مركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرةدراسات عامة

بعض الأحاديث في قضاء رمضان وما يستفاد منها

بسم الله الرحمن الرحيم:

    إن من رحمة الله بعباده أن شرع لهم  هذا الدين لرعاية مصالحهم، وتحقيق المنافع لهم، ولم يقصد بتكاليفه عنتًا، ولا مشقة، مصداقا لقوله تعالى: (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) ([1])، (وما جعل عليكم في الدين من حرج) ([2])، ومن هذه التكاليف فرض صيام شهر رمضان الذي أوجبه عليهم تحقيقا للغاية التي بينها في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) ([3])؛ ومن تيسيره ولطفه في الصيام في رمضان أن شرع لهم رخصا تبيح لهم الإفطار في بعض المواطن رحمة بهم، والقضاء متتابعا أو متفرقا في أيام أخرى بعد شهر رمضان، والأمر فيه سعة؛ لأن الله تعالى لم يشترط فيه التتابع مصداقا لقول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياما معدودات فمن كان  منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر) ([4])، وقوله تعالى: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون) ([5])، هذا وقد وردت في السنة النبوية أحاديث نبوية تدل على هذا المعنى وتؤيده ،  وسأقتصر في هذا المقال على إيراد أربعة أحاديث منها، مع تخريجها تخريجا مختصرا، وذلك بذكر أماكن ورودها ، وأختم كل حديث بذكر  بعض مستفاداته باختصار،  كما أشار إليها بعض العلماء الأعلام في شروحهم، وقبل ذلك أعرف بمصطلح القضاء لغة واصطلاحا، وهذا أوان الشروع في المقصود فأقول وبالله التوفيق :

القضاء لغة واصطلاحا:

القضاء لغة:

قال ابن فارس:”قضي:  القاف، والضاد، والحرف المعتل، أصل صحيح يدل على إحكام أمر وإتقانه، وإنفاذه لجهته، قال الله تعالى: (فقضاهن سبع سماوات في يومين) ([6]) أي: أحكم خلقهن، .. والقضاء: الحكم. قال الله سبحانه في ذكر من قال: (فاقض ما أنت قاض) ([7]) أي: اصنع واحكم؛ ولذلك سمي القاضي قاضيا؛لأنه يحكم الأحكام وينفذها. وسميت المنية قضاء لأنه أمر ينفذ في ابن آدم وغيره من الخلق”([8]).

القضاء اصطلاحا:

القضاء في اصطلاح المالكية له ثلاثة معاني كما قال القرافي في شرح تنقيح الفصول قال:

“أحدهما: إيقاع العبادة خارج وقتها الذي عينه الشرع لمصلحة فيه.

وثانيها: من وقع بعد تعيين بسببه والشروع فيه، وهذا هو القضاء في الحج؛ لأنه لما أحرم به وتعين بالشروع سمي بعد ذلك قضاء.

وثالثها: ما فعل على خلاف نظامه، ومنه قضاء الصلاة، فإن وضع الجهر في صلاة المغرب مثلا أن يكون قبل السر، فإذا وقع آخر الصلاة، فقد وقع على خلاف نظامه “([9]).

ثانيا: بعض الأحاديث في قضاء رمضان وما يستفاد منها:

الحديث الأول:

عن عائشة رضي الله عنها في حديث متفق عليه تقول: “كان يكون علي الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان” قال يحيى: الشغل من النبي أو بالنبي صلى الله عليه وسلم، وفي رواية أخرى لمسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: “إن كانت إحدانا لتفطر في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما تقدر على أن تقضيه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يأتي شعبان”.

تخريجه:

أخرج الرواية الأولى البخاري في صحيحه،كتاب: الصوم ، باب: متى يقضى قضاء               رمضان ([10])، ومسلم في صحيحه، كتاب: الصيام ، باب:  قضاء رمضان في شعبان، ([11]).

وأما الرواية الثانية أخرجها مسلم في صحيحه، كتاب: الصيام، باب: قضاء رمضان في شعبان ([12]).

بعض  مستفادات الحديث:

ذهب أهل العلم إلى أن قضاء عائشة رضي الله عنها لرمضان في شهر شعبان إنما هو أخذا بالرخصة والتوسعة. قال ابن بطال (ت 449هـ):  “حمل عائشة على قضاء رمضان فى شعبان الأخذ بالرخصة والتوسعة؛ لأن ما بين رمضان عامها ورمضان العام المقبل وقت للقضاء.. ، وأجمع أهل العلم على أن من قضى ما عليه من رمضان في شعبان بعده أنه مؤد لفرضه غير مفرط”([13]).

وقال القسطلاني (ت 923هـ): “وفي هذا الحديث أن القضاء موسع ويصير في شعبان مضيقًا ، وإن حق الزوج من العشرة والخدمة مقدم على سائر الحقوق ما لم يكن فرضًا مضيقًا”([14]).

الحديث الثاني:

عن عائشة رضي الله عنها قالت: “كنا نحيض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم نطهر ، فيأمرنا بقضاء الصيام، ولا يأمرنا بقضاء الصلاة” .

وفي إحدى روايات الصحيح عن معاذة العدوية رضي الله عنها قالت: “ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة، فقالت: أحرورية أنت؟ قلت: لست بحرورية؛ ولكني أسأل، قالت: كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة”.

تخريجه:

الرواية الأولى أخرجها الترمذي في سننه كتاب: الصوم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم،باب:ما جاء في قضاء الحائض الصيام دون الصلاة،  وقال:  “هذا حديث حسن”([15]).والرواية الثانية أخرجها مسلم في صحيحه، كتاب: الحيض، باب: وجوب قضاء الصوم ([16])، والنسائي في سننه كتاب: الصيام، باب:. وضع الصيام عن الحائض([17]).

بعض  مستفادات الحديث:

معنى هذا الحديث أن الحائض عليها قضاء الصوم بخلاف الصلاة التي لا تقضيها؛ قال النووي (676هـ): “أجمع المسلمون على أن الحائض والنفساء لاتجب عليهما الصلاة ولا الصوم في الحال، واجمعوا على أنه لايجب عليهما قضاء الصلاة، وأجمعوا على أنه يجب عليهما قضاء الصوم. قال العلماء: والفرق بينهما أن الصلاة كثيرة متكررة، فيشق قضاؤها، بخلاف الصوم فإنه يجب في السنة مرة واحدة”([18]).

الحديث الثالث:

عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: أتته امرأة فقالت. إن أمي ماتت وعليها صوم شهر رمضان، أفأقضيه عنها؟ قال: “أرأيتك لو كان عليها دين كنت تقضينه؟، قالت: نعم، قال: “فدين الله عز وجل أحق أن يقضى”.

تخريجه:

أخرجه بهذا اللفظ الإمام أحمد في مسنده،  وفيه تصريح بأن السؤال كان عن قضاء رمضان([19])، والحديث أصله في الصحيح ([20])بروايات مختلفة ففي رواية (صوم شهرين)، وفي رواية (صوم شهر) والسائل رجل، وفي رواية أن السائل امرأة،قال النووي (676هـ): “فلا تعارض بينهما”([21]). والظاهر أن السؤال تكرر، فمرة عن نذر، ومرة عن رمضان، والسائل مرة رجل، ومرة أخرى امرأة.

بعض  مستفادات الحديث:

قال النووي (676هـ): ” في الحديث جواز صوم الولي عن الميت.. وصحة القياس لقوله صلى الله عليه وسلم: (فدين الله أحق بالقضاء) وفيها: قضاء الدين عن الميت، وقد أجمعت الأمة عليه، ولا فرق أن يقضيه عنه وارث، أو غيره فيبرأ به بلا خلاف”([22]).

الحديث الرابع:

عن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما قالت: “أفطرنا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يوم غيم، ثم طلعت الشمس، قيل: لهشام فأمروا بالقضاء، قال: لا بد من قضاء” .

وقال معمر: سمعت هشاما لا أدري أقضوا أم لا؟

تخريجه:

أخرجه البخاري في صحيحه كتاب: الصوم، باب: إذا أفطر في رمضان ثم طلعت الشمس([23])، وأبو داود في كتاب: الصوم، باب: الفطر قبل غروب الشمس([24]).

بعض  مستفادات الحديث:

قال الحافظ ابن حجر (ت 852هـ) : “جزم هشام بالقضاء محمول على أنه استند فيه إلى دليل آخر ، وأما حديث أسماء فلا يحفظ فيه إثبات القضاء ولا نفيه”[25]).

وقال المباركفوري (ت 1414هـ) : ” فإنه ليس فيه إثبات قضاء الصوم ولا نفيه؛ وإنما رجح الجمهور إيجاب القضاء فيه، خلافًا لمجاهد، والحسن، وإسحاق، وأحمد في رواية، وابن خزيمة بأنه لو غم هلال رمضان فأصبحوا مفطرين، ثم تبين أن ذلك اليوم من رمضان فالقضاء واجب بالاتفاق”[26]).

 الخاتمة:

من خلال ما تقدم من هذه الأحاديث التي ذكرت أخلص إلى الآتي:

1-التيسير واليسر  في فريضة الصيام.

2-الرخصة والتوسعة في قضاء بعض أيام شهر رمضان التي أفطر فيها المسلم.

3-أن القضاء موسع في العام؛ لكن يصير في شهر شعبان مضيقا.

4-أن حق الزوج من العشرة مقدم على سائر الحقوق، ويستدل بحديث عائشة المتقدم، ووجوب أخذ إذن الزوج في أثناء قضاء الصيام.

5-جواز قضاء الصيام عن الميت.

6-قضاء الحائض للصيام بخلاف الصلاة التي لا تقضيها ؛ لأن العلماء فرقوا بينها في كون الصلاة كثيرة ومتكررة فيشق قضاؤها بخلاف الصوم.

والحمد لله رب العالمين.

 ***********************

هوامش المقال:

([1])  سورة البقرة من الآية: (286).

([2])  سورة الحج من الآية (78).

([3])  سورة البقرة الآية : (183).

([4])  سورة البقرة (183-184).

([5])  سورة البقرة (185).

([6])  سورة فصلت من الآية: (12).

([7])  سورة طه من الآية: (72).

([8])  معجم مقاييس اللغة (2/ 406) “مادة: قضي”.

([9])  شرح تنقيح الفصول (ص: 95).

([10])  صحيح البخاري (2 /45).برقم: (1950)   

([11])  صحيح مسلم (1 /508) برقم: (1146). 

([12])  صحيح مسلم (1 /509)برقم: (1146). 

([13])  شرح ابن بطال على صحيح البخاري (4 /79). 

([14])  إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري (4 /515). 

([15])  سنن الترمذي (2 /145-146) برقم: (787). 

([16])  صحيح مسلم (1 /163) برقم: (335). 

([17])  سنن النسائي (2 /191) . 

([18])  صحيح مسلم بشرح النووي (2/ 262). 

([19])  مسند أحمد (3 /439) برقم: (3420). 

([20])  صحيح مسلم (1 /509-510) تحت الأرقام الآتية (1147) و(1148)، و (1149).

([21])  صحيح مسلم بشرح النووي (4/ 282). 

([22])  صحيح مسلم بشرح النووي (4/ 282). 

([23])  صحيح مسلم بشرح النووي (4 /282). 

([24])  سنن أبي داود (ص: 378) برقم: (2359). 

([25])  فتح الباري (5/ 253). 

([26])  مرعاة المفاتيح (9 /282). 

**************************

لائحة المراجع والمصادر المعتمدة:

إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري. لأحمد بن محمد الشافعي القسطلاني. ضبطه وصححه: محمد عبد العزيز الخالدي.  دار الكتب العلمية بيروت. 2016مـ

الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه. لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، قام بشرحه وتصحيحه وتحقيقه: محب الدين الخطيب، رقم كتبه وأبوابه وأحاديثه: محمد فؤاد عبد الباقي، وقام بإخراجه وأشرف على طبعه: قصي محب الدين الخطيب، المطبعة السلفية القاهرة، ط1 /1400هـ.

الجامع الكبير. لأبي عيسى محمد بن عيسى الترمذي. حققه وخرج أحاديثه وعلق عليه: د بشار عواد معروف. دار الغرب الإسلامي. ط1/ 1996مــ

سنن أبي داود. لسليمان بن الأشعث السجستاني. ضبطه: محمد عبد العزيز الخالدي. دار الكتب العلمية بيروت. 2019.

سنن النسائي بشرح الحافظ جلال الدين السيوطي. دار الكتب العلمية بيروت لبنان. 1995مـ.

شرح ابن بطال على صحيح البخاري. لعلي بن خلف بن عبد الملك ابن بطال. حققه وخرج أحاديثه: مصطفى عبد القادر عطا. دار الكتب العلمية بيروت. 2015مـ.

شرح تنقيح الفصول في اختصار المحصول في الأصول. لشهاب الدين أحمد بن إدريس القرافي. قدم له وعلق عليه: أحمد فريد المزيدي. دار الكتب العلمية بيروت. 2007مـ

صحيح مسلم بشرح النووي. حققه وخرجه وفهرسه: عصام الصبابطي- حازم محمد- عماد عامر. دار الحديث القاهرة. (ج2 )ط4 /1422هـ- 2001مـ.، (ج4) ط1 /1415هـ- 1994مـ..

صحيح مسلم. وفي طليعته: غاية الابتهاج لمقتفي أسانيد كتاب مسلم بن الحجاج لمحمد بن محمد مرتضى الزبيدي.دار طيبة. الرياض. ط1/ 1427هـ-2006مـ..

فتح الباري شرح صحيح البخاري. لأحمد بن علي بن محمد ابن حجر العسقلاني. رقم كتبها وأبوابها وأحاديثها: عبد العزيز بن عبد الله بن باز- محمد فؤاد عبد الباقي. دار الكتب العلمية بيروت. 2011مـ

مرعاة المفاتيح. لعبيد الله بن محمد بن عبد السلام المباركفوري. إدارة البحوث العلمية الجامعة الإسلامية بنارس الهند. (د.ت).

المسند لأحمد بن حنبل. شرحه وصنع فهارسه: حمزة أحمد الزين. دار الحديث القاهرة. ط1/ 1416هـ- 1995مـ. 

معجم مقاييس اللغة. لأحمد بن فارس بن زكريا الرازي. وضع حواشيه: إبراهيم شمس الدين. دار الكتب العلمية بيروت. 2011مـ.

*راجع المقال الباحث: محمد إليولو

Science

دة. خديجة أبوري

  • أستاذة باحثة مؤهلة بمركز ابن القطان للدراسات والأبحاث في الحديث الشريف والسيرة العطرة بالعرائش، التابع للرابطة المحمدية للعلماء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق