مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةغير مصنف

نماذج من استشراف النبي صلى الله عليه وسلم المستقبل من خلال سيرته

بسم الله الرحمن الرحيم

 والصلاة والسلام على محمد وآله وصحبه ومن وآلاه.

 

 

الباحث: د. محمد علي اليولو الجزولي

  مقدمة:

      إن استشراف المستقبل يعد نظرة إيجابية للحياة والكون، تحمل على بعث الأمل في النفوس، وشحذ العزائم، والأخذ بأسباب الحيطة والحذر، وإحياء رسوم الدين وتجديده، وتحقيق النجاح والانتصارات. وهو منهج ناجح لإيجاد الحلول الصائبة لمشاكل المسلمين في العصر الراهن، وذلك من خلال معرفة مواطن الفتن، وتوخي الحذر منها، ومواجهتها بالإصلاح، وحسن التدبير.

      وقد تنبه الغرب لأهمية الاستشراف المستقبلي، فأسس لهذا الغرض مراكز مرموقة، ومؤسسات ضخمة، وجامعات متخصصة، وأكاديميات علمية تُعنى بالاستشراف المستقبلي، خصصت له ميزانيات ضخمة، وإمكانيات كبرى، تحت إشراف هيئة من كبار العلماء، والدكاترة، والمختصين في المستقبليات من جميع أنحاء العالم.

    في حين أهمل العالم العربي والإسلامي هذا العلم الرائد، وغَيَّبه في مناهج التكوين والتعليم، بله أن يلتفت له، أو يرفع به رأسا، في حين أنه إذا رجعنا  إلى السيرة النبوية، والتاريخ الإسلامي نجد فيهما مادة دسمة مهمة في الاستشراف المستقبلي، من خلال أخبار وحقائق ومبشرات، يمكن من خلالها الإسهام في البناء الإيجابي، والإصلاح البناء، ومواجهة التحديات التي قد تعصف بالأمة، بعيدا عن العشوائية والارتجال، وعدم تقدير الأمور حق قدرها.

      فما هو إذن مفهوم الاستشراف؟ وما هي وسائل استمداده؟ وهل في السيرة النبوية وقائع صحيحة استشرف فيها النبي صلى الله عليه وسلم المستقبل؟

أولا: مفهوم مصطلح الاستشراف:

أ ـ تعريف الاستشراف لغة:

       الاستشراف أصلها (شَرف): الشين، والراء، والفاء أصل يدل على علو وارتفاع. فالشّرف: العلو. والشَّرِيف: الرجل العالي، وشَرُف: علا شرفًا من الأرض، وعلوا أشرافًا وهو المكان المشرف، وحلّوا مَشَارف الأرض: أعاليها، ومنه: شَارف الشأم. واسْتَشْرَف الشيء: رفع رأسه ينظر إليه، واسْتَشْرَفْتَ الشيء: إذا رفعت بصرك تنظر إليه، وبسطت كفك فوق حاجبك، كالذي يستظل من الشمس. ومنه قول ابن مطير:

فيـا عـجبـا للـناس يستشـرفوننـي

***

كـأن لم يروا بعدي محبا ولا قبلـي[1]

ب ـ تعريف الاستشراف اصطلاحا:

      عرفه أحمد صدقي الدجاني في كتابه: عن المستقبل برؤية مؤمنة مسلمة بقوله:” الدراية بالممكنات المرتبطة بمعطيات التاريخ، والواقع الراهن، والسنن والقوانين النفسية، والاجتماعية، والكونية”[2].

      وعرفه د. محمد بشير في بحث له بعنوان: أهمية استشراف المستقبل وضوابطه:”إنه سلوك يتطلب معرفة ومهارة ويستلزم عزيمة وإرادة ويهدف إلى جلب خير أو دفع ضر عبر أنشطة ذهنية معينة”[3].

      والاستشراف يتطلب مقومات أساسية لنجاحه وهي: عنصر الاجتهاد، والعلم، والإحاطة بالحدث من جميع زواياه، والتنظيم، والتخطيط، والإلمام بالتراث والماضي، ومعرفة الهدف، وسعة الخيال، والحساب، والإحصائيات، والتوقعات الإجابية والسلبية للنتائج..وغيرها.

      بيد أنه وجب التنبيه على أن وسائل الاستشراف الآنفة الذكر إنما هي ظنية وليست قطعية، ويستأنس بها لإمكانية تخلف الأسباب، أو الخطأ في عملية استشراف المستقبل.

      كما وجب التنبيه أن استشراف المستقبل ينبني على وسائل شرعية بخلاف الكهانة، والتنجيم، وقراءة الكف، والأبراج، وضرب الرمل، والطيرة…وغيرها التي تنبني على أسس جاهلية غير شرعية.

     ويستمد الاستشراف مشروعيته من: القرآن الكريم، والسنة النبوية: التي وثقت أحداثا مستقبلية مثل: زوال ملك كسرى، وفتح القسطنطينية..، والرؤيا الصادقة، والدعاء والاستخارة، والخبرة، والتجربة الطويلة في الحياة، والمعرفة بالسنن الكونية.

الاستشراف من خلال وقائع السيرة النبوية:

      لقد استشرف النبي صلى الله عليه وسلم المستقبل في وقائع من سيرته العطرة أذكر منها:

أولا: حادثة الهجرة النبوية:

      ويتجلى ذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم لسُراقة بن مالك بن جعشم الذي أرسلته قريش لتتبع آثار النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه، ودار حديث طويل بينهما، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:” كيف بك إذا لبست سواري كسرى؟!![4]. 

      وهي لفتة منه صلى الله عليه وسلم أن المسلمين سيفتحون بلاد فارس، ويغنمون أموال كسرى، ومنها سواريه، وقد تحقق هذا الاستشراف زمن الخليفة عمر رضي الله عنه: حين قضى على مُلك كسرى، فلما أتت الغنائم وفيها أساور كسرى، دعا عمر رضي الله عنه سُراقة بن مالك رضي الله عنه فألبسهما أياه.

ثانيا ـ غزوة الأحزاب:

     في غزوة الأحزاب، التي اجتمعت فيها قريش، والأعراب، واليهود، والمنافقون لقتال المسلمين بالمدينة المنورة، اهتدى سلمان الفارسي رضي الله عنه إلى خطة حفر الخندق حول المدينة، ولما استغرق المسلمون في تنفيد هذه الخطة المحكمة اعترضت سبيلهم صخرة عظيمة صماء، لا تأخذ فيها المعاول، قال: فشكوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ المعول فقال: ” بسم الله ” فضرب ضربة فكسر ثلث الحجر، وقال: ” الله أكبر أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر من مكاني هذا “. ثم قال: ” بسم الله ” وضرب أخرى فكسر ثلث الحجر فقال: ” الله أكبر، أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر المدائن، وأبصر قصرها الأبيض من مكاني هذا ” ثم قال: ” بسم الله ” وضرب ضربة أخرى فقلع بقية الحجر فقال: ” الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا”[5].

ثالثا ـ غزوة مؤتة:

     في هذه الغزوة أخبر صلى الله عليه وسلم عن استشهاد القادة الثلاثة قبل وصول الخبر إلى المدينة فقال صلى الله عليه وسلم: “أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب، ثم أخذها عبد الله بن رواحة فأصيب، ـ وإن عيني رسول الله صلى الله عليه وسلم لتذرفان ـ ثم أخذها خالد بن الوليد من غير إمرة ففتح له”[6].

 

الخاتمة:

        وفي ختام هذا المقال أحمد الله عز وجل على توفيقه وتيسيره، وأسأله الإخلاص في القول والعمل، هو حسبنا ونعم الوكيل.

والحمد لله رب العالمين.

************** 

لائحة المصادر والمراجع:

1-الاستيعاب في معرفة الأصحاب: لأبي مر يوسف بن عبد القرطبي، دار الإعلام، الأردن، ط1، 2002م.

2-أهمية استشراف المستقبل وضوابطه: دراسة تأصيلية في ضوء السنة النبوية: د. محمد بشير، بحث تقدم به إلى الندوة الدولية الخامسة للحديث الشريف، كلية الدراسات الإسلامية والعربية، دبي، الإمارات العربية المتحدة، 2011م.

3-الجامع الصحيح المختصر: لمحمد بن إسماعيل البخاري الجعفي، ت: د. مصطفى ديب البغا، دار ابن كثير، اليمامة ، بيروت ط3، 1407هـ/ 1987م.

 4-الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية: لإسماعيل بن حماد الجوهري، ت: أحمد عبد الغفور عطار، دار العلم للملايين، بيروت، ط4، 1407 ه‍ / 1987 م.

5-عن المستقبل برؤية مؤمنة مسلمة: لأحمد صدقي الدجاني ، دار البشير، الأردن، ط1، 1412هـ/1992م.

6-مسند الإمام أحمد بن حنبل: ت: شعيب الأرنؤوط – عادل مرشد، وآخرون، إشراف: د عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، ط1، 1421 هـ /2001 م.

7-معجم مقاييس اللغة: لأبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريا، ت: عبد السلام محمد هارون، دار الفكر، 1399هـ / 1979م.

8-النهاية في غريب الحديث والأثر: لأبي السعادات  المبارك بن محمد الجزري، ت: طاهر أحمد الزاوي، ومحمود محمد الطناحي،  المكتبة العلمية، بيروت، 1399هـ / 1979م.

 

هوامش المقال: 

[1] – مقاييس اللغة (3 /204)، الصحاح في اللغة للجوهري (4/ 1379-1380) ، النهاية في غريب الحديث والأثر (2 /1142).

[2] – عن المستقبل برؤية مؤمنة مسلمة: أحمد صدقي الدجاني (ص: 4).

[3] – أهمية استشراف المستقبل وضوابطه: دراسة تأصيلية في ضوء السنة النبوية: د. محمد بشير، (ص:42).

[4] – أخرجه ابن عبد البر في الاستيعاب (2 /158)، والبيهقي في الدلائل (6 /25) ، وابن حجر في الإصابة (2/ 19)  كلهم من طرق عن الحسن مرسلا.

 [5]– أخرجه أحمد في مسنده (30 /626)( 18694) من طريق حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا عوف، عن ميمون أبي عبد الله، عن البراء بن عازب رضي الله عنه، وفيه ميمون أبي عبد الله لم يوثقه إلا ابن حبان،  وبقية رجاله ثقات رجال الشيخين.وحسن الحافظ ابن حجر إسناده في الفتح (7 /397).

[6] – أخرجه  البخاري في كتاب:الجنائز، باب:الرجل ينعى إلى أهل الميت بنفسه (1/ 420) (1189) من حديث أنس بن مالك.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق