند مسلم في كتاب: الصيام، باب: بيان أن القبلة في الصوم ليست محرمة (1116).
[10] - مسند أحمد (2 /226) (رقم الحديث: 25935).
[11] - أخرجه مسلم في كتاب: المساجد، باب: قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها(681).
[12] - أخرجه البخاري في كتاب: الوتر، باب الوتر على الدابة(954)، ومسلم في كتاب: صلاة المسافرين، باب: جواز صلاة النافلة على الدابة (700).
[13] - أخرجه البخاري في كتاب: الحج، باب:طواف القارن (1559).