مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةدراسات عامة

أحاديث منتقاة في رؤية هلال رمضان من خلال كتاب: “المنتقى من السنن المسندة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن الجارود (307هـ)”

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمي، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

وبعد؛ فلا شك أن رؤية الهلال له أهميته القصوى في الشريعة الإسلامية، وخاصة في عبادة الصيام؛ حيث تدل رؤية الهلال على إيذان بدخول شهر رمضان؛ ولهذا قال الحق سبحانه وتعالى: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) ([1])، ولهذا حرص النبي صلى الله عليه وسلم على الاعتناء بأمر رؤية هلال رمضان، وحرص أصحابه رضوان الله عليهم في حياته، وبعد وفاته على تحري رؤية هلال رمضان، وحرصت الأمة بعدهم على ذلك أيضا، ورؤية هلال شهر رمضان يكون بعد انصرام آخر اليوم التاسع والعشرين من أيام شهر شعبان؛ حيث ينقضي اليوم بغروب الشمس؛ بحيث إذا رؤي هلال شهر رمضان في أول الليلة فتعد إذن تلك ليلة من ليالي شهر رمضان التي يجب فيها ابتداء صوم رمضان على عامة الأمة.

ولأهمية رؤية هلال رمضان في عبادة الصيام عند المسلمين اعتنى المحدثون بجمع أحاديث رؤية الهلال، ومن بين هؤلاء المحدثين: الإمام ابن الجارود –رحمه الله-الذي أورد فيه أحاديث في كتابه المنتقى من السنن المسندة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك قمت بانتقاء ثلاث أحاديث صحيحة، وتخريجها، وشرحها من خلال كتب شروح الحديث: شرح النووي على مسلم، وشرح ابن بطال على البخاري، وشرح محمد شمس الحق العظيم آبادي في عون المعبود على سنن أبي داود، ثم ختمت المقال بخلاصات مما استفدته من موضوعه.

وهذا أوان الشروع في المقصود؛ فأقول وبالله التوفيق:

الحديث الأول:

قال ابن الجارود في "المنتقى":   حدثنا محمد بن يحيى، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر ،عن الزهري، عن بن المسيب، وأبي سلمة، أو أحدهما، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : "إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فصوموا ثلاثين يوما "([2]).

تخريج الحديث:

أخرجه مسلم في صحيحه بشرح النووي، في كتاب الصيام، باب: وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال([3])من طريق: حدثنا يحيى بن يحيى، أخبرنا إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه بمثله.

شرح الحديث:

قال النووي: "(فإن غم عليكم) فمعناه: حال بينكم وبينه غيم، يقال: غم، وأغمي، وغمى، وغمي،  بتشديد الميم وتخفيفها، والغين مضمومة فيهما، ويقال: غبي بفتح الغين وكسر الباء، وكلها صحيحة، وقد غامت السماء، وغيمت، وأغامت، وتغيمت، وأغمت، وفي هذه الأحاديث دلالة لمذهب مالك، والشافعي والجمهور أنه لا يجوز صوم يوم الشك، ولا يوم الثلاثين من شعبان عن رمضان، إذا كانت ليلة الثلاثين ليلة غيم"([4]).

 الحديث الثاني:

قال ابن الجارود في "المنتقى": حدثنا علي بن خشرم، قال: أخبرنا عيسى؛ يعني: ابن يونس، عن شعبة، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم، أو قال: قال أبو القاسم صلى الله عليه و سلم: شك شعبة: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين"([5]).

تخريج الحديث:

أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب: الصوم، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتم الهلال فصوموا"([6])، ومسلم في صحيحه بشرح النووي في كتاب: الصيام، باب: وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال([7]) ، كلاهما من طريق إلى شعبة بن الحجاج، حدثنا محمد بن زياد، قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه به.

قال البخاري: " ... فإن غُبِّي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين" .

وقال مسلم: "... فإن غُمِّي عليكم الشهر؛ فعدوا ثلاثين ".

شرح الحديث:

قال ابن بطال القرطبي: " وقوله عليه السلام : "فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين يوما" ، نص في أنه عليه السلام لم يرد اعتبار ذلك بالنجوم والمنازل؛ لأنه لو كلف ذلك أمته لشق عليه، لأنه لا يعرف النجوم والمنازل إلا قليل من الناس، ولم يجعل الله تعالى في الدين من حرج؛ وإنما أحال عليه السلام على إكمال ثلاثين يوما، وهو شىء يستوى في معرفته الكل، وقد انضاف إلى أمره باعتبار العدد ثلاثين عند عدم الرؤية فعله في نفسه ... وجمهور الفقهاء على أنه لا يصام رمضان إلا بيقين من خروج شعبان، إما برؤية الهلال، أو إكمال شعبان ثلاثين يوما، وكذلك لا يقضي بخروج رمضان إلا بيقين مثله؛ لأنه ممكن في الشهر أن يكون تسعة وعشرين يوما، فالرؤية تصحح ذلك وتوجب اليقين كإكمال العدة ثلاثين يقينا، هذا معنى قوله : ( فاقدروا له) ، عند العلماء "([8]).

الحديث الثالث:

قال ابن الجارود في: "المنتقى": "حدثنا محمد بن يحيى، قال: حدثنا أسد بن موسى، قال: حدثنا معاوية، يعني: ابن صالح، عن عبد الله بن أبي قيس، قال: بعثت إلى عائشة أسألها عن صيام رمضان إذا خفي الهلال، وعن الصلاة بعد العصر، فدخلت على عائشة فقلت: إن فلانا يقرأ عليك السلام بعثني إليك أسألك عن الصلاة بعد العصر، وعن الوصال، وعن الصيام في شهر رمضان... فذكر بعض الحديث قال: قالت: "وكان يتحفظ من شعبان مالا يتحفظ من غيره، ثم يصوم لرؤية رمضان؛ فإن غم عليه عد ثلاثين، ثم صام -تعني رسول الله صلى الله عليه- و سلم([9]).

تخريج الحديث:

أخرجه أحمد في مسنده([10])، وأبو داود في سننه، كتاب: الصوم، باب: إذا أغمي الشهر([11]) ، كلاهما من طريق إلى معاوية بن صالح، عن عبد الله بن أبي قيس، قال: سمعت عائشة رضي الله عنها به.

قال المنذري: "قال الدار قطني: هذا إسناد صحيح، هذا آخر كلامه، ورجال إسناده كلهم محتج بهم في الصحيحين، ومعاوية بن صالح الحضرمي الحمصي قاضي الأندلس؛ وإن كان قد تكلم فيه بعضهم، فقد احتج به مسلم في صحيحه، وقال البخاري: قال علي –يعني ابن المديني- يوثقه، ويقول: نزل الأندلس، وقال أحمد بن حنبل: كان ثقة، وقال أبو زرعة الرازي: ثقة"  ([12]).

شرح الحديث:

قال أبو الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي: "( يتحفظ من شعبان )؛ أي: يتكلف في عد أيام شعبان لمحافظة صوم رمضان، ( فإن غم عليه)؛ أي: شعبان، ( عد ) أي: شعبان" ([13]).

الخاتمة:

وفي ختام هذا المقال استخلصت منه الآتي:

1-أن أحاديث رؤية هلال رمضان الثلاث المنتقاة من كتاب المنتقى لابن الجارود أحاديث صحيحة.

2-أنه لا يجوز صوم يوم الشك، ولا يوم الثلاثين من شعبان؛ إذا كانت ليلة الثلاثين فيها غيم تحجب رؤية الهلال، وذكر النووي أن هذا مذهب مالك والشافعي.

3-سلوك الإسلام منهج التيسير ورفع الحرج عن الأمة في طريقة رؤية الهلال بالعين المجردة، وأنه صلى الله عليه وسلم لم يرد اعتماد العلم بالنجوم والمنازل، الذي لا يعرفه إلا قلة من الناس كما قال ابن بطال.

4-جمهور الفقهاء على أن صيام رمضان لا يكون إلا بعد انصرام شعبان ورؤية الهلال، أو استيفاء شعبان ثلاثين يوما كما قال ابن بطال.

5-خروج شهر رمضان كذلك لا يتم إلا بعد اليقين والتحقق مثله مثل انصرام شعبان؛ وذلك باعتبار كون الشهر قد يكون تسعة وعشرين يوما.

6-أن من هديه صلى الله عليه وسلم أن يتكلف في عد أيام شعبان لمحافظة صوم رمضان كما قال محمد شمس الحق العظيم آبادي.

والحمد لله رب العالمين.

******************

هوامش المقال:

([1]) البقرة : 185.

([2]) المنتقى من السنن المسندة (ص: 218-219) برقم: (400).

([3]) صحيح مسلم بشرح النووي (4 /205)، برقم: (1081).

([4]) شرح النووي على صحيح مسلم (4 /207).

([5]) المنتقى من السنن المسندة (ص: 213)، برقم: (381).

([6]) صحيح البخاري (ص: 459-460) برقم (1909).

([7]) صحيح مسلم بشر النووي (4 /206) برقم (1081).

([8]) شرح صحيح البخاري لابن بطال (4 /27-28).

([9]) المنتقى من السنن المسندة (ص: 213) برقم: (382).

([10]) مسند أحمد (42 /82-83)، برقم: (25161).

([11]) سنن أبي داود (ص: 408)، برقم: (2325).

([12]) مختصر سنن أبي داود للمنذري (2 /91).

([13]) عون المعبود شرح سنن أبي داود (4 /15).

*********************

لائحة المصادر والمراجع:

السنن. لأبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني، خرج أحاديثه: محمد ناصر لدين الألباني، واعتنى به: أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان، مكتبة المعارف، الرياض، (د.ت).

شرح صحيح البخاري، لأبي الحسن علي بن خلف بن عبد الملك ابن بطال القرطبي، تحقيق: أبو تميم ياسر  بن إبراهيم، مكتبة الرشد، الرياض، ط2، 1423هـ- 2003مـ.

صحيح البخاري. لمحمد بن إسماعيل البخاري. دار ابن كثير، دمشق، ط1 /1423هـ- 2002مـ..

صحيح مسلم بشرح النووي . لأبي زكريا يحيى بن شرف النووي، حققه وخرجه وفهرسه: عصام الصبابطي- حازم محمد- عماد عامر. دار الحديث القاهرة ط1/ 1415هـ -1994مـ.

عون المعبود شرح سنن أبي داود؛ لأبي الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي ، حكم على أحاديثه: محمد ناصر الدين الألباني، قرأه واعتنى به وعلق عليه وخرج أحاديثه: أبو عبيدة  مشهور بن حسن آل سلمان، مكتبة المعارف، الرياض، ط1/ 1430هـ - 2009مـ.

مختصر سنن أبي داود، لعبد العظيم بن عبد القوي المنذري تحقيق: محمد صبحي بن حسن حلاق، مكتبة المعارف، الرياض، ط1/ 1431هـ- 2010مـ.

المسند. لأحمد بن حنبل (ج42)، تحقيق: شعيب الأرناؤوط، محمد نعيم عرقسوسي، إبراهيم الزيبق، محمد بركات، مؤسسة الرسالة ط1/ 1421هـ- 2001مـ.

المنتقى من السنن المسندة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لعبد الله بن علي ابن الجارود النيسابوري، تحقيق: مركز البحوث وتقنية المعلومات، دار التأصيل، ط1/ 1435هـ- 2014مـ.

*راجعت المقال الباحثة: خديجة ابوري

Science

د. محمد بن علي اليــولو الجزولي

  • أستاذ باحث مؤهل بمركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة النبوية العطرة بالعرائش، التابع للرابطة المحمدية للعلماء بالرباط.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق